من
مأساة التهجير الفلسطيني إلى مأساة التهجير العربي
حتى
لا نغطي سماوات جرائم الاستعمار بقبوات جرائم الديكتاتورية
قبل البدء في كتابة
هذا المقال، أود الإشارة إلى أن الدافع الرئيسي من كتابته كان لتصحيح أخطاء تقع بها
بعض الأوساط الإعلامية ممن نحترمها ونجلها، وهي ربط مأساة التهجير العربي التي
نشاهدها في هذه المرحلة بالموقف من الأنظمة الديكتاتورية. وحتى لا نعطي صكاً
بالبراءة للمتآمرين الحقيقيين على القومية العربية، وخاصة إعلام مشروع الشرق
الأوسط الجديد، ونعفيهم من مسؤولية التسبب الفعلي بمأساة التهجير الجماعي، ويتم
ذلك عن غير قصد بعض من نحترم عندما يردون أسباب المأساة ويضعونها في رقاب أنظمة
يمكنها أن ترتكب جرائم كثيرة باستثناء جريمة تهجير الشعب الذي تحكمه. فهي إما أن
تقمعه، وحتى تقتله، ولكنها لن تقدم على تهجيره واقتلاعه من أرضه.
ومن ناحية أخرى،
وحتى لا يحسب أحد أن نظام (العملية السياسية في العراق) مشمولة بملاحظتي أن يستدرك
هذا البعض ولا يخرج عن قصدي الحقيقي فأنا أصنِّف ذلك النظام كجزء من جوقة
المتآمرين الذين يعملون على تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد. وهو إذ مارس سياسة
الإقصاء والتهجير والاعتقال والقتل للعراقيين الوطنيين منذ اليوم الأول للاحتلال
الأميركي، فهو ما يزال ضالعاً في هذه المؤامرة لأنه لا تهمه وحدة أرض العراق
وشعبه. بل وجد من أجل تفتيت العراق أرضاً وشعباً.
حتى لا تكون مأساة
التهجير العربي اقتلاع من الوطن من أجل اقتلاع الوطن، كما حصل في مأساة اقتلاع
الشعب الفلسطيني، وهو ما تعمل له كل الدوائر الطامعة بتمزيق الأمة غربية أكانت أم
شرقية، كان لا بد من الإضاءة بمنظار مختلف على مشاهد المسلسلات التلفزيونية التي
تؤشر على عمق المأساة القومية، تلك المسلسلات التي تعرضها وسائل الإعلام في شتى
بقاع العالم، لتنقل إلينا مشاهد الإهانات والإذلال التي يتعرض لها المهاجرون – المهجَّرون العرب إلى
الدول الأوروبية.
من خلال ما قمنا
برصده من مواقف صادرة حول تحميل مسؤوليات ما يحصل، من منطلق حسن النية أو سوئها،
وجدنا أنها تندرج في مسلكين:
-أولها يقوم بتحميل
الأنظمة الديكتاتورية وزر ارتكاب جريمة التهجير.
-والآخر ينظر إليها بمنظار
من يُحمِّل المسؤولية للأنظمة العربية ويدعوها لتحمل واجباتها في إيواء المهاجرين
واحتضانهم بعاطفة الانتماء القومي.
وكأنهم بذلك
يختزلون مأساة الوطن المهدد بالتفتيت، ويتناسونها ويحسبون أن العلاج سيكون بإيواء
المهجَّرين وتوفير لقمة الغذاء لهم. ولم نجد سوى القليل ممن يلقي بالمسؤولية على
أكتاف مخطط الترانسفير الجماعي المرسوم للشعب العربي من قبل القوى الضالعة بتنفيذ
مخطط الشرق الأوسط الجديد.
وبين هذا الموقف
وذاك ضاعت ثلاثة أرباع الحقيقة، والوقائع التي تؤكد أن من يتحمل فعلاً جريمة
التهجير، هي تلك الدوائر المعادية التي اقتنصت فرصة الحراك الشعبي العربي من أجل
تمرير مخططاتها تحت دخان شعارات حقة، وانحرفت بتلك الشعارات إلى ما تريد تنفيذه من
باطل، وهذا الأمر يؤدي إلى إبعاد جريمتها عن الأنظار. ولأن الحراك ابتدأ بشعارات
إسقاط الأنظمة الديكتاتورية وتحول الحراك الشعبي بإرادة من تلك القوى إلى حراك
فوضوي فحروب أهلية وطائفية وعرقية، ظلَّت في أذهان من ألقى بوزر جريمة التهجير في
رقاب الأنظمة الديكتاتورية صورة المشهد الأول من دون أن يلتفت إلى الانحرافات التي
طرأت على تلك الصورة. وهكذا يتم تجهيل
سماوات الفاعل الحقيقي وتتم تغطيته بقبوات الفاعل الذي أريد له أن يكون مسؤولاً
عنها.
وكي لا نقع في خطأ
الموقف الذي أصبح منتشراً كـ(خطأ شائع)، كان لا بد من تظهير بعض الأسباب التي
علينا أن نعرضها ليس دفاعاً عن الأنظمة الديكتاتورية كما قد يتبادر إلى أذهان
البعض، ولكن من أجل أن لا ينجو المجرم الحقيقي من وزر فعلته.
أن يكون في الوقت
الذي على كل عربي صادق أن يكشف اللثام عن الحقيقة كاملة مما يساعد على النظر
بموضوعية إلى مأساة جريمة التهجير الجماعي للعرب من أوطانهم هرباً من الموت في ظل
الفوضى العارمة التي يعيشها أكثر من قطر عربي منذ أكثر من أربع سنوات. وأما
الحقيقة فهي أن القوى المعادية للقومية العربية ما تزال تلهينا عن العمل على تعرية
دورها في نشر الحروب الأهلية والطائفية والعرقية وتغذيتها بالوقود من أجل تفريغ
هذا القطر أو ذاك من أبنائه بهدف توطين البدائل لتغيير الهوية الوطنية إلى هوية استيطانية.
وهذا شبيه بما يحصل في العراق على أيدي النظام الإيراني، كتقليد لما فعلته
الصهيونية مع الشعب الفلسطيني، حينما ارتكبت استراتيجية التهجير الجماعي
للفلسطينيين من أجل توطين اليهود الآتين من كل أنحاء العالم.
وعلى غرار ما كان
سائداً في مرحلة التهجير الجماعي للفلسطينيين في العام 1948، كانت شريحة من
اليساريين العرب تحمل مسؤولية تهجيرهم للرجعية العربية، وتعفي الصهاينة ومؤيديهم
من تبعة تلك الجريمة تحت أسباب واهية، وهي أنه لما كان الفلسطينيون يعانون من تخلف
الأنظمة العربية السياسية، أو من رجعية زعمائهم، كما روَّج فعلاً أولئك اليساريون،
وصلوا إلى نتيجة رفعوا شعاراً يقول على أن اليهود سيأتون بالديموقراطية لتنقذ
الفلسطينيين من تخلف تلك الأنظمة، أو من رجعية زعمائهم.
وبمثل هذا الإخراج
الإعلامي اليساري، الذي ثبت فعلاً أنه كان موقفاً سياسياً أحمقاً، حُمِّلت الأنظمة
الرجعية والقيادات الفلسطينية، التي اتهموها بالبورجوازية، وزر جريمة التهجير
الجماعي للشعب الفلسطيني، بينما نجت الصهيونية من تلك التهمة. ولذا ما يثير
مخاوفنا الآن من التجهيل الذي يعمل الإعلام المعادي عليه هو إلقاء تهمة التهجير
على أنظمة يمكنها أن ترتكب كل الجرائم باستثناء جريمة التهجير. أليس هذا تغطية، عن
حسن نية أو سوئها، على جريمة لا يمكن أن يرتكبها إلاَّ مستعمر يريد تفريغ الأوطان
من سكانها ليبتلع الأوطان بالكامل؟
لقد أعفت بعض الحركات
اليسارية، حينذاك، الصهيونية من الجريمة، وغطت سماوات جريمتها بتهجير الفلسطينيين
وغطتها بقبوات التخلف العربي، وخاصة بقبوات الرجعية. ونحن نخشى اليوم، أن يسلك
البعض، ممن لا نشك بنواياه الحسنة، ذلك الخطأ بحسن نية، فيقع في فخ الخداع
الإعلامي الذي تمارسه القوى الضالعة بمخطط التهجير الجماعي للشعب العربي لأغراض لم
تعد خافية على أحد. ولكي تنفي المسؤولية عن نفسها، يهمها أن يضع الإعلام وزر جريمة
التهجير بـ(رقاب الأنظمة الديكتاتورية).
وكي لا ينتهي بنا
المطاف بارتكاب خطأ مماثل، كان لا بُدَّ من بعض التفصيل، ولكن على قاعدة أن
الأنظمة الديكتاتورية يمكنها أن ترتكب كل أنواع الجرائم باستثناء ارتكابها جريمة
التهجير القسري للشعوب التي تحكمها.
في تاريخ
الديكتاتوريات الحديثة لم يُسجِّل ذلك التاريخ أنها كانت تسمح بخسارة أي جزء من أراضي
الدولة التي تحكمها، أو أن تفرِّط بجزء من الشعب الذي تحكمه، بل كانت حريصة على أن
تحكم أرضاً أوسع وشعباً أكثر. ولنفترض أن ذلك السلوك لم يكن مبنياً على حس وطني أو
قومي أو طبقي، بل نفترض أنه من المهم للديكتاتور أن يحكم أوسع قطعة من الأرض،
وأكبر حشد من الشعب.
وإذا انتقلنا إلى
تاريخ الأنظمة الديكتاتورية العربية بعد إنشاء النظام القطري العربي، على مقاييس
اتفاقية سايكس بيكو، لم يسجل تاريخها أنها فرَّطت بجزء من أرضها أو من شعبها، بل
كانت حريصة على المحافظة عليها كاملة. وهذا لا يعني أنها حكمت الأرض والشعب بعدالة
ومساواة، أو أنها سمحت للشعب أن يمارس حقوقه الديموقراطية. كما لا يعني ذلك أيضاً أن
ديكتاتوريتها كانت تسمح بإمكانية تفريطها بجزء من الشعب الذي تحكمه أو بقطعة من
الأرض الوطنية.
ولأن صورة التهجير
العربي المأساوي، خاصة صورة تهجير العراقيين والسوريين في المرحلة الراهنة، برزت
على أعلى درجات المأساة الإنسانية والإذلال الإنساني، تعود أسبابها الحقيقية إلى
الإيديولوجية الاستعمارية التي كانت من أهم الأدوات التي استخدمتها الدول
المتواطئة في إذلال الشعب العربي لدفعه قسراً للقبول بتقسيم الأقطار العربية. وما
كان التهجير الذي يلحق بالشعبين العراقي والسوري إلاَّ من أجل اجتثاث الشعور
القومي من نفوسهم خاصة وقد أثبتت مسارات التاريخ المعاصر أن النبتة الأولى للشعور
القومي والدعوة إلى الوحدة القومية كانت قد انطلقت من على تلك الأرض، والتي احتضنت
أولى التجارب الوحدوية في التاريخ المعاصر. ولهذا كانت الدولتان اللتان نبتت على
أرضهما الدعوات القومية وشعاراتها الدعوة للوحدة العربية محط أنظار المخططات الاستعمارية
– الصهيونية من أجل ضرب
وحدتيهما أرضاً وشعباً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق