ما
معنى أن نستمر بالنضال إذا أقفلنا أبواب الأمل؟
بين الاعتراف
بتعقيد قضية واستعصائها على الحل، وفتح الأبواب أمام استنباط حلول لها مهما كانت
عصية، تتراءى فسحة الأمل في نهاية النفق أمام المناضلين من أجلها. ومن دونها تُقفل
الأبواب في وجه المؤمنين بها، فيلوذون نحو الاستكانة للأمر الواقع والإذعان له.
راودتني أفكار
المقدمة بعد أن قرأت الكثير حول تعقيد الوضع العربي الراهن وجنوح الكثير من
الكُتَّاب والمحللين نحو التنبؤ باستحالة وصول الزلزال الذي يتأجج تحت أقدام العرب
إلى مرحلة السكون. وإذا كان هناك ما يُنبئ في الاستقراء الاستراتيجي بتلك الفسحة
من الأمل، فقلما تجد أحداً منهم من يتخيل أن الأمة العربية سوف تنجو من كارثة
الزوال والاضمحلال.
فهل فعلاً ليس في
الواقع الراهن الأليم والمدمِّر من بريق أمل يلوح في أفق النضال العربي؟
وهل في واقع النضال
العربي الراهن، على الرغم من وهنه، ما ينبئ بإمكانية أن يتابع خطى التغيير من تبقى
من الذين يناضلون على قلتهم؟
فعلاً، كما ورد في
المقدمة، نُقرُّ بأن القضية القومية قد بلغت سقفاً عالياً من التعقيد. وتضاربت حول
مستقبل الأمة الآراء وتباينت المواقف، واستسلم البعض للواقع، وراح البعض الآخر
يستنبط من المجهول بعض الحلول ليعيد زراعة الأمل في النفوس اليائسة، ووقف البعض
الثالث حائراً إلى أي جهة يميل وكأنه يستغيث من وطأة المشكلة وتعقيداتها. وما تلك
الأشكال من المواقف سوى مظهر طبيعي يصوِّر حالة الناس الذين يقبعون في قلب أتون من
الجمر يطلبون النجاة منه، ويلتمسون الخلاص منه.
من أجل تحديد
الانحياز إلى موقف مع هذا أو ذاك، لا بُدَّ لنا من تحديد بعض العوامل التي تسهم في
تصويب الاتجاهات وتنقذ المستسلمين للأمر الواقع من لُجَة يأسهم الذي دفعهم
للاستسلام، كما نحسب أنها تساعد الحائرين على تغليب الموقف السليم لإنقاذهم من
حيرتهم، وتساعد من يعمل على استنباط الحلول على تثبيت مواقفهم. ولذلك نحسب أن هناك
عاملان أساسيان، وهما:
-غاية الاستعمار الهيمنة على الوطن العربي على طريقة
تجزئة الهيمنة على كل قطر بمفرده. فهو قد وحَّد
الغاية وقام بتجزئة الوسيلة من أجل تذليل عقبة المواجهة الشاملة لمخططاته. لذلك
يجب النظر في المرحلة الراهنة إلى ما يجري في كل قطر عربي من زاوية قومية من دون
الغرق بالنظرة القطرية.
-وعي الشعب العربي لحقوقه هي القاعدة النظرية التي تؤسس
لمواجهة دائمة مع الاستعمار. وإن هذا الوعي كفيل
بالتأسيس لإرادة المقاومة، وإرادة المقاومة كفيلة بالتأسيس لإعداد الوسائل
المناسبة لمواجهة الاستعمار. لكن إرادة الاستعمار ليست قدراً محتوماً، وليست قوته
المادية مهما بلغت ستوفر له الفرص لتحقيق أهدافه. وهنا نعتبر أن أهدافه تتنافى مع
الحقوق المشروعة للأمة العربية لأنها تتنافى مع المبادئ الأساسية لشرعة حقوق
الإنسان. وطالما الأمر كذلك فإن الشعب العربي لن يبقى مضللاً إلى الأبد، ولن يبقى
مخدوعاً إلى الأبد أيضاً طالما ظلَّت المسألة القومية حيَّة في خطاب القوى القومية
الصادقة بانتمائها إلى الأمة العربية. ويأتي في طليعة تلك القوى تلك التيارات التي
اتخذت لنفسها خيار المقاومة بدءاً من اعتناق الفكر القومي واستمرار التبشير به
وصولاً إلى خيارها في المقاومة العسكرية.
من هذا العامل أو
ذاك، وحين نعالج قضية هذا القطر أو ذاك يتوجب استخدام مصطلح القضية القومية،
والتقنين بمصطلحات القضايا القطرية إلاَّ حيثما توجد خصوصيات، لأن المستهدَف
بالزلزال الحاصل كامل الكيان العربي، وليس المستهدف كل قطر بمفرده. فالمقصود من
تجزئة القضية القومية إلى قضايا قطرية ليس أكثر من التعتيم على شمولية المؤامرة،
للدفع بكل مجتمع قطري لكي يلوذ بسلامته من دون ربط تعقيد قضيته القطرية بالقضايا
القومية الأخرى.
وللتبسيط أكثر، لما
احتُلَّ العراق، فقد صوَّر الغزاة الأميركيون أنهم قاموا باحتلاله من أجل إسقاط
الديكتاتورية فيه. ولما غزوا ليبيا أوهمنا الغزاة أن الغزو كان أيضاً من أجل إسقاط
الديكتاتورية فيها. ولما قرروا غزو سورية أشاعوا أنهم يريدون إسقاط الديكتاتورية
من أجل عيون الديموقراطية. وهم يغزون بطرق أخرى أقطاراً عربية أخرى تحت الذرائع
ذاتها. وهكذا تتوالى عمليات الإعلام المعادي على هذا النسق يعلنون أهدافاً ويبطنون
أهدافاً أخرى.
وأما الهدف من
تجزئة القضايا فهو:
-تجزئة النضال القومي وذلك بفرض القوقعة القطرية من خلال
جعل كل مجتمع قطري يتلهى بقضيته، مما يدفعه إلى تجاهل القضايا القطرية الأخرى.
-هدف نفسي يحفر بالتدريج حالة الإحباط في نفوس المناضلين
في كل قطر عندما يجدون أنفسهم من دون مؤيد أو مهتم من أبناء العروبة.
فمن التجزئة
النضالية إلى الإحباط النفسي، يعمل التحالف الدولي والإقليمي على بذر استراتيجية
إعلامية معادية تعمل على تشويه صورة القضية القومية، وتطويق المناضلين القوميين بإقفال
أبواب النجاة أمامهم لإحباطهم وتيئيسهم ودفعهم إلى الاستكانة والخنوع لكثرة ما
يواجهونه من قضايا قطرية معقَّدة.
فالهدف إذن من
تجزئة القضايا القطرية أصبحت، من هذا المنظار، وسيلة لتجزئة النضال القومي
وإضعافه، وهذا هدف استراتيجي للمؤامرة التي يتم تنفيذها بوضوح وتصميم لافتين.
وعن ذلك، لو كانت
قوى التحرر العربي قد أخذت ذلك بعين الاعتبار لما أصبحت القضية العراقية كـ(الأيتام
على مائدة اللئام). ولما كانت القضية الليبية لتمر مرور الكرام أمام أنظار تلك
القوى. ولما كانت مواقف تلك القوى تتناقض حول القضية السورية، وبالتالي تتشرذم حول
اتخاذ موقف موحَّد من القضية اليمنية.
فما جرى في العراق
كان بداية تؤسس لما جرى في ليبيا وفي سورية وفي اليمن، وفيما سيجري في أقطار عربية
أخرى لاحقاً، كان الغائب الأكبر عن أنظار قوى التحرر العربي التي أغمضت عينيها
وأقفلت أذنيها أمام ما أعلنه جورج بوش الإبن من على متن حاملة الطائرات الأمريكية
(أبراهام لينكولن) في الأول من أيار 2003، في ذلك الوقت أعلن البدء بتفيذ المؤامرة
قائلاً: «لقد أمَّنا حماية أصدقائنا، ومن العراق سنعيد رسم خارطة المنطقة».
إن هذا التصريح يؤكد ما ذهبنا إليه من أن ما
يجري في الأقطار العربية هو مخطط شامل، يوجب النظر إليها بمناظير عدة، ومن أهمها:
-النظر
إلى أن احتلال العراق وإسقاط نظامه الوطني يشكل البداية في تنفيذ
مؤامرة الشرق الأوسط الجديد ضد الوطن العربي.
-النظر
إلى ما يجري في الأقطار العربية الأخرى كحزمة واحدة، أي أن ما يجري في قطر
عربي ما ستنعكس سلباً أو إيجاباً على ما يجري في الأقطار الأخرى. وكلما كانت
المواقف متقاربة ستشكل عامل قوة في مواجهتهم للمشروع التآمري الأم.
-النظر
إلى أن المشروع يتم تنفيذه بشعارات مغلَّفة بألوان جميلة خادعة، وليس
هناك أكثر جذباً للقلوب من شعار إسقاط الديكتاتورية وإحلال الديموقراطية.
واستدلالاً على ذلك أشارت التقارير الصحفية،
بتاريخ 12/4/2003، إلى أن خبراء الاستراتيجيا الأميركيين أعلنوا أن تغيير النظام
في بغداد ينبغي أن يفسح لعملية «اعادة ترتيب» في هذه المنطقة، تمزج
ما بين إحلال الديموقراطية والتحديث الاجتماعي.
وتحت خيمة هذا الشعار ذبحت أميركا وحلفاؤها
الشعب العراقي، والشعب الليبي، والشعب السوري. كما أنه جاهز لاستخدامه لاحقاً في
أقطار عربية أخرى تنتظر قطار التغيير المزيَّف.
في نتائج النظر العامة:
بعد احتلال العراق، وُضع المشروع الأميركي قيد
التنفيذ، وتأخر تنفيذه إلى العام 2011 بعد أن أعطبت المقاومة العراقية عجلات
دباباته، وكبَّلت حركة جنوده وأثخنتهم بالجراح والموت، وأرغمتهم صاغرين إلى
الانسحاب من العراق.
وإن ما يُلفت النظر هو أنه بعد أن ضمنت أميركا
حياة حنودها بسحبهم من العراق، استأنفت تطبيق مشروعها، ووضعته قيد التنفيذ، الذي ابتدأ من تونس، ومرَّ بمصر، مستغلة تحالفاتها مع حركة الإخوان
المسلمين كملوِّن طائفي وصل إلى الحكم فيهما من جانب، وحركة ولاية الفقيه الذي
وكَّلته بالهيمنة على العراق كملوِّن طائفي مناقض من جانب آخر.
لقد أثار البدء
بالتنفيذ شهية أنظمة الإقليم الرسمية، وكان النظام الإيراني في المقدمة منها الذي
اعتبر أن في المشروع الأميركي ما يتطابق مع مشروعه في تصدير الثورة من جهة، ولأنه
كان يتحكم في مفاصل العملية السياسية في العراق من جهة أخرى. وكان الأمر بالنسبة
له فرصة تاريخية لن تتكرر مرة أخرى. وبالفعل فقد تصاعدت حركته وحصل على نتائج
باهرة في أربع دول عربية بسنوات قليلة لم يكن يحلم بتحقيقها بعشرات السنين.
إن التحالف الرئيسي
بين أميركا وإيران من جهة، وحركة الإخوان المسلمين من جهة أخرى، بالإضافة إلى
عشرات الدول، شكَّل مشهداً شديد التعقيد، إذ تكاثر الطباخون على موائد ما سمُّوه
بـ(الربيع العربي). وأمام هذا المشهد المعقَّد ضاع المحللون في تشخيص أسباب ما
يجري وفي استشراف نتائجه، السبب الذي كاد القوميون العرب يفقدون الأمل في استعادة
المبادرة لإنقاذ الوطن العربي من التفتيت إلى دويلات طائفية، كما أكدت ذلك وقائع هيمنة
التنظيمات المذهبية، على هذه الأجزاء أو تلك من خرائط ذلك القطر أو ذاك. ولكن...
إذا فُقِد الأمل
بطل العمل:
مهما بلغت درجة
التعقيد في قضية ما، كقضية الوطن العربي في المرحلة الراهنة، بسبب تكاثر عوامل
التدخل الخارجي فيها، فإن على من آمن بعدالة قضيته أن لا يُصاب باليأس، لأنه عند
ذاك يكون جزء أساسي من المؤامرة قد نجح، لأن إحباط إرادة المناضلين يشكل العمود
الفقري للمؤامرة. فعلى المناضل اليائس، الهارب من الموت خوفاً من مواجهة قضية
معقَّدة، أن يعي أنه لو نجحت المؤامرة يعني أنه مقتول لا محالة، وأما إذا بقي
الأمل حياً في نفسه فاحتمال نجاته من الموت هو الأرجح. فالبديل عن الإحباط واليأس
على المناضلين أن يستنبطوا في تحليلهم للواقع أكبر ما يمكن من مساحات الأمل. ذلك
الاستنباط لن يتم الوصول إليه من فراغ أو من سراب، بل من استشراف المستقبل على أسس
موضوعية، وسنذكر بعضها، وهي:
-أن يؤمن المناضلون بمشروعية القضية التي يافعون عنها، وأن يؤمنوا بحقهم في مقاومة المشاريع المعادية.
-أن لا يُرْهَبوا من كثرة أعدائهم، لأن هؤلاء يخشون من دفع خسائر فادحة من جراء عدوانهم إذا جُوبهوا
بالمقاومة، فسيلوذون ساعتئذ بالفرار كوسيلة للنجاة، كما أكدت تجربة المقاومة
الوطنية العراقية.
-المراهنة على تناقض أهداف الأطراف المشاركة في
المؤامرة، إذ أنه لما كانت كثرة المتداخلين في سياق المؤامرة توحي
بقوتهم، فلا يعني أبداً أن أهدافهم ومواقفهم على غاية من التطابق، لأنهم يتلاقون
في هدف ويتناقضون بأهداف أخرى. والدراسة المعمَّقة لخريطة تناقضاتهم ضرورة لوضع
خطة للاستفادة منها في الوقت المناسب.
-المراهنة على حصول متغيرات في مواقف أطراف دولية وعربية،
حينذاك يصبح من كان خصماً بالأمس صديقاً في
المستقبل.
وأخيراً، يمكن للأحزاب
والقوى المقصودة بهذا الموضوع أن تبتكر استناداً إلى رؤاها الاستراتيجية القومية وسائل
تخفف من عتمة الظلام مهما كان مدلهماً، لأن البديل هو الاستكانة والخضوع، بما
فيهما من مقتل لها كمقدمة لمقتل القضايا التي تناضل من أجلها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق