الاثنين، أكتوبر 19، 2015

نحو مؤتمر فكري لمعالجة قضايا الحراك الشعبي العربي


نحو مؤتمر فكري لمعالجة قضايا الحراك الشعبي العربي

قراءة منهجية في تعريف المصطلحات ذات العلاقة


مقدمة تمهيدية:

أكثر ما شدَّ انتباهي في ملاحقة المواقف من الحراك الشعبي العربي منهجان يسلكهما الكتَّاب المهتمون بالكتابة عنه، وهما:

-المنهج الأول: الدعوة إلى الارتقاء من تشخيص الحراك الدائر استناداً إلى المظاهر الخبرية إلى دراسته بعمق على أسس فكرية.

-المنهج الثاني: حوار المتاريس المتقابلة كبديل لحوار الأبواب المفتوحة بين كُتَّاب الصف الواحد، وهو منهج انخرط فيه بعض الكُتَّاب بمباراة إعلامية خبرية تكيل التهم جزافاً بحق البعض الآخر بناء على موقف من خبر تفصيلي من هنا، أو موقف مرحلي لذلك الخبر من هناك.

في الظاهرة الأولى ما يثير الاهتمام والقبول لأنه لا يجوز أن يمر مثل هذا الزلزال الذي يلف الوطن العربي من دون اكتراث من المفكرين العرب، أقول العرب، الذين عليهم تقع مسؤولية تحديد مسارات هذا الحراك الكبير بالفعل وتصويب اتجاهاتها. وإذا غاب فعل التوجيه لسبب أو لآخر، فيمكن الإسناد بالرأي واللسان، وإذا غاب فبوضع الرؤية النظرية وهو أضعف الإيمان. ولكن القصور في هذا المنهج هو أنه يعيب على المبادرين في الكتابة عن الحراك أن يستبقوا الأحداث، وكأنه يطلب منهم التريث إلى أن تتم عقد حلقات دراسية من قبل المفكرين من أجل الوصول إلى مواقف فكرية عميقة؛ وكأننا بهم يريدون إيقاف الكتابة من قبل بعضهم الآخر إلى حين تنعقد الحلقات الدراسية أو المؤتمرات الفكرية، وهذا الطلب يكون سليماً فيما لو كان هناك أفق واضح لعقد مثل تلك الحلقات أو المؤتمرات.

أما في الظاهرة الثانية ففيها ما يثير الاستهجان والتساؤل، وهو عامل العتب الذي يمرره، البعض من العرب الصادقين بعروبتهم، أو التهجم من بعض المتعصبين لآرائهم، على من يبدون رأياً مخالفاً في تشخيص الوقائع وتفسيرها واتخاذ مواقف لا تتطابق بالكامل مع مواقف العاتبين أو المتهجمين. وهذا عادة ما تعود أسبابه إلى نقص في قراءة المواقف المعروضة للنقد، بحيث تكون القراءة مجتزأة عن سياقها وهي شبيهة بالقول الشائع (لاتقربوا الصلاة)، أو أنها تتلاقى مع رأي هذه الجهة أو تلك من القوى المناهضة للحراك، أو من الأنظمة التي يدور الحراك ضدها.

إن سلوك هذين المنهجين سيبقى من دون فائدة، لأنه سيبقى صرخة في الفراغ، ولكنه يتحول إلى ظاهرة إيجابية إذا ما دعا جميع الحريصين على الوصول إلى نتائج مثمرة من أجل عقد مؤتمر فكري على المستوى العربي. ونحسب نحن أنه ليس من الصعب القيام بمبادرات قطرية لعقد مثل هذه المؤتمرات، على أن يتم تتويجها بعقد مؤتمر على الصعيد القومي العربي ينكب على دراسة نتائج المؤتمرات القطرية ويعمل على توحيد الرؤية على قاعدة تحديد النقاط المُجمع عليها، وكذلك تحديد النقاط التي تحتمل أكثر من اجتهاد من أجل متابعتها ودراستها بعمق فيما بعد، على أن تكون النقاط على نوعيها إحدى مهمات المؤتمر القومي. وتبقى كذلك حتى موعد الوصول إلى نتائج تكون أقرب إلى التأكيد. أي أن يعتبر المعنيون بالدعوة أنفسهم في حالة انعقاد دائم لمواكبة ما لم يتم الإجماع عليه في بعض جوانب تلك القضايا حتى يحددوا المواقف الأكثر وضوحاً والأقل غموضاً، أي أن تستمر الحلقات الدراسية لمواكبة كل جديد فتضخُّ ما توصلت إليه مما يفيد النظر بموضوعية إلى فصول هذا الزلزال الهائل.

ولكل ذلك، وإسهاماً منا في الإعداد لمثل تلك الحلقات، انتظاراً لحصولها، سنتقدم الآن ولاحقاً بما نحسب أنه يسهم في التحضير لمنهجية تصوِّب نقطة البداية في الإعداد لها أولاً، وفي الإضاءة على طرائق الدراسة والمناقشة للوصول إلى نتائج تشكل الحد الأدنى من إجماع المنخرطين فيها ثانياً.

وتنفيذاً لذلك سنبدأ بتشخيص بعض جوانب الإشكاليات التي تعيق توصُّل من يكتبون عن الحراك الشعبي إلى حدود أعلى من التوافق حول نتائج ما يدور في الأقطار العربية الملتهبة. وسنبدأ أولاً بتوصيف أسباب اندلاع الحراك وتوصيف الواقع الذي وصل إليه، وتلك نعتبرها من أولويات مهمات التقييم الذي إذا عجزنا عن تحديده بوضوح سنختلف لاحقاً، كما هو حاصل الآن، حول وضع الحلول النظرية. وهنا لا بُدَّ من طرح أسئلة علينا أن نجيب عنها بعقل جماعي مبني على ثوابتنا القومية بعيداً عن التعصب والمواقف المسبقة.

وأما الأسئلة، التي نراها بديهية، فهي التالية:

1-هل الحراك المستمر منذ أكثر من أربع سنوات ذو طبيعة داخلية، أي هل أسبابه داخلية تنحصر بين الشعب والأنظمة؟ فإذا كانت داخلية فعلينا أن نسمي الأشياء بأسمائها من حيث النظر إلى التركيبة التنظيمية للقوى المنخرطة فيه وتوصيف ما يلي:

أ-عرض برامجها السياسية ومنطلقاتها الأيديولوجية وأهدافها من تغيير الأنظمة.

بـ-تشخيص وسائلها في التغيير.

جـ-تشخيص النتائج التي حصلت عليها.

2-هل الحراك ذاته ظلَّ نقيَّاً كبداياته؟ أم أن هناك مؤامرة موجَّهة من خارج تدخَّلت من أجل توجيهه إلى مسارات بعيدة عن مصالح الجماهير؟ فإذا كانت تلك هي الحقيقة فعلينا أن نسمي الأشياء بأسمائها من حيث النظر إلى ما يلي:

أ-القوى الخارجية المنخرطة فيه وتحديد أدوارها، واستعراض منطلقاتها الأيديولوجية وأهدافها من استغلال الحراك الجماهيري.

بـ-تشخيص وسائلها التي تستخدمها في سبيل الوصول إلى أهدافها. وإذا كانت لها قواعد إسناد داخلي فنجد من المفيد جداً أن نقوم بتحديد أسماء قوى الإسناد الداخلي للتدخل الخارجي.

جـ-نقد تلك القواعد، حركات وأشخاص، منهاجاً سياسياً، وأسلوباً حراكياً، ويأتي الكشف عن شرعية أو لا شرعية استنادها إلى الخارج.

ولكي لا تقع الأحزاب والحركات والأشخاص في متاهات تجمِّد جهدها في مشاركات فئوية تتحصن وراء مواقفها من دون حوار مع الآخر، سننقل بإيجاز نتائج تجارب تاريخية مرَّت بها أكثرية الأحزاب والحركات. لنا، حول ذلك، أنموذجاً في تاريخنا المعاصر ما يمكننا دراسته والاستفادة من نتائجه، وليس أكثر وضوحاً من تجربة القضية الفلسطينية. وهنا ندعو من منطلق قومي لدراستها وليس من أفق قطري.

 

لماذا كانت فلسطين قضية العرب المركزية؟

كانت فلسطين، منذ سقوطها في قبضة الصهيونية العالمية، قضية العرب المركزية لأنها كانت الرمز الأول كونها ضحية المخططات الاستيطانية التآمرية، التي ما وُجدت إلاَّ لكي تصبح المثال الواضح لما ستؤول إليه أوضاع الأقطار العربية الأخرى، فيما لو تمكنت الصهيونية العالمية من النجاح في تشديد القبضة عليها وإنهائها لمصلحة تلك الحركة.

وأما لأن الحركة الصهيونية لم تتمكن من هضم الخطوة الأولى من الاحتلال، فلأن الحركة العربية الثورية ارتقت بنضالها القطري إلى مستوى الأهداف القومية العربية، أي اعتبار قضية فلسطين قضية العرب المركزية، حيث كان الدفاع عنها بهدف تحريرها من الاحتلال الصهيوني مهمة قومية عربية، وقد جمع هذا الهدف عدداً من الأنظمة الرسمية والأحزاب والحركات القومية في صف واحد، واعتبرته هدفاً استراتيجياً لا تنازل عنه.

وإن كان الهدف المركزي قد جمع تلك القوى إلاَّ أن صفوفها لتنفيذه لم تكن موحَّدة، بل كانت تناصب كل منها العداء للحركة الأخرى. وبهذا كانت الشعارات موحدَّة بينما طرائق الوصول لتحقيقها كانت مشوبة بالصراعات الجانبية. تلك الصراعات بين القوى التقدمية التي وُصفت في حينها بأنها كانت أشد مرارة من الصراعات التي كانت تجري بين ما اصطُلح على تسميته بالقوى الرجعية والقوى التقدمية. وبها نعتبر أن قوى الاستعمار والصهيونية كانت موحَّدة الأهداف وموحَّدة بطرائق التنفيذ بينما كانت القوى المناهضة للاستعمار والصهيونية ممزَّقة الصفوف، بحيث تغلَّبت العصبيات الإيديولوجية الفئوية على عوامل الوحدة في صفوفها.

تلك التجربة تطرح نفسها من جديد في مرحلة ما بعد انطلاقة الحراك الشعبي العربي، بحيث نقرأ بوضوح وجود افتراقات بين تلك القوى حول توصيف هذا الحراك والموقف منه وتقييم نتائجه. ومن يتابع فصول الاختلاف سيكتشف من دون عناء أن أكثر الخلافات تجري بين أبناء الصف السياسي والفكري القومي. وهنا لا بُدَّ من التنويه أن الخلاف في الرأي ضرورة وحاجة لإغناء المواقف وتعميقها، ولكن الخلل في ذلك الخلاف إنما يصب في دائرة الخنادق المغلَقة، وليس في دوائر التكامل والتنسيق وتبادل الآراء والمعلومات على قاعدة نصب طاولات دراسية هادفة.

 

وبعد أن كانت الوحيدة، لماذا أصبحت فلسطين إحدى قضايا العرب المركزية؟

في الوقت الذي حسبت فيه القوى المتآمرة على فلسطين أن الجو خلا لها بعد احتلال العراق ظلَّ الخطاب العربي السائد يعتبر أن فلسطين ما تزال القضية العربية المركزية من دون الالتفات إلى المتغيرات التي حصلت على صعيد موازين القوى وذلك بإضعاف صف المواجهة والمقاومة بعد أن عطَّل الاستعمار والصهيونية مفاعيل الثقل العراقي الذي كان ما يزال، حتى احتلال العراق، يعتبر أن فلسطين احتُلَّت كخطوة أولى على طريق استراتيجية اجتثاث الفكر القومي، ومن أهم أهداف الاجتثاث كان الحؤول دون قيام الوحدة العربية، لأن قيامها يحول دون الهيمنة الاستعمارية على مقدرات الأمة الاستراتيجية، جغرافياً واقتصادياً.

وباحتلال العراق يكون مخطط الاستعمار والصهيونية قد اجتث الحصن الأخير المدافع عن عروبة الوطن العربي وفي القلب منها القضية الفلسطينية. ونحسب أن قضية فلسطين لن تعود إلى واجهة الاهتمام الثوري العربي من دون تحرير العراق. وبغير ذلك ستبقى فلسطين سلعة يتم تفصيل مصيرها على طاولة المتضررين من قيام وحدة عربية. ولذا أصبح العراق قضية العرب الأولى لأنه من دون تحريره لن تقوم لأي جهد عربي قائمة تصب في مجرى تحرير فلسطين. ولهذا ومن أجل بلوغ هذا الهدف من قبل العرب الصادقين بأهدافهم القومية عليهم أن يضعوا نصب أعينهم أن قضية العراق الآن أصبحت بمثابة القضية المركزية لهم.

من كل ذلك نعتبر أن فهم ما يجري في قضية قطرية بمعزل عن فهم ما يجري في قضية قطرية أخرى يصب في المجرى الخطأ، وخوفاً من أن تقع الأحزاب والحركات والشخصيات القومية الاتجاه في مطبات تحليل ما يجري على قواعد قطرية جئنا لنسهم بدورنا من أجل تقريب المسافات بين تلك القوى أولاً، ومن أجل خروجها من مطبات التسويف والانتظار للقيام بالحوار ثانياً.

ومن مساوئ البط في تحرير مواقفنا من الجمود الذي يلف الحركة الفكرية العربية أن القوى المعادية لأهداف الأمة لن يتركونا جميعاً نلتقط أنفاسنا، بل يجعلوننا ننسى قضية فلسطين في غمرة الاهتمام بقضية العراق، والآن يعملون على إرغامنا على نسيان قضية العراق بإغراقنا في بحور أكثر من قضية عربية فأشعلوا النار أينما كان.

لقد تناسينا قضية فلسطين عندما أغرقونا بقضية العراق، وتناسينا قضية العراق عندما دفعوا بنا للغرق في قضايا تونس ومصر وليبيا وسورية واليمن والسودان، والحبل على جرار القضايا الأخرى. وهكذا يعملون على إغراقنا في قضية جديدة لكي ننسى ما سبقها من قضايا أخرى. وهنا نتساءل: لماذا يركِّز الإعلام المعادي على قضية المهاجرين بعد أن كانوا السبب الرئيسي في توليدها وخلقها؟

يحصل كل ذلك، بينما نغرق نحن في ردود فعل، ننساق وراء الحدث الجديد بردود فعل جديدة، فتضيع أمامنا كل القضايا التي سبقتها لتبقى في ذاكرتنا فقط ردة الفعل الأخيرة. وإن الأشدَّ إيلاماً أن يتلهى البعض بخبر جديد فيحصرون اهتمامهم به من دون التعالي عنه إلى دراسة القضايا بعناوينها الكبرى. وأعتقد أن هذا التشويش مقصود ومنظَّم نفسياً من قبل خبراء النفس والاجتماع في الإعلام المعادي، وذلك بإثارة سحب الدخان ليحجبوا الرؤية عن الأسباب الأساسية والمخططات الأم التي يعملون على تنفيذها. وإذا كان الأفراد أكثر من يعلقون بهذا الفخ في متابعة الأحداث لأسباب ثقافية ذاتية وموضوعية، يصبح من المؤلم حقاً أن تنصب القوى ذات الأهداف القومية المتاريس المقفلة ضد بعضها بدلاً من سياسة الأبواب المفتوحة للحوار والتكامل بالرؤى والمواقف.

وإننا، إسهاماً منا، انتظاراً لتحقيق حلم بسط طاولات الحوار والدراسات المعمَّقة، سنقوم من جانبنا بنقد بعض الأخطاء التي يقع فيها عدد من الكُتَّاب والمفكرين، تلك الأخطاء التي نعتبرها من الأخطاء الشائعة التي تساق في غالب الأحيان جزافاً، وفي بعضها تساق من زاوية جزئية أو مرحلية من دون النظر إليها من زوايا أخرى. ولأن حركة الحوار لن تكون موضوعية إذا لم تكن المصطلحات واضحة ومتفق عليها، جئت شخصياً بالعمل على حصر أهمها في محاولة لوضع تعريفات لها تصلح، حتى يثبت العكس، لأن تكون نقطة بداية منهجية لأسس الحوار الذي ننتظره بفارغ الصبر، والذي نحث عليه الأحزاب والحركات والقوى والشخصيات القومية. ومن أهم المصطلحات التي نقترح الحوار حولها، والتي نحضُّ للتوافق على تعريف مصطلحاتها، وهي التالية:

 

بين حوار المتاريس المتقابلة وحوار الأبواب المفتوحة مساحة من الاتهامات العشوائية:

وحتى لو كانت بعض الأقلام تستخدم في خطابها النقدي لمن يخالفها الرأي والموقف لغة العتاب، وهو نقد مهذَّب بلا شك، إلاَّ أنه إذا لم يُترجَم إلى حوار مستمر حول النقاط الخلافية، يعني هذا أيضاً أن العتاب سيؤسس إلى ولادة المتاريس المتقابلة. أي أن العتاب من بعيد إلى بعيد، إذا ما استمر فإنه لا بُدَّ من أنه يشكل احتقاناً سيتراكم مع مرحلة انتظار فتح أبواب الحوار والتكامل بالرؤى والمواقف. وبها ستتعمق الهوة بدلاً من ردمها شيئاً فشيئاً، وإنني إذا ما استمر الحال على هذا المنوال، أرى أننا مقبلون على استئناف مرحلة كانت فيها الحروب الكلامية والصراعات الجانبية بين التقدميين، في الخمسينيات والستينيات، أشد إيلاماً من صراعاتها مع القوى المعادية. ولكل ذلك، أختصر ما أحسب أنها أخطاء شائعة بالعناوين التالية:

 

-أولاً: الدفاع عن وحدة القطر العربي الواحد ليس دفاعاً عن الأنظمة:

من إمكانية التمييز بين ثنائيتين: (المواجهة بين الشعب والأنظمة)، (والمواجهة بين الأنظمة الرسمية والخارج)، مساحة كبرى من التمايز في تعريف المصطلحات.

ففي الثنائية الأولى مواجهة بين شعب مقهور سياسياً واقتصادياً ونظام قاهر لا يمكن لعاقل أو وطني إلاَّ أن ينحاز إلى جانب الشعب. ولكن على أن تبقى وسائل الصراع وأدواته داخلية سلمية، والامتناع عن طلب يد العون من أية جهة خارجية كانت تحت أي ذريعة أو مبرر كان. والعكس من ذلك يتحول الحق بالتعاون مع الأجنبي، كخيانة وطنية، إلى حق ديموقراطي معادل للحق بالإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي. 

وفي الثنائية الثانية دفاع عن وحدة الدولة أرضاً وشعباً. وفي هذه الثنائية أولوية مطلقة يقف فيها الشعب بكل فئاته وتلويناته الدينية والطبقية إلى جانب النظام الحاكم من أجل الدفاع عن وحدة الدولة من دون النظر إلى لونه الطبقي أو شكله الديني أو طعمه الديكتاتوري.

وحيث إن واقع حال الحراك الشعبي الآن أصبح بعيداً عن بداياته الأولى، سيما أن كل قوى الثورة المضادة احتلت مواقعه وصادرته واستولت على شعاراته وأخذت تطلق النار باسمه في كل الاتجاهات، ويأتي الخارج مع كل أدواته المحلية ليحتل موقع القرار فيه، وتحوَّل الحراك إلى فوضى عارمة وحروب أهلية، شارك فيها النظام وكذلك القوى المضادة، يدفعنا إلى التساؤلات التالية: هل بقي الحراك الشعبي نظيفاً طاهراً؟ وهل بقي الحراك بعيداً عن تأثير الخارج؟ وهل يجيز واقع الحراك في صورته الحالية إلقاء كل الجرائم برقبة النظام وحده؟ وهل يجوز إغفال دور الخارج؟ وهل لم ينتقل الحراك من صورته الشعبية النقية، أي من ثنائية الصراع بين (النظام والشعب) إلى ثنائية الصراع بين (الدولة والخارج)؟

 

ثانياً: التمييز بين التبرير على قاعدة نظرية المؤامرة وتشخيص الواقع على قاعدة المؤامرة الفعلية:

لقد دأبت الأنظمة الرسمية في مواجهة المعارضة الشعبية في الداخل، وتبريراً لممارساتها القمعية، كانت تعتمد على الترويج لنظرية المؤامرة، وهي ذريعة واهية تُسوِّغ فيها الأنظمة لنفسها باستخدام كل أنواع الجرائم بحق المعارضة.

واستناداً إلى ذلك، وتبريراً لمواقفهم في تفسير أسباب الحراك ودوافعه ونتائجه، دأب بعض الكُتَّاب رداً على مخالفيهم الموقف والرأي، على إضعاف حجج المخالفين باتهامهم بالاعتماد على نظرية المؤامرة فيساوون دوافعهم بدوافع الأنظمة الرسمية. وهذا خطأ يقع فيه متعصب لرأيه وموقفه، إذ كيف يساوى دوافع من لا يقف مع الأنظمة مع من يقف إلى جانبها ويدافع عنها، وهم بهذا يتوهون عن المقاصد الحقيقية لدوافع أصحاب الرأي الآخر.

إن أصحاب الرأي الآخر باستنادهم إلى (نظرية المؤامرة) يستندون إلى وجود مؤامرة فعلية، كما هو حاصل في معظم زوايا الحراك الشعبي العربي. وإنه باستثناء حراكين اثنين: الحراك الفلسطيني والحراك العراقي، بالإضافة إلى الحراكات الأخرى التي أعلنت سلمية وسائلها، هما حراكان ثوريان مقاومان لفعل احتلالي تعرضت له بلديهما، فإن معظم الحراكات الشعبية في الأقطار العربية قد سُرقت ولم يبق فيها من الشعبية الثورية شيئاً يمكن الرهان عليه. وإن أصحاب الرأي الآخر عندما يقرُّون بوجود مؤامرة فلأن مشروع الشرق الأوسط الجديد حقيقة تاريخية أولاً، وقد أُعلن عنها من قبل من هم وراءه ثانياً، ووقائع تنفيذه على الأرض تؤكد وجوده ثالثاً. وهذا يقودنا إلى الكلام عنه في الفقرة التالية.

 

ثالثاً: إغفال عامل مشروع الشرق الأوسط الجديد في الحراك العربي يقود إلى استنتاجات خاطئة:

نحن هنا لا نقول أن أسباب الحراك محصورة بهذا المشروع، بل نعني أن شعارات الحراك، وهي شعارات حقَّة، كانت بمثابة حصان طروادة الذي تسلل منه صانعو المشروع إلى قلب الحراك، وقد نجحوا في ذلك أينما نجاح. وعلى الرغم من كل ذلك يُصر البعض على الدفاع عن مشروعية الحراك بنفس المقدار الذي كان من الواجب الدفاع عنه في مراحله الأولى. ولكن بعد أن انكشف الغطاء عن سرقته لكان من الواجب تعريته واتخاذ موقف منه.

لقد جمَّد أصحاب الموقف مواقفهم على عتبة غرفة الولادة الأولى للحراك، الأمر الذي يعمل المتآمرون براحة واطمئنان رامين بكل أوساخ ما يفعلونه في رقبة الأنظمة الرسمية. وإن الأمرَّ من كل ذلك حينما ينبري البعض إلى العتب على القوى الخارجية، خاصة الغربية منها، لسبب أنها تقصِّر في دعم من تزعم أنهم معارضة معتدلة أو نصف معتدلة أو ربع معتدلة.

إن عدم الاعتراف بوجود مؤامرة تُسمَّى (مشروع الشرق الأوسط الجديد) يُبقي توصيف الحراك قاصراً عن الإلمام بشتى جوانب الحراك الذي تحول إلى كل المواصفات باستثناء أنه مطابق لمواصفات الحراك الشعبي. وفي هذا المجال، وإذا كان التدخل الخارجي، تحت مظلة مشروع الشرق الأوسط الجديد، غائماً في بداية الحراك، وحينئذِ كان مجازاً بناء المواقف على قاعدة الثنائية (الشعب النظام)، ولما بانت معالم مؤامرة مشروع الشرق الأوسط الجديد واضحة ظلَّت بعض القوى والشخصيات تبني مواقفها مما يحدث وكأن ثنائية (النظام المؤامرة) غائبة كعامل من عوامل التأثير.

ولذا من الضروري أن تلجأ الأحزاب والقوى والشخصيات، التي تختار الحوار طريقاً، إلى إيلاء أهمية لهذا المشروع كعامل له تأثير بالغ الأهمية في الحراك العربي، الذي بالاعتراف بوجوده أو إنكار هذا الوجود يترتب الكثير من نتائج التحليل التي تنعكس على جوهر المبادئ التي تُصاغ عليها المواقف. وباختصار هناك ضرورة في بحث هذا الجانب، والوصول إلى اعتباره عاملاً تآمرياً موجوداً، أم اعتباره مجرد نظرية للمؤامرة تُستخدم لتغطية المواقف.

 

رابعاً: التركيز على أخطاء الأنظمة لا يجيز إغفال جرائم التدخل الخارجي:

واستطراداً نلاحظ أن هناك من جملة الأوساخ التي يرتكبها أولياء الشأن في مشروع الشرق الأوسط الجديد، ويهمهم أن تُلقى على عاتق الأنظمة الرسمية، والهدف هو تبرئة أنفسهم من تلك الجرائم. ومن المحزن أن يقع فريسة لها إعلام ينتمي إلى الحركة العربية الثورية، وتأتي مسألتان مهمتان تؤديان الغرض عن حسن نية في خدمة الإعلام المعادي، وهما:

 

-تحميل الأنظمة الرسمية مسؤولية التدخل الخارجي:

 تجزم بعض المواقف على أنه لو استجابت الأنظمة الرسمية للمطالب الشعبية ولم تقمعها بالقوة لما توسَّع النزاع في الداخل، ولكان قد توقَّف!!

وتستطرد هذه المواقف لتجزم أيضاً بأن الأنظمة كانت السبب في انكشاف وطني سهَّل  للخارج أن يتدخَّل في الشؤون الداخلية، وفي هذا إعفاء للخارج من مسؤوليته الشائنة عن مصادرة إرادة الشعوب في اختيار أنظمتها وحقها بتقرير مصيرها. وهذا يعني، فيما يعني أن القوى الخارجية كأنها من صنف الملائكة التي لم تخطط ولم تنفِّذ ولم تكن تقصد أن تتدخل في الشؤون الداخلية للدول. فبمثل المنهج الذي تُبنى عليه المواقف أعلاه، أي تحميل الأنظمة مسؤولية استدراج الخارج للتدخل أو خلق مبررات لتدخله إعفاء للقوى المعادية فعلاً من مسؤولية التخطيط للمؤامرات والعمل على تنفيذها.

إنه في تلك الأسباب والأخطاء التي يقع فيها الإعلام القومي عن غير قصد ما يبرر للخارج ويغطي على دوره وجرائمه ويضع وزرها في رقاب الأنظمة. ولكن إذا كانت الأنظمة مدانة فيما فعلت، وهي مُدانة فعلاً، إلاَّ أن هذا لا يجيز التعتيم على أهداف القوى الخارجية وأفعالها، تلك القوى التي بوسعها أن تختلق ذرائع أخرى من أجل تنفيذ مخططاتها حتى لو لم يقع النظام بالأخطاء التي وقع بها، أو حتى لو كان النظام من صنف الملائكة. وهنا لا يجوز أن نتناسى ما فعلته قوى الاستعمار والصهيونية في العراق، وهو النظام الذي لم يترك لهم سبباً يتلطون تحت خيمته. وعلى الرغم من ذلك فقد اختلقوا تهماً أثبتت الوقائع كذبها فيما بعد.

-خطأ تغطية سماوات جرائم الاستعمار بقبوات جرائم الديكتاتورية.

من جملة الأخطاء الشائعة التي يقع فيها الإعلام القومي هي ما له علاقة بقضايا اللجوء المحزنة والأليمة التي تنال من الشعب العربي حيثما تستعر المعارك والحروب الأهلية.

والأمثلة على ذلك، أنه في معرض التعبير عن ألمها وسخطها لموجات التهجير، التي يعاني منها الملايين من العرب في داخل بلدانهم أو خارجها، دأب بعض الكتَّاب الوطنيين على تحميل الأنظمة وزر هذه الجريمة. ومع أننا نحسب بأن الأنظمة مهما كانت شديدة في غلوها وديكتاتوريتها فإن مصلحتها تقتضي أن لا تقوم بتشريد الشعب الذي تحكمه. وإذا كان استمرار المعارك العسكرية سبباً في التهجير فإنما النظام هو أحد طرفيْ الصراع العسكري، فالموضوعية تقتضي تحميل المسؤولية للطرفين معاً. والخطأ هنا، في حصر تحميل المسؤولية بالنظام الرسمي، لهو تجهيل لدور الأطراف الأخرى. كما فيه مصلحة إعلامية لتلك الأطراف. ونحسب هنا أن الموضوعية والمصلحة القومية معاً يقضيان بالإضاءة على دور المشروع التآمري الذي يقوم بتنفيذه من له مصلحة في حفر عوامل الفرقة والتفتيت بين مكونات الشعب المختلفة.

 

-الموازنة بين مبدأية الحراك وحسابات نتائجه:

إن المبدأية في تأييد الحراك الشعبي تستند إلى نتائج التغيير الإيجابية للحراك. لذا فمن من أولى البديهيات أن تكون النتائج على مقدار التضحيات. ولكن إذا كانت نتائج الحراك إلحاق المزيد من الخسائر في حقوق الشعب يعني الاستمرار به يكون استمراراً عبثياً ويجب إيقافه.

وإذا كان هذا من البديهيات فيجب على القوى التي تقود التحرك إلى مراجعة وسائلها واستبدالها بما هو أجدى وأنفع وأكثر إنتاجاً إيجابياً. فكيف يكون أمر النتائج الآن بعد سرقة الحراك ومصادرته لمصالح القوى التي تستهدف مصير الدولة كلها، نظاماً وشعباً وأرضاً؟

فالموازنة بين مبدئية الحراك الشعبي وحسابات النتائج علاقة وثيقة، لا تجيز منطق (إسقاط النظام) من دون حسابات كيف يكون البديل؟

وأخيراً، أرجو أن يكون هذا المقال بداية لانطلاقة حوارية بين من نرى أنهم من الصادقين في دعوتهم لتأسيس البنى النظرية والفكرية لما يحصل الآن على أرض الوطن العربي. ولا نستثني من قرار بداية الخطوة الأولى على طريق الألف ميل الحوارات الثنائية لعلَّها تؤسس لتنفيذ حلمنا في بسط طاولات الدراسات المعمَّقة التي ستضع ورش العمل فيها نتائج أعمالها بين أيدي أصحاب القرار على المستوى القومي.

ليست هناك تعليقات: