المقاومة الوطنية العراقية
(معركة الحسم ضد الفرسنة)
(الحلقة السادسة)
(6/ 7)
حسن خليل غريب
ثالثاً: المرحلة
الثالثة:
الانتقال من
الحراك السلمي إلى الثورة الشعبية المسلحة
(منذ أوائل العام
2014 - 2015)
ولأنها
المرحلة الأخيرة في منهج التحرير الكامل للعراق، فسنقسمها إلى ثلاث خطوات، وهي:
-الخطوة
الأولى: توفير أرضية الانطلاقة في الأنبار، أكثر
المناطق العراقية احتضاناً شعبياً:
-الخطوة
الثانية: تحرير الموصل.
-الخطوة
الثالثة: تحرير بغداد. وتحرير بغداد خطوة رئيسية لتحرير
الجنوب.
-الخطوة
الأولى: تحرير الأنبار الخطوة الأولى على طريق تحرير العراق
1-المقاومة العراقية تواجه قمع حكومة المالكي
بالقوة المسلحة:
منذ أن انطلقت انتفاضات المحافظات الست، في
العام 2013، ترافقت معها حملة واسعة من أكاذيب حكومة المالكي بإسناد واسع من
الإعلام الأميركي – الإيراني، وذلك بالترويج لخطورة (داعش)، ومن أهم أهدافها
تصوير المشهد العراقي وكأنه مواجهة بين (حكومة شرعية) و(إرهاب غير شرعي).
وبعد انقضاء عام على تلك الانطلاقة، وبعد
استمرارها وصمود الشعب العراقي بشكل لافت، يبدو أنها وضعت حكومة الاحتلال المركَّب
في وضع حرج. وبعد زيارتين متعاقبتين للمالكي إلى كل من واشنطن وطهران وُضِع أمام
أمر واقع خُيِّر فيه بين أن يقمع الانتفاضات في المحافظات الست وبين وضعه خارج أي
مسؤولية في الحكومة. وبين هذين الخيارين كان لا بدَّ له من أن يستمر في استخدام
القمع، ولكن هذه المرة أن يرفع وتيرته بزجِّ كل القوى العسكرية التي جنَّدها
للمهمات القذرة، خاصة أن واشنطن وعدته بتوفير كل الأسلحة النوعية التي تساعده على
تنفيذ مخططه، وأن طهران وعدته بتوفير كل خبراتها وقواتها المختصة بقمع المظاهرات
والاعتصامات على طريقة حرب الشوارع.
ولهذا بدأ المالكي بتنفيذ مهمته في أواخر شهر
كانون الأول من العام 2013. وحينذاك أطلق رئيس حكومة الاحتلال حملته باتجاه مدينة
الرمادي تحت وابل من الأكاذيب والخُدع مسنوداً بسيل هائل من وسائل الإعلام المأجورة.
وعلى تلك القاعدة بدأ المالكي حملته الإعلامية
بأنه سيعمل على فضِّ الاعتصامات لأنها أصبحت تحت سيطرة الجماعات الإرهابية. ولهذا
بدأ الحملة العسكرية، بواسطة (فرق الموت القذرة) مثل: قوات (سوات) والميليشيات
الطائفية، وفرق الاغتيالات، وقوات النخبة الإيرانية...
كانت أهداف الهجوم على الأنبار اجتثات مقاومة
الشعب العراقي، وأما التقارير فقد برهنت على أن ما يجري ليس معركة بين حكومة
المالكي وبين الإرهابيين، ومنهم (داعش)، بل هي معركة بين طرفين:
-طرفها الأول (إرهاب المالكي) بمن يمثله ومن
يدعم إرهابه من داخل العراق وخارجه.
-وطرفها الثاني الشعب العراقي مستنداً إلى
المقاومة العسكرية المسلحة.
وفي مواجهة الحملة العسكرية، لا بد من التذكير
بأن المقاومة أعلنت، منذ الأيام الأولى لبدء الاعتصامات، أنها ستتولى حماية الجماهير
العراقية المعتصمة إذا ما تعرضت لأي نوع من أنواع القمع. وليس من الغريب أن تفي
المقاومة بوعدها عندما حاولت قوات المالكي، قوات المهمات القذرة، أن تنفذ تهديداته.
فما إن دخلت تلك القوات إلى مدينة الرمادي حتى كانت قوات المقاومة، التي شكَّلها
أبناء العشائر العراقية، بالمرصاد. وبها انطلقت الشرارة الأولى للمعركة ضد جحافل الحكومة
الطائفية، فوجدت صداها في الفلوجة البطلة، وهكذا انتشرت المواجهات في شتى أنحاء
المحافظات الستة. وفي أثنائها سيطر جيش أبناء العشائر على مدن بكاملها، أو على
أجزاء كبيرة من تلك المدن. وكانت تلك المعارك إيذاناً ببدء الثور ة المسلحة لتحرير
العراق.
لقد كانت
تقارير المقاومة العراقية تؤكد أن المعارك بين قوات فلول الاحتلال والمقاومة
العراقية لم تكن محصورة في الرمادي والفلوجة وسامراء، بل وصلت حتى الموصل في
الشمال، وهي تغطي ساحات المدن الكبرى في المحافظات الستة. وكانت تتمدَّد باتجاه المناطق
المحيطة ببغداد، وتنعكس تأثيراتها الإيجابية على عدد من المناطق التي تقع جنوب
بغداد. وفي هذا الصدد فإن المعارك وصلت إلى مقتربات العاصمة بغداد مثل المدائن
وابو غريب وعرب جبور وبابل ومناطق شمال بغداد وديالى وغيرها.
تلك الوقائع كلها إنما كانت تؤشر على أن الخطوة
الأولى للمقاومة العراقية بدأت مسيرتها، في مرحلة جديدة، لتحرير العراق من فلول
الاحتلال. وهي كما بدأت خطوة المقاومة الشعبية في العاشر من نيسان من العام 2003،
وألحقت الهزيمة بالاحتلال الأميركي، بدأت خطوتها الأولى في مسيرة استئناف معركة
تحرير العراق من فلول الاحتلال الأميركي، المدعوم سياسياً وأمنياً وعسكرياً من
النظام الإيراني. كما بدأت تحصد النصر تلو الآخر. وفي المقابل كان عملاء (العملية
السياسية)، وأسيادهم من الفرس، يحصدون الهزيمة تلو الهزيمة. وبهذا نعتبر أن المقاومة
الوطنية العراقية بدأت معركة الحسم ضد الفرسنة، فلماذا؟ وكيف؟
2-بدأت معركة الحسم ضد الفرسنة:
حيث إن الاحتلال الأميركي الأم قد أعلن هزيمته
وسحب الجزء الأكبر من قواته، ولم يبق منها أكثر من عشرات الآلاف، فإنه استند
لحماية مشروعه من الانهيار الكامل إلى قوتين رئيستين، وهما:
-الأولى: العملية السياسية التي كان يقودها نوري المالكي، وهو الذي مثَّل جامعاً مشتركاً بين المشروعين الأميركي
والإيراني، فحصل على تأييدهما، وحظي بكل أنواع المساعدة منهما معاً. ولذلك مثَّل
رأس حربة لأطماعهما في العراق.
-الثانية: الاحتلال الإيراني المقنَّع: إذ أنه على الرغم من عدم الإعلان عن وجود قوات إيرانية
بشكل رسمي على أرض العراق، فإنما وجود تلك القوات أمر واقع، إذ يرتدي جنود
الاحتلال الإيراني للعراق لباس الجيش الحكومي العراقي وأجهزته الأمنية الحكومية،
هذا بالإضافة إلى لباس الميليشيات العراقية المنفلتة.
واستناداً إلى ذلك نجد أن التناقض الرئيسي في
هذه المرحلة يكاد ينحصر بهما متحدين أكان الأمر أم منفصلين، هذا من دون أن نُغفل
أن الاحتلال الأميركي الأم ما يزال يقدِّم الدعم لهما معاً من دون أن يُقدِم على
دفع حياة أي جندي أميركي، وهذا ما يتناسب مع سياسة إدارة أوباما، أي أن تمارس
أميركا احتلال العراق بشكل غير مباشر مُتَّكِئة على عملائها وشركائها في احتلال
العراق.
وهنا، ولكي نزيل غشاوة انبهار بعض الحركات والقوى
السياسية بالنظام الإيراني، لا بُدَّ من وضع بعض المعادلات التي تكشف تلك الغشاوة،
فنقول: يُعتبر احتلال دولة ما لأراضي دولة أخرى اعتداءاً على القوانين والتشريعات
الدولية والأخلاقية والإنسانية والدينية. وهذا ينطبق على كل من يُسهِّل الطريق
أمام الاحتلال، أو يشاركه، أو حتى يسكت عنه. وهذا ما فعله النظام الإيراني في
العراق. أما وأنه قام بالتعاون مع الاحتلال الأميركي، وما يزال ضالعاً حتى الآن،
فهذا ما يؤكد أنه لا يعترف للشعب العراقي بحق تقرير المصير. وإن إصراره على مواقفه
بالبقاء في العراق بثقل سياسي وأمني كبير، وانخراطه ميدانياً في دعم حكومة المالكي،
يعني أن هذا الإصرار تأكيد على استراتيجية تصدير نظام (ولاية الفقيه) للخارج
بطرائق صدامية إيديولوجية وعسكرية وغيرها. وهو بمثل هذه الاستراتيجية تكون أهدافه
شبيهة تماماً بأهداف المشاريع الإمبراطورية التي تعمل على التوسع على حساب إرادات
الشعوب الأخرى وحدود دولها الجغرافية والسيادية ومصالحها الوطنية.
والحال كذلك، يصبح من حق الشعب العراقي أن
يقاومه بشتى الوسائل والسبل المتوفرة. وإن ثورته المسلحة التي ابتدأت، منذ بداية
العام 2014، لن تتوقف إلاَّ بتنظيف العراق من كل آثار الاحتلال الإيراني المقنَّع،
وإزالة كل آثار لعملائه المنضوين تحت خيمة (العملية السياسية).
3-الثورة
المسلَّحة تدخل ميادين التنظيم الثوري الممنهج
منذ أوائل العام 2014، تطورت الأوضاع بشكل
متسارع ولافت للنظر على صعيد أداء المقاومة العراقية، وترافقت مع تعتيم إعلامي على
حركتها من جهة، والعمل على تشويه صورتها من جهة أخرى.وبعد صدق وعد المقاومة بحماية
الانتفاضة ازداد منسوب أداء الإعلام المعادي أيضاً، فألصقت المؤسسات الإعلامية المعادية
بتلك الانتفاضة تهمة الإرهاب، فنسبتها إلى (داعش) و(القاعدة)، واتهمت قوى خارجية
بدعمها. وبلغ مستوى التضليل الإعلامي حداً كاد المشاهدون المتتبعون لأخبار العراق
يروجون لتلك التهمة بقصد أو بغيره. كما أخذت تلك المؤسسات تصوِّر حكومة الاحتلال
في العراق كأنها الضحية التي تتعرَّض للإرهاب. وهذا ما كاد يغطي على جرائمها وينفي
تهمة العمالة والقمع والخيانة عنها. وإذا كانت تلك إحدى الصور التي يعمل كل من
الاحتلالين الإيراني والأميركي لإلصاقها بالثوار العراقيين، فإنما المقاومة
بدورها، وضمن حدود إمكانياتها وإمكانيات الداعمين لها، قامت بمجموعة من الإجراءات
والقرارات التي أخذت طريقها للتنفيذ على الصعيدين العسكري والإعلامي والسياسي.
-فعلى الصعيد العسكري:
أعلنت قيادة المقاومة عن تشكيل (المجلس العسكري
العام)، الذي انضوت تحت لوائه عشرات المجالس العسكرية في كل المحافظات التي ترتبط
به وتتقيد بتعليماته. وشكَّلت المجالس العسكرية الفرعية إطاراً تنظيمياً يقود كل
مجلس منها حركة الثوار في منطقته الجغرافية. وبدوره شكل المجلس العسكري العام
المرجعية القطرية التي تنسِّق بين فعاليات المجالس العسكرية الفرعية. وهذا ما أشار
إليه المجلس العسكري العام في بيانه الأول، وجاء فيه مخاطباً الشعب العراقي
قائلاً: (أن أبناءكم في هذه المجالس قد بدأوا بالتواصل والتنسيق فيما بينهم منذ
اللحظات الأولى لانطلاق الثورة المباركة، ونبشركم بأن هذه الاتصالات بين المجالس
قد تتوجت هذا اليوم بالاتفاق على تشكيل مجلس عسكري موحد باسم ( المجلس العسكري
العام لثوار العراق ) الذي يضم كل المجالس العسكرية في محافظات العراق).
-وأما على الصعيد الإعلامي:
فقد
شكَّلت المقاومة (اللجان الاعلامية للدفاع عن العراق)، وحدَّدت أهدافها، كما جاء
في إعلان التشكيل، بما يلي: (بالنظر لتصاعد الهجمات الشرسة ضد شعب العراق ونضاله
العادل من أجل التحرر من الغزو الأمريكي والإيراني، وبروز حملات إعلامية تشوِّه
حقيقة الانتفاضة الوطنية العراقية وتتهمها بالإرهاب، فقد تقرر إنشاء اللجان
الإعلامية العالمية للدفاع عن العراق، في
الوطن العربي والعالم، لتقوم بفضح التآمر المتعدد الأطراف على العراق وشعبه وحريته
وتهديد مستقبله).وترجمة للقرار، فقد تأسست حوالي عشرين لجنة إعلامية فرعية، واتخذت
من الوسائل الألكترونية منبراً لها. ولشدة تأثيرها فقد لجأت القوى المعادية إلى
محاولة تعطيلها بأكثر من وسيلة.
-وأما على الصعيد السياسي:
فقد أعلنت المقاومة تشكيل (المجلس السياسي
العام لثوار العراق). وبه يكتمل الهيكل التنظيمي للثورة العراقية. وقد جاء في
بيانه الأول الذي أعلنه، بتاريخ 22/ 1/ 2014، ما يؤكد نهجه الديموقراطي، (وقد تم
عقد مؤتمر للمجالس العسكرية لثوار العشائر من أكثر من (٤٥) مجلساً عسكرياً موزعة
على جميع محافظات العراق من شماله إلى جنوبه وتم تكليف عدد من الخبراء الوطنيين
ورجال الدين وشيوخ القبائل والعشائر العراقية بمختلف أطيافها، وذلك لتحديد متطلبات
المرحلة الحالية في تثبيت أركان هذه الثورة المباركة).
وأعلن البيان أهم الأهداف من تأسيسه ولخَّصها
بالتالي:
-العمل على إسقاط الحكومة العميلة الطائفية
الفاسدة بكل الوسائل المشروعة.
-الحفاظ على الوحدة الوطنية لكافة مكونات الشعب
العراقي.
-ضمان عدم حدوث فراغ سياسي بعد إسقاط الحكومة
العميلة.
وبمثل هذا المشهد تكون الثورة العراقية المسلحة
قد أثبتت وعيها وقدرتها على التخطيط السليم، وحازت على شروط الثورة الفعلية، وذلك
بإعلان ثلاثية نجاح الثورات: وحدة الهدف ووضوحه. ووحدة القيادة ووعيها. ووحدة
الوسائل وتكاملها.
4- الثورة العراقية خطوات إلى
الأمام، و(العملية السياسية) خطوات إلى
الوراء:
وعلى
الأسس المذكورة أعلاه تكون الثورة العراقية المسلحة قد تميَّزت بحركية نوعية لافتة، إذ لم تدخل المقاومة العراقية
من البوابة العسكرية لإسقاط حكومة المالكي إلاَّ بعدما أنجزت قيادتها المرحلة
التمهيدية التي تضمن نجاحها، وأنجزت ما يتطلبه التمهيد من إعداد وتدريب وإمكانيات
وتهيئة شعبية وسياسية. وكانت التهيئة الشعبية من أهم تلك العوامل بحيث استهلك
إعدادها سنة من الزمن تصلَّبت فيها أعصاب الجماهير المنتفضة، وأثبتت صمودها في
مواجهة كل آلات ترهيب حكومة المالكي وترغيبه. وبذلك شكلت حاضنة شعبية للثورة
العراقية كعامل أساسي من عوامل نجاح الثورات. فالثورة لا تكتمل إلاَّ بخلق حاضنة
شعبية تشترك فيها كل أطياف الشعب العراقي وطوائفه وشرائحه الاجتماعية.
لقد كانت مرحلة الاعتصامات مرحلة إعداد نفسي لجماهير
المحافظات الستة اجتازتها الثورة بنجاح، خاصة عندما صمدت في مواجهة إجرام حكومة
المالكي التي كانت مجزرة الحويجة في العام 2013 من أهم مظاهرها. تلك المجزرة التي
كانت من أكثر مظاهر إرهاب حكومة المالكي إجراماً، لأنه كان يُخيَّل إليه أن
نتائجها ستزرع الرعب في نفوس خيم الاعتصامات الأخرى في المدن الأخرى، بعد أن تنتشر
صور مجزرة الحويجة الإجرامية.
لقد صمدت الحويجة على الرغم من بشاعة المجزرة، كما لم
تستطع تلك البشاعة أن ترهب المدن الأخرى. وربما راهن المالكي، بارتكابه تلك
المجزرة على كسر طوق الحاضنة الشعبية من حول المقاومة العراقية، لكنها زادت
الجماهير المنتفضة أينما كانت بوقود ثوري جديد، خاصة أن المقاومة أعلنت أنها ستقوم
بحماية الجماهير العراقية المنتفضة.
وعلى الرغم من إعلان المقاومة عن قرارها بالحماية، فقد
خُيِّل للمالكي أن ذلك الإعلان لن يكون أكثر من (فقاعة) لا تظهر على السطح إلاَّ
لكي تتبخر. فقام بتجربة أخرى، في أواخر العام 2013، لارتكاب مجزرة في الرمادي، على
قاعدة أن ترتجف قلوب الجماهير المنتفضة في المدن الأخرى، وما درى أن المقاومة
ستنفذ وعدها.
ونتيجة لهذا التطور، فقد برز للواجهة عاملان ثوريان
جديدان، وهما:
-الأول:
إصرار جماهير المحافظات الستة على الاستمرار في حركتها السلمية التي بدأت بها.
-الثاني: ظهور سلاح المقاومة بالفعل لمنع قوات المالكي من ارتكاب
مجزرة أخرى في الرمادي. وبذلك تكون المقاومة قد أوفت بوعدها بحماية (الحراك الشعبي
السلمي).
وبرزت مظاهر هذين العاملين في أواخر العام 2013، إذ ما
كادت القوات الحكومية تبدأ بتنفيذ مخططها الإجرامي في الرمادي، حتى كان سلاح
المقاومة لها بالمرصاد للدفاع عن الجماهير الشعبية المنتفضة. فوجدت معارك الرمادي
صداها في الفلوجة بسرعة البرق فانتصبت المتاريس وشُنَّت العمليات العسكرية ضد
القوات الحكومية. وراحت الأصداء تتوسع بانفجارات شعبية عسكرية في مدن أخرى وصلت
إلى مدينة الموصل مروراً بالمحافظات التي تفصل بينها وبين الأنبار. ولم تتوقف حالة الحراك الشعبي العسكري
عند حدود تلك المحافظات بل انتشرت حتى وصلت إلى عمق محافظة ديالى، بما تمثله من
مخاطر أمنية على الحدود الفاصلة بين العراق وإيران. كما وصلت إلى أبو غريب
والمدائن بما تمثله من خطوط حمراء تطال عمق العاصمة بغداد. هذا دون أن نغفل ما
تحققه حالة الغليان الثوري التي أخذت تظهر في بابل، وأهميتها أنها تمثل الطوق
الجغرافي الجنوبي الذي يلف العاصمة بغداد.
لا شك بأن فترة أشهر قليلة على انطلاقة الثورة الشعبية
المسلحة تُعتبر مسافة زمنية قصيرة وقياسية في عمر الثورات الشعبية. وإذا اعتبرنا
أن المعركة الأساسية ستكون ساحتها العاصمة العراقية، فيعني أن الثورة اخترقت حدود
المرحلة السلمية التي كانت منتشرة في شمال بغداد وغربها، فإذا بها تحقق نقلة
عسكرية نوعية فتنتقل إلى شرق بغداد انطلاقاً من ديالى، وإلى جنوبها انطلاقاً من
بابل.
لقد أنجزت المقاومة العراقية في تلك الفترة القصيرة
مجموعة من النقلات النوعية على الصعد: العسكرية، والشعبية، والسياسية والإعلامية،
داخل العراق، وأخذت تنتشر أخبارها إلى أن بدأت تؤثر في الرأي العام الدولي.
فهناك في المشهد العراقي عدة نقلات نوعية أخذت تبرز على
واجهة الأحداث، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن العمل المسلح هو الذي يخلق الظروف الأخرى
المساعدة للمقاومة، فسنبدأ بالكلام بإيجاز عن النقلة النوعية العسكرية:
أ-ماذا تعني النقلة العسكرية النوعية في خريطة انتشار
المقاومة جغرافياً؟
تعني بالمفهوم العسكري أن الهدف الأساسي من خطط المقاومة
العسكرية أنها تحقق هدفين مهمين، أحدهما تكتيكي، والآخر استراتيجي:
-وأما الهدف التكتيكي، فهو تقطيع أوصال انتشار الجيش الحكومي من
الموصل حتى بابل. وتبقى كل قطعة عسكرية مقطوعة الأوصال عن الأخرى، وهذا ما يحرمها
من ميزة التواصل والتنسيق في ما بينها، فتفقد عامل القرار العسكري الموحد، وهذا
يعني أن أفعى القوات الحكومية التي كانت متمددة بكامل حريتها وحركتها قد أصبحت
متقطعة الأوصال الأمر الذي يؤدي إلى إرباكها، وسهولة القضاء عليها.
-وأما الهدف الاستراتيجي، فيتحقق بتحرير العاصمة بغداد، بما تمثل
رأساً لأفعى (العملية السياسية). وما الهدف التكتيكي العسكري إلاَّ استئصال الرئة
العسكرية التي تتنفس منها حكومة المالكي. وكل ذلك يعني أن بغداد أصبحت معزولة إلى
حد كبير عن رئتها الأمنية والعسكرية في المحافظات التي يسيطر عليها الثوار، وهذا
سيمنعها من استقدام قوات من خارجها، وإن أرادت أن تفعلها بوسائل جوية فهي معرَّضة
لخطر دفاعات المقاومة الجوية، خاصة أن المقاومة أسقطت العديد من طائرات الجيش
الحكومي العامودية والحربية.
بـ-وأما النقلة التنظيمية للمقاومة فتمثلت بعاملين
رئيسين وثالث مساعد، وهي:
-تشكيل المجلس العسكري العام، وهو يمثل المركزية في القيادة
العسكرية، ويضم عشرات المجالس العسكرية التي تم الإعلان عنها في كل المحافظات
والمدن والعشائر.
-تشكيل المجلس السياسي العام، ومن أهم مهماته أن يملأ الفراغ الأمني
والسياسي الذي ستتركه عملية انهيار (العملية السياسية) بكل مؤسساتها السياسية
والإدارية والعسكرية والأمنية. وتأتي أهمية هذا المجلس من أنه يتشكل على قاعدة
جبهوية تحفظ مقعداً لكل من أسهم أو يسهم في تحرير العراق.
-وأما العامل الثالث المساند لهما، فهو العامل الإعلامي الذي يكمِّل
مهمات المجلسين السياسي والعسكري، ويساعدهما على إتمام مهماتهما سواء بكشف حقيقة
جرائم (العملية السياسية) أم كان بالإفصاح عن حقيقة أهداف الثورة الشعبية العراقية
ونشر أخبارها.
ومما لا شك فيه، وعلى الرغم من كل أنواع التعتيم
الإعلامي على الثورة، وعلى الرغم من محدوية الوسائل الإعلامية التي تمتلكها، فقد
أنجز التنظيم الإعلامي العديد من النجاحات سواء في داخل العراق أم على منابر الرأي
العام العربي والدولي، خاصة الدور المؤثر الذي تقوم به اللجان الإعلامية في الدول
الغربية. والدليل على ذلك التأثير يظهر من خلال أخبار الثورة التي بدأت تستأثر
باهتمام دولي.
جـ- النقلة النوعية على صعيد مواقف القوى الشعبية العراقية وحتى القوى
المشاركة في (العملية السياسية):
وإذا كنا نشاهد تصاعداً شعبياً في تأييد الثورة
العراقية، بل ومشاركة فيها، ففي المقابل نشهد انحساراً شعبياً عن تأييد حكومة
المالكي. والأكثر أهمية هو دخول (العملية السياسية) مرحلة التفكك ومرحلة الخلافات
داخل تياراتها وشخوصها.
فمنهم من فقد الأمل في أن تحقق تلك العملية أية إصلاحات
تساعدها على تمديد عمرها، فانسحب منها كما فعل مقتدى الصدر.
ومنهم من يراهن حتى الآن يائساً، ولا شك بأن هؤلاء لن
يطول بهم البقاء في دائرة مراهنات خاسرة، فهم إما سينتقلون إلى اتخاذ موقف شبيه
بموقف الصدر، أو أنهم سيحملون ما جمعوه من سرقات ليقضوا ما تبقى من عمرهم في
الخارج.
وأما على المستوى الشعبي، فنعتقد أن كل خطوة جديدة
ستنجزها الثورة الشعبية في المحافظات الثائرة ستجد صداها في المحافظات الأخرى.
د-النقلة النوعية المرتقبة على صعيد مواقف الدول من
الثورة العراقية
وهنا لا يفوتنا أن نعالج موضوع الموقف الدولي والعربي من
القضية العراقية، وما هي احتمالات دعم الثورة العراقية ومساندتها على صعيد
الاعتراف بها.
بداية نفهم أساساً أن هذا الدعم يستند إلى اعتبار حكومة
المالكي حكومة للاحتلال حتى ولو تم تجميلها بمساحيق ديموقراطية، وهذا الاعتبار
يؤدي إلى أن من يعترف بشرعة حق الشعوب بمقاومة الاحتلال، فعليه أن يعترف بشرعية حق
مقاومة من جاء مع الاحتلال. وحيث إن حكومة المالكي جاءت مع الاحتلال وتشكلت تحت
حمايته، فمقاومتها بشتى الوسائل حتى إسقاطها تعتبر مقاومة شرعية، وحقاً من حقوق
الشعب العراقي.
مرَّت عشر سنين من عمر الاحتلال، وتعاملت كل الدول مع
قضية احتلال العراق، ومع كل إفرازاته، كأمر واقع على الرغم من تناقضه مع شرعة
الضمير العالمي والإنساني. وكانت المصالح الاقتصادية السبب الذي دفع بتلك الدول
الى الاعتراف بـ (العملية السياسية) التي أسسها الاحتلال، وحكومة المالكي هي آخر
إفرازات تلك العملية.
وبناء على مفهومنا لهذا الواقع، أي ارتباط مواقف الدول
السياسية بمصالحها الاقتصادية، يدفعنا إلى التساؤل عما ستؤول إليه مواقف تلك الدول
تجاه القضية العراقية بعد أن تلتقط حاسةُ شم مخابراتها أن الثورة العراقية أصبحت
على شفا إسقاط الحكومة العميلة للاحتلال؟
وسواء من الدول الصامتة على ما يجري أو من تلك التي تقوم
بمساعدة حكومة المالكي بالدعم بالسلاح أو بالموقف السياسي، فإن ما نتوقعه هو أن
تحصل متغيرات على مواقف تلك الدول. فالصامتة منها سوف تخرج عن صمتها، والداعمة
لحكومة المالكي باستثناء أميركا وإيران، ستنحسر عن دعمها. وأما السبب بإيجاز فهو
التالي:
إن تلك الدول، بشتى أشكالها ومواقفها تنتظر لتتأكد مدى
فعالية الثورة العراقية وتأثيرها، فبالمقدار التي ستحقق فيها إنجازات عسكرية على
الأرض ستفرض نفسها على مواقف تلك الدول. وسيحصل التحول الأكبر في مواقف الدول
الأجنبية عندما تصبح الثورة الشعبية على شفا الانتصار.
إن هذا ليس مستغرباً، فالدول الصامتة، وكذلك الدول
الداعمة، لا تنظر إلاّ من بوابة مصالحها، فهي لا تؤيد المالكي لحُسْنٍ فيه كما لا
ترفضه لقبح فيه، بل تؤيده لأنه يمثل كياناً حكومياً يملك قرار العراق بما يعنيه من
إغراء تلك الدول بمعاهدة اقتصادية هنا، أو اتفاق عسكري أو أمني هناك، ولكنها عندما
تؤكد لها أجهزة مخابراتها أن وضع حكومة المالكي آخذ طريقه نحو الاهتزاز، فهي
ستواكب بموقفها القوى السياسية التي تمتلك إمكانيات حكم العراق. وحيث إن الثورة
العراقية تحقق إنجازات سريعة على أرض الميدان فلا شك بأن أنظار تلك الدول ستتجه
نحو فتح علاقات معها استباقاً لضمان حصتها في الحظوة لدى النظام الجديد القادم.
5-هل تنطبق الشروط الموضوعية للثورة على الثورة
العراقية؟
ونتيجة لكل تلك الأسباب مجتمعة، فنحن لم نتفاجأ أن تحرز
الثورة العراقية قصب السبق في سرعة تحقيق أهدافها، لأنها مرَّت في حركة تراكمية
ثورية امتدت منذ احتلال بغداد، ومرَّت بتجارب عُمِّدت بالروح والدم والراحة
الشخصية، وهذا يؤكد أنها ليست فورة تنطفئ عند هبة ريح إجرامية تنفخها حكومة
المالكي، بل هي الثورة الوحيدة المتكاملة الأركان والعوامل: منهج سياسي واضح
الأهداف، وقيادة عركتها تجارب الثورة، وشعب ثار ولن تخمد ثورته لأنه ليس لديه بعد
ما يخسره.
ومعادلة: (الثورة العراقية تتقدم خطوات إلى الأمام في كل
يوم يمر عليها، بينما العملية السياسية
تتأخر خطوات إلى الوراء في الوقت نفسه)، ستكون نتيجتها النهائية تحقيق هدف
المقاومة المركزي في تحرير العراق تحريراً كاملاً وناجزاً.
ليس ما يدفعنا إلى استنتاج ما قمنا باستنتاجه هو انطلاق
من فراغ، بل إن الكثير من الوقائع أصبحت من العوامل التي تضع القرار في دوائر
التحقق والإنجاز. ولعلَّ من أهم تلك الوقائع، ترسيخ الوعي في تكامل عوامل الثورة
الناجحة، وهي ثلاثية وحدة المنهج السياسي والقيادة والشعب.
الشرط الأول: وحدة المنهج السياسي:
لم ينزل المنهج السياسي للثورة دون سقف هدف تحرير العراق
بالكامل، بل ظل ثابتاً ومواكباً له، وعاملاً من أجل إنجازه منذ الاحتلال حتى
اليوم. وهذا ما كان واضحاً في وثيقة (المنهج السياسي الاستراتيجي) للعام 2003. وفي
(وثيقة التحرير والاستقلال) للعام 2006. وفي وثيقة (الإعلان عن المجلس السياسي
العام لثوار العراق) في أوائل العام 2014.
-الشرط الثاني: وحدة القيادة على أسس جبهوية ثابتة:
إن وحدة القيادة، ومنذ أول انطلاقة للمقاومة، تشهد الآن
تقدماً ملموساً في استقطاب المزيد من الفصائل والقوى التي انضوت تحت خيمة (المجلس
السياسي العام لثوار العراق)، وهي تنتظر انضمام المزيد من الفصائل والقوى التي
ترفع شعار (التحرير والاستقلال)، فالمقاعد الشاغرة فيه، تثبت أنه ما يزال يفتح
ذراعيه لكل من يريد الالتحاق به، على قاعدة أن من لم ينضح دماً وعرقاً في معركة
إنجاز الهدف المركزي قبل التحرير، فهو غير جدير بالمشاركة في حكم العراق المحرر
المستقل.
-الشرط الثالث: وحدة الشعب والثورة:
وأما على صعيد وحدة الشعب، فهي عملية تتصاعد كل يوم أكثر
من اليوم الذي سبقه، وهي تستند إلى قاعدتين اثنتين:
-الأولى:
لما كان من أهم وسائل المقاومة استخدام السلاح ضد الاحتلال الأميركي، أي أنها كانت
واجباً على كل قادر على حمله واستخدامه، فكان (فرض كفاية)، ينوب فيه عن مجموع
العراقيين كل من يُتقن استخدام السلاح لمواجهة أرتال الاحتلال العسكرية وجحافله.
-الثانية: في
المرحلة الراهنة أصبحت المشاركة في تهديم خيمة (عملية الاحتلال السياسية) (فرض
عين) على كل عراقي، أي أن أي حركة اعتراض ورفض لتلك العملية، هي وسيلة ميسورة لكل
العراقيين، وبذلك كانت حركة الاحتجاج الجماهيرية طوال عام كامل عاملاً مقلقاً
ومخيفاً لخدام العملية السياسية. وعلى هذه القاعدة، تتوسع الآن رقعة الثورة
الشعبية لتشمل كل شرائح المجتمع حيثما اندلعت، وستضم إليها إمكانيات شعبية أخرى
كلما أنجزت الثورة القائمة الآن المزيد من الانتصارات في مواجهة وسائل قمع
المؤسسات الأمنية والعسكرية والميليشياوية للعملية السياسية. والثورة الشعبية الآن
تحرز التقدم بعملية تصاعدية على أكثر من مجال وصعيد، ولعلَّ من أهمها:
أ-في كل دسكرة دخلت
الثورة إليها، تتشابك أيادي الشعب مع أيادي (ثوار المجالس العسكرية للعشائر)، بحيث
أصبح لكل فرد من أفراد الشعب دور في إنجاح الثورة، ومن أهمها احتضان الثوار في
الدساكر التي لم يتم تطهيرها تماماً من أفراد الميليشيات الحكومية، وهذا التطور
أصبح ظاهرة بارزة لتسهيل حركة الثوار في عمليات الكر والفر.
بـ-في القرى والأحياء
التي تم تطهيرها بشكل جزئي أو بشكل كامل، تتكامل إمكانيات الثوار مع الإمكانيات
الشعبية على كل الصعد الأمنية والعسكرية والخدماتية، بحيث أصبحت اللجان الشعبية
تحمي ظهور الثوار أمنياً وعسكرياً وخدمياً، فتوفر الاطمئنان للشعب والخدمات لهم.
جـ-وإن كانت ظاهرة إعلان
التوبة من قبل بعض ميليشيات الصحوات، وعلى من غُرِّر بهم من أفراد الشرطة و(الجيش
الحكومي)، كسباً إيجابياً، فإن ظاهرة من يهربون من دعوة المالكي للتجنيد بوسائل
الترغيب والترهيب، تحييد سلبي، يحول دون سد النقص في ملاكات القوى التي تقاتل
لمصلحته. وهذه الظاهرة أو تلك، تتوسع وتنتشر كلما اشتدت حدة المعارك العسكرية بين
الثوار وقوى السلطة العسكرية.
د-وإن كان هذا الجانب
يصب في دائرة (السلبي المفيد)، فإن الخسائر في الأرواح بين الجنود، أو الميليشيات
المغرَّر بهم، أو أولئك الذين يصرون على التصدي للثورة، تنعكس استياءً شعبياً على
عوائلهم. وهذا ما ظهر واضحاً في بعض نداءات العوائل التي تمنع أبناءها من التطوع،
بحيث أخذت تتصاعد في أوساط تلك العوائل.
هـ-أخذت انتصارات الثورة،
صمودها في مناطق وتقدمها في مناطق أخرى، تعيد الأمل لنفوس القانطين واليائسين،
فتجلَّت يقظتهم في أكثر من مكان، وحتى في الأماكن التي كان يحسب المراقبون أنها
عصية على الاختراق. وما اعتراض بعض الجماهير لمواكب المالكي، وبعض من يرتبط بعلاقة
ما بـ(العملية السياسية)، إلاَّ مظهر من مظاهر الصحوة الشعبية، التي ستكبر ككرة
الثلج كلما أحرزت الثورة نجاحاً في مكان ما في العراق.
6-الكفاح الشعبي المسلح هو أداة النصر الرئيسية:
من أهم ميزات الثورة الشعبية في العراق هو أن ذراعها
المسلحة تستند إلى خبرات ضباط ومراتب وجنود الجيش الوطني، وهؤلاء ممن أقسموا يمين
الولاء للوطن قبل أي شيء آخر. وهؤلاء هم الذين يخططون وينفذون الخطط العسكرية.
هؤلاء جميعهم ممن اكتسبوا خبرات عشرات السنين، وكان من أهمها خبرة (الحرب الشعبية
الطويلة الأمد) ضد قوات الاحتلال الأميركي، التي ألحقوا بها الهزيمة الكبرى، وهم
الآن يستخدمون خبرتهم في مواجهة مع من هو أقل خبرة وتدريباً وتسليحاً. ولو اتخذنا
مقياساً مقارنة خبرة وتسليح الجيش الأميركي من جانب ومستوى ميليشيات (العملية
السياسية) وخبرتها من جانب آخر، سنصل إلى نتيجة أن من ألحق الهزيمة بذاك لن يكون
عاجزاً عن إلحاق الهزيمة بهذا. وعن ذلك، نتساءل: كيف يبدو الوضع الآن بعد مرور أقل
من ثلاثة أشهر على انطلاقة الثورة المسلحة؟
أ-المشهد العسكري في المحافظات الثائرة:
يخشى البعض ممن يضع يده على قلبه خوفاً من صعوبات شديدة
قد تعترض الثورة وتحول دون نجاحها، ويشيرون إلى أن أميركا وإيران ستضعان ثقلهما
السياسي والإعلامي والعسكري لقمعها، ولكن ما يمكننا أن نقوله، إن ما وظفتاه من قوة
بشرية وتسليحية وعددية كان أكثر بكثير مما يمكن أن توفراه الآن من دعم، هذا إذا
حذفنا منها إسناد أكثر من ثلاثين دولة شاركت في حماية قوات الاحتلال، ناهيك عن دعم
الكثير من الأنظمة الرسمية العربية، وعلى الرغم من كل ذلك فقد أحرزت المقاومة
نصراً لم تستطع كل التقديرات المحايدة أو المأجورة أن تتناساه. وفي المقابل، كانت
المقاومة تقاتل وحيدة معتمدة على إمكانيات أبطالها في المال والسلاح، هذا إذا
تناسينا أنها لم تحصل على دعمٍ، مهما كان محدوداً، من أية جهة أو أي مصدر، حتى أنها كانت مجرَّدة
من أي دعم لقطاعات شعبية عراقية لسبب أو لآخر، هذا إذا لم تُستخدم تلك القطاعات ضد
انتشار المقاومة.
وعلى الرغم من كل ذلك، فقد أنجزت المقاومة بإمكانياتها
الذاتية نصراً في مواجهة احتلال يمتلك أحدث التكنولوجيا العسكرية. ولهذا وإذا كان
الإعلام المضاد السائد حينذاك، يصرح بأن الأميركيين قد دخلوا العراق لا لكي يخرجوا
منه، فقد خرجوا صاغرين أمام إصرار المقاومة وإرادتها. وإذا كانت النتائج قد صبَّت
لمصلحة المقاومة في ذلك الظرف القاتم، فإنها ستنجز في هذه المرحلة هدف التحرير
بشكل أسرع في هذا الظرف بالذات. وهناك الكثير من الوقائع التي تؤكد ذلك، ولعلَّ من
أهمها:
-على الصعيد الشعبي العراقي والعربي والدولي:
-ازدياد أعداد من يناصرون الثورة شعبياً وعسكرياً على
مستوى العراق في الداخل، وفي المقابل تقليص أعداد المحسوبين على (العملية
السياسية) عسكرياً وسياسياً وشعبياً.
-تصاعد التوتر بين حكومة المالكي من جانب وبعض الأنظمة
الرسمية من جانب آخر. وفي المقابل ازدياد من هم على استعداد لمساندة الثورة من
أنظمة رسمية وخاصة إمارات ودول الخليج العربي ممن كانوا من المحسوبين من أصدقاء
الاحتلال الأميركي.
-لم يعد هناك إسناد دولي ملحوظ للعملية السياسية، بل
تزداد تقارير المنظمات الدولية التي تدين جرائم حكومة المالكي، وخاصة ليس هناك
دولة مستعدة للدفاع عن الإمساك الأميركي بالعراق، وكذلك بالنسبة لاستمرار الدور
الإيراني. وفي المقابل، فإن الثورة العراقية مؤهلة لأن تستقطب التأييد العربي
والدولي كلما ارتفعت نسب اقترابها من الانتصار. وهذا ما نحسب أن (المجلس السياسي
العام لثوار العراق) قد بدأ ينشط في هذا الاتجاه.
-على الصعيد
العسكري للثورة:
-ارتفعت أعداد القتلى والجرحى في صفوف الميليشيات فأصبحت بالآلاف حسب ما
تعلنه بعض القوى المشاركة في العملية السياسية، هذا ناهيك عن أعداد الهاربين من
الخدمة، وكذلك أعداد الخائفين من التطوع في أي جهاز عسكري. وكذلك تكاثر حالات
التمرد على الأوامر أو تسليم أنفسهم للثوار، أو انضمامهم لصفوف الثورة. وهذا وإن
لم نشهد انقساماً عامودياً مؤثراً حتى الآن، إلاَّ أن استمرار المعارك واتساع
مساحة الثورة سيكون كفيلاً بإحداث مثل هذا الانقسام.
-ارتفاع في عدد الآليات المعطوبة، وكذلك الخسائر الكبيرة في الأسلحة
والذخائر. وفي المقابل إعلان الفصائل المقاتلة أكثر من مرة أنها غنمت كماً كبيراً
من الأسلحة المتطورة، ومن الآليات ووسائل النقل.
-وعلى صعيد المعارك فإنها لم تهدأ يوماً واحداً، ولم تتجمد عند حدود، بل هي
تتصاعد عدداً ونوعاً. فبمراجعة اليوميات العسكرية يصبح من السهولة بمكان الاستنتاج
أن الثورة تتصاعد باستمرار، وتقوى شكيمتها، وتضعف شكيمة ميليشيات (العملية
السياسية). وهذا الضعف يؤدي بدوره إلى ارتفاع المنسوب المعنوي والنفسي للثوار.
-أصبحت المنطقة الخضراء تحت مرمى نيران الثوار بما غنموه من أسلحة نوعية
وبذلك تتحول إلى مصيدة ثمينة وقاتلة. كما أصبح المطار تحت مرمى تلك النيران الأمر
الذي يعني إقفال بوابات الهروب أمام كل من يريد الهرب من كبار المجرمين والخونة.
-أكدت كل التقارير العسكرية أن الثورة، باقترابها من حدود مدينة بغداد
الإدارية والأمنية والعسكرية، تدفع حكومة المالكي إلى مزيد من التقوقع والانهيار
النفسي. وتؤكد الأخبار أن تلك الحكومة تستقدم قوات عسكرية إلى العاصمة من أجل
الدفاع عنها.
واستناداً لكل ذلك، تُعتبر بغداد، الهدف القادم للتحرير.
وبتحريرها تقطع الثورة شوطاً أساسياً، يبقى ما عداها تفصيلات، لأن جناحا العراق
سيلتقيان في العاصمة من أجل الإطباق على ما يراهن النظام الإيراني عليه للبقاء في
العراق.
ثانياً: الخطوة
الثانية: تحرير الموصل.
1-تحرير
الموصل نتيجة لتراكمات ثورية:
ليس من
قبيل التكرار أن نعتبر بداية العام 2014 قفزة نوعية في مسار الثورة السلمية في
المحافظات الستة. ونوعية تلك القفزة أنها أخذت تواجه بالسلاح تهديدات المالكي
للمعتصمين السلميين. وأخذت الثورة ترفع سقف وسائلها حتى توصلت إلى بناء أجهزتها
الأساسية الثلاث، وهي المجلس السياسي العام، والمجلس العسكري العام، يرفدهما لجنة
الإعلام المركزية.
وخوفاً من
أن تُصاب بالانتكاسة في مرحلة الدفاع عن الفلوجة، نقلت الثورة معاركها إلى مدن
أخرى ومناطق أخرى، وكان من أهمها جرف الصخر واليوسفية، تلك المنطقة التي تقع جنوب
العاصمة بغداد. وكان يبدو أن تكتيك الثورة كان ماثلاً في إنهاك القوات الحكومية
ذات العقيدة الميليشياوية.
2-المتغيرات
التي حصلت بعد تحرير الموصل
وما برحت
حركة انتصارات الثورة تتوالى من دون انقطاع، حتى حصل المتغير الأهم في مساراتها
عندما سيطرت الثورة على مدينة الموصل، وانتقلت المعارك التكتيكية إلى كل أنحاء
نينوى وصلاح الدين وديالى. وحققت إنجازات بشكل سريع لم تعرفها ثورة أخرى في
التاريخ. حصل ذلك عندما راحت أحجار الدومينو في جيش ميليشيات المالكي تتساقط
وتنهار الواحد منها بعد الآخر.
والدليل
على فرادة الإنجاز، أنه بعد تحرير الموصل، الذي حصل في التاسع من حزيران من العام
2014، بدأ الثوار يطرقون بوابات بغداد بتاريخ السابع عشر منه. فكانت إنجازات
الثورة في المسافة الزمنية، التي تقدر بأقل من أسبوع، قياسية بالنسبة للمسافة
الجغرافية التي قطعتها وصولاً إلى بغداد، تلك المسافة التي تقارب الثلاثماية
وخمسين كيلومتراً. والذي يفسر قياسية هذه السرعة هو مقدار قوة الاحتضان الشعبية
التي حظيت بها الثورة في كل أنحاء العراق، وبقوة واقع الدافع الثوري الذي كان
متغلغلاً في نفوس سكان الأرياف والمدن، وحجم استعداد الثوار العالي، ليس على
الصمود في ظل حكومة الاحتلال فحسب، بل بمقدار ما اختزنوه من خبرة ومراس وشدة بأس
أيضاً.
3-مفاجأة
تحرير الموصل زاد من منسوب التدخل الإيراني – الأميركي:
أ-التدخل
العسكري المباشر:
وبعد
تحرير الموصل، وقبل تحرير بغداد، وكما كان محسوباً، بدأت الثورة تتعرض لبعض
العراقيل، ومن أهمها: التدخل الإيراني الواسع، والتدخل الأميركي اللوجستي. أما
إيران فقد ذهلت مما حصل في الموصل، وهي التي كانت تتوقع إنهاء الثورة في المحافظات
الستة، ولذلك زجَّت بقوات إيرانية نظامية لوقف الانهيار في صفوف قوات الحكومة.
فكان للتدخل الإيراني تأثير في تدعيم المعنويات المنهارة للقوات الحكومية، مما
جعلها تصمد إلى حد ما في بعض المواقع العسكرية، على الرغم من أن تلك المواقع أصبحت
بمثابة جزر شبه معزولة عن طرق الإمداد. ومن جانب آخر حاول التدخل الإيراني استعادة
بعض المواقع التي تم تحريرها، وعبثاً حاولت ذلك. وأما الثورة فقد استطاعت تحرير
مواقع عسكرية مهمة من جهة، ومنعت القوات المشتركة الإيرانية – الحكومية
من استعادة أي موقع. لا بل زادت الثورة زخمها العسكري عندما استطاعت تحرير مناطق
مهمة جنوب بغداد، وكذلك القيام بأعمال عسكرية متواصلة في محافظة ديالى. أي أنها
فرضت على القوات المشتركة القتال الدفاعي، بحيث كانت المعارك الشرسة التي حصلت في
غرب محافظة بغداد، وجنوبها وشرقها، استكمالاً لخطة تطويق مدينة بغداد وحصارها.
وإن كان
التدخل العسكري الإيراني – الأميركي قد أسهم في تأخير معركة تحرير بغداد، إلاَّ أنه
لم يستطع أن يوقف الزحف باتجاهها.
ب-التدخل
الإعلامي ووسائل تشويه الثورة:
وبالإضافة
إلى عوامل التدخل العسكري المباشر، فقد عمل التحالف على إعاقة زخم الثورة بابتكار
أكثر من وسيلة إعلامية وشعبية، وكذلك محاولة تفجير بعض الألغام المزروعة في صفوف
الثوار. وإن كانت تلك الوسائل قد أعاقت الزحف الثوري تكتيكياً إلاَّ أنها لم تؤثر
علىها استراتيجياً. وأما تلك العقبات التي اعترضت مسار الثورة، فكان من أهمها:
-داعش
وخطرها.
منذ
البداية كانت الخطة الحكومية الإعلامية الأساسية تستند إلى تعميم ثنائية (الحكومة
الشرعية تقاتل الإرهاب)، واستمرت هذه الحملة بزخم واستمرار من دون كلل أو ملل حتى
مرحلة تحرير الموصل. ومن بعدها انصبَّ التركيز الإعلامي على داعش تحديداً، وإن
كانت بعض تصريحات حكومة المالكي، تشير إلى أطراف مشاركة، كحزب البعث وبعض العشائر،
فإنما كان الإعلام يصورها وكأنها ملحقات بداعش. ومن أجل ذلك فقد نشر إعلام التحالف
شريطاً مصوراً لما زعموا أنه البغدادي الذي دعا فيه المسلمين لمبايعته (خليفة للمسلمين). وقد دلَّت
تقارير بعض من تتبَّع أصول تلك المسرحية فكشفوا أن البغدادي من أصول يهودية، وهو
عميل للمخابرات الصهيونية تلقى تدريبات مكثَّفة للقيام بدوره في الوقت المناسب.
ومن بعده روَّجت أجهزة المخابرات المعادية لأكثر من مشهد من مشاهد تظهير خطورة
أهداف هذا التنظيم.
إن مرور
التقرير على هذه القضية، وإيلائها أهمية استثنائية، جاء لما أحدثته من بلبلة طالت
الرأي العام العربي والعالمي، ناهيك عن المخاوف التي أثارتها في الشارع العراقي.
ولم تستثن البلبلة مواقف التيارات القومية، ولم ينج التنظيم الحزبي البعثي منها.
بل شكلت في أحيان كثيرة عامل إرباك لقيادة الثورة التي وجدت نفسها في مواجهة
مباشرة مع وجود مجموعات لداعش في صفوف الثوار. حينذاك كان القرار الفوري هو
المطلوب من أجل الخيار بين احتمالين: إما مقاتلة داعش لدرء التهمة التي روَّج لها
الإعلام المعادي، وإما عقد اتفاق معها يسمح لها بالقتال ضمن حدين (قتال القوات
الحكومية، وقتال الوجود الإيراني) على أن تلتزم بقرارات المجلسين السياسي والعسكري
للثورة. ولأن القتال ضد داعش في تلك اللحظات الحرجة كان يعني الغرق بفتنة داخلية
ستكون آثارها سلبية على مسار الثورة، كان الخيار الثاني هو القرار الأقل خطورة،
الأمر الذي دفع بالرفيق عزة ابراهيم، الأمين العام للحزب وقائد الثورة، إلى إصدار خطاب
تلاه بصوته، وجَّه فيه التحية لكل من يقاتل ضمن هدف مستعجل هو استكمال تحرير
العراق من حكومة (العملية السياسية) والوجود الإيراني فيه. والأمر الذي أثار تلك
البلبلة هو تخصيص (الدولة الإسلامية) بالتحية. وفسَّره بعض البعثيين وكأن الأمين
العام لا يعلم خطورة دخول (داعش) على خط الثورة، وأُحرج البعض الآخر أمام بعض
المتسائلين عن ذلك، وأغرقت بعض القوى المضادة للثورة بصب الزيت على نار هذه القضية
والقصد منه خلق أزمة داخل صفوف الحزب خاصة، وفي صفوف الثوار بشكل عام.
وإنه
بدلاً من تفهم قرار القيادة واعتباره قراراً مرحلياً يصب في مصلحة الأمن الذاتي
للثورة، فقد شكَّل القرار مصدر بلبلة جديدة في صفوف البعثيين. وتفاقمت حالة البلبلة
عندما أثيرت مسرحية الاعتداء على المسيحيين في الموصل. وسنفصِّل ما حدث عن هذه
القضية.
-إفتعال
قضية المسيحيين في الموصل.
بالفعل
تمَّ توزيع بيانات باسم داعش في الموصل فيها تهديد للمسيحيين. وقوبلت الحادثة
بتعبئة واسعة ضدها. واستغلت الأجهزة الإعلامية المعادية تلك الحادثة، وتم تعميمها
في كل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، كما عُمِّمت على كل المؤسسات،
فصدرت بيانات استنكار واسعة. وتلقفتها بعض الأوساط لتظهير أفلام فيديو بعضها
الكثير كان مزوراً ومنقولاً من الأرشيف. وبذلك بدا الأمر وكأنه حملة إعلامية
منظمة، لم يكن الهدف منها إيجاد حل لها أكثر من أنها حملت (قميص عثمان المسيحيين)
للمتاجرة بهم من جهة، ولتشويه صورة الثورة العراقية من جهة أخرى. وأما أنها حملة
إعلامية منظمة، فلأن حكومة المالكي قد ارتكبت أفظع منها في الأعوام السابقة، وبحق
المسيحيين في مختلف محافظات العراق ومنها في العاصمة بغداد. ولم تأخذ حملات
الإعلام المنحى الذي أخذته في هذه المرحلة من جهة، ولأن عمليات التطهير العرقي
طالت مكونات دينية أخرى وبشكل أفظع منها، ولكن الإعلام لم يأبه بها ولم يعممها
بالطريقة ذاتها.
ونستدل
على أن العملية منظمة ومقصودة فلخصوصية الحالة التي تم التشهير بها، وهي المكون
المسيحي فيها، وليس هناك من قضية أخرى تنال اهتماماً أكثر منها على المستوى الغربي
بشكل خاص، وعلى المستوى العربي لسبب التعاطف الشديد مع الأقليات المضطهدة.
وأما
حقيقة ما حصل، فهو التالي:
-أعلنت قيادة
الثورة أن الحادثة قد وقعت بالفعل، ولكن الذي ارتكبها كانت مجموعة مخابراتية
مرتبطة بأجهزة الحكومة الأمنية كانت مكلفة بافتعالها من أجل استغلالها في التحريض
على الثورة.
-اهتمت قيادة
الثورة بالمسألة وقامت بمعالجتها بتكليف بعض رؤوساء العشائر بالاتصال بالجهات
المسيحية المسؤولة والتنسيق معها من أجل توفير ضمانات أمنية للمكون المسيحي في
الموصل.
ج-الالتفاف
على الثورة ومحاولات اختراقها:
-إعادة تشكيل
صحوات جديدة: متكئين على تجربة الصحوات في
العام 2006، حاول المنخرطون في (العملية السياسية) أن يكرروها بعد اندلاع الثورة
وتحقيقها خطوات متقدمة جداً. وكانت الحملة الإعلامية المنظمة ضد ما زعموا أنها
جرائم وشبهات وتهديدات وفتاوى تقوم بها (داعش) مقصود منها تخويف العراقيين من
تجربة أبو مصعب الزرقاوي من أجل الانخراط في صفوف صحوات جديدة تقوم بالتعاون مع
حكومة المالكي لمواجهة الثورة في عقر دارها.
-زرع ألغام في
صفوف الثورة: لقد كانت قيادة الثورة تكشف
من وقت لآخر وجود بعض المندسين من الذين يرفعون شعارات الانتفاضات السلمية، أو من
الذين يرفعون شعارات الثورة، وكانت تقصيهم فوراً وتبعدهم عن صفوفها. وقد برز بعضهم
في مؤتمر عمان، في تموز 2014، والذي ضمَّ 300 شخصية عراقية، وكانوا من الذين
يحاولون تمرير مشروع الإقليم السني، فتم كشفهم وإبطال دورهم. كما حاولت حكومة
المالكي أن تزرع الشقاق بين صفوف الفصائل المشاركة بالثورة، من خلال التشكيك بهم،
كما زعموا مثلاً أن جيش رجال الطريقة النقشبندية يتعاونون مع بعض الصحوات في
الموصل. أو من خلال دعوة الضباط الوطنيين للالتحاق بالجيش الحكومي مع وعود برفع
سيف الاجتثاث عنهم. ولكن في المقابل كانت قيادة الثورة تقوم بكشف كل الخدع ووسائل
الاحتيال.
-فتاوى التحريض
المذهبي: كانت المعارك العسكرية بين قوى الثورة
والمؤسسات الحكومية العسكرية اختباراً حقيقياً لتلك المؤسسات. ودل على أن كل من
أسسته حكومة (العملية السياسية) من بنى عسكرية كانت هشَّة تهاوت أمام أول اختبار
لها. وتحولت استراتيجية الهجوم التي قررتها حكومة المالكي، عندما اتخذت قرار إنهاء
الاعتصامات، إلى استراتيجية دفاعية عندما صمدت قوى الثورة في كل من مدينتيْ
الفلوجة والرمادي. لا بل تحولت وسائل الثورة، منذ بداياتها الأولى، الى استراتيجية
هجومية عندما وسَّعت رقعة المعارك العسكرية بعيداً عن الرمادي والفلوجة، وخاصة في
المناطق المحيطة بالعاصمة بغداد.
واستطراداً
لكل ذلك، فقد ازدادت الخسائر في صفوف القوات الحكومية، مجموعات وعتاد، واستمر ذلك
الواقع إلى أن بدأت حكومة المالكي تفكر في تجنيد من يملأ الفراغ الذي تركته
الخسائر. وعندها دبَّ الرعب في نفوس الساسة والعسكريين، فما كان لديهم من مخرج
إلاَّ الاستفادة من (فقهاء السلطة) فاستنجدوا بمن زعموا أنه المرجعية في النجف. ولهذا
أصدر السيستاني فتواه الشهيرة باسم (الجهاد الكفائي)، وبناء عليها ازدادت وتائر
التحريض المذهبي بين أوساط (فقهاء الميليشيات)، من أجل تفعيل حالة الحقن الطائفي
التي مارستها حكومة المالكي منذ البداية. ولكي تكون الفتوى ذات فعالية أكثر، رُفعت
شعارات (حماية العتبات المقدسة)، فاستجاب الآلاف ممن انطلت عليهم الخديعة،
وزُجُّوا في معارك غير مؤهلين لها عسكرياً. وقد أُضيفت إلى قوافل الجنود الحكوميين
آلاف من جثث الذين تطوعوا للمشاركة في معركة لم يصمد فيها من صرفت حكومة المالكي
مليارات الدولارات من أجل تدريبهم وتسليحهم. وقد انعكست تأثيرات فتوى السيستاني
سلباً عندما قام أهالي المجندين المخدوعين بالتظاهر والاحتجاج لمعرفة مصير
أبنائهم. وبمثل تلك النتيجة استطاعت المقاومة أن تقلِّل من سلبيات محنة تعميم
الحرب الأهلية الطائفية.
-الخطوة
الثالثة: تحرير بغداد.
أ-الثورة
تقرع أبواب بغداد، ماذا يعني هذا بمقاييس تحقيق الأهداف؟
على
الصعيد السياسي يعتبر تحرير بغداد خطوة أساسية وذلك لأن العاصمة تمثل الرمز السيادي للدولة، فكانت بغداد
ذلك الرمز الذي يمثل العراق. فبغداد تمثل جملة من الحقائق الجغرافية والسياسية
والمعنوية والإدارية. ومن أجل ذلك تدور آخر فصول معارك تحرير العراق بتحرير بغداد.
فبغداد جغرافياً تمثل القلب من العراق، وفي بغداد ستلتقي
أجنحته التي مزَّقها الاحتلال. وتحرير بغداد يُعيد لقلب العراق حياته فتلتقي
الأجنحة من جديد من حوله، وبلقائها تستعيد الدولة الوطنية سيادتها الجغرافية الكاملة،
وسيادتها السياسية بعد كنسها من عملاء الاحتلال الأميركي – الإيراني المركَّب.
وبغداد تمثل العاصمة السياسية والإدارية التي تحتضن كل
مؤسسات الدولة المركزية، بدءًا من المؤسسات الحكومية على شتى أنواعها وصنوفها،
وانتهاء بمركزية المؤسسات الدبلوماسية للدول التي ترتبط مع دولة العراق بعلاقات
سياسية واتفاقيات اقتصادية وثقافية وعسكرية.
ولكل ذلك، تعتبر بغداد كعاصمة للعراق رمز الدولة
العراقية وسيادتها، كما كل عواصم الدول ذات السيادة. فمعركة تحريرها، التي ابتدأت
منذ الأشهر الأولى للعام 2014، كانت بمثابة استعادة سيادة العراق وعزته.
من أجل هذا الهدف، ولما انطلقت ثورة العراق من الأطراف
الوسطى والشمالية، الأنبار والموصل، كان هدفها التمهيد لمعركة بغداد، وهذا ما
أفصحت عنه مسارات الثورة في تلك المناطق. وكانت شعارات (صبراً يا بغداد)، و(يا
بغداد إنَّا عائدون)، مما يعبِّر تمام التعبير عن أهمية تلك المعركة.
ب-تحرير
بغداد نهاية للأحلام الإمبراطوية الأميركية والفارسية:
صحيح أن
تحرير بغداد يُعتبر الخطوة الرئيسية، بما تعنيه العاصمة من موقع سياسي وعسكري
وإداري، يؤدي إلى اكتساب الشرعية الشعبية العملية، والشرعية الدولية. إلاَّ أن ما
تعنيه في رؤيتنا أيضاً، ونعتبره الأهم في مسار التاريخ العالمي على المستوى الفكري
والسياسي، هو أن الإنجاز الذي سطَّرته الثورة العراقية، سيُسجَّل في تاريخ الثورة
العربية والعالمية. وسيُكتب على شواهد مدافنه: هنا ترقد جثامين المشاريع
الإمبراطورية التي غزت العراق، وسقطت صريعة برصاص ثورة العراقيين.
واستباقاً
لكل هذا وتفسيراً لتلك النتيجة، فقد أرغمت الثورة العراقية المشاريع الإمبراطورية
على التهافت، ووضعتها على قائمة المحظورات الممنوعة من التنفيذ إلى أجل غير مسمى.
وقد اصطادت الثورة العراقية ثلاث نتائج بطلقة ثورية واحدة، وهي:
-التهافت
الأول بدأ بإلحاق الهزيمة بالمشروع الإمبراطوري الأميركي، المؤرخ له نظرياً في
أواخر العام 2011. ومن أهم دلائل هذا التهافت هو أنه أعلن هزيمته العسكرية أولاً
على أسوار بغداد عندما سحب القسم الأكبر من قواته وأعادها إلى بلادها. وثانياً
هزيمته الاقتصادية عندما أعلن عن العجز الهائل في خزانة الولايات المتحدة
الأميركية.
إن حبل
تهافت المشروع الإمبراطوري الأميركي على جرار التاريخ، إذ يدل الواقع العالمي
الجديد على أن إفراغ نظام حكم العالم بقوة أميركية واحدة، كما خطط له أصحاب (نحو
قرن أميركي جديد)، قد انهار لتبدأ مرحلة بنائه على أكثر من قطبية. وأهم الدلائل
والبراهين على ذلك هو ما تؤكده المتغيرات الأخيرة على أن روسيا والصين أخذتا
تشكلان القطبية الثانية بعد أن انخرطتا بورشة بناء مؤسسات دولية اقتصادية وسياسية
لمواجهة أخطبوط المؤسسات المشابهة التي تهيمن عليها أميركا.
-والتهافت الثاني حصل في انهيار الأنظمة التي وصلت إلى قيادتها حركات
التيارات الإسلامية في كل من مصر وتونس. وأما في العراق فقد أحبط مشروع ولاية
الفقيه مشروع حليفه في الحزب الإسلامي العراقي بعد افتراقهما على أساس النزاع الذي
حصل بينهما بما يُسمى الأزمة التي دارت وقائعها بين المالكي والهاشمي.
-التهافت الثالث وهو بضرب مشروع بناء نظام ولاية الفقيه في العراق، والذي
ما تزال فصوله تجري الآن بعد أن انطلقت الثورة العراقية، الثورة التي من أهم
أهدافها المرحلية اجتثاث أي وجود إيراني في العراق عن طريقين:
-الطريق الأول هو تهديم العملية السياسية التي كان يديرها المالكي باسم
المشروع المذكور، والذي سيتابعه كل من سيتولى رئاسة حكومة (العملية السياسية)، وتعكف
الثورة على بناء نظام دولة مدنية مكتملة الشروط والأهداف الوطنية والقومية.
-وأما الطريق
الثاني فيتم الآن بمواجهة حاسمة مع الوجود الإيراني المبطَّن سابقاً والمعلن
حالياً بعد إرسال قوات إيرانية نظامية إلى العراق، وذلك للحؤول دون انهيار مشروعهم
الحلم الذي حسبوا أنهم بنوا قواعده الراسخة في العراق، وهم يعرفون أنه بدون تلك
القواعد لن يبقى معنى لبناء ما يسمونه (الحكومة العالمية) بقيادة نظام (المرشد) في
إيران.
وعليه، إن
اكتمال عوامل وشروط تهافت المشروع الإمبراطوري الأميركي، وإحباط مشروع إعادة بناء
(دولة الخلافة) في أكثر من قطر عربي، وإسقاط مشروع ولاية الفقيه في العراق، كلها
أسباب ووقائع تدفعنا للاستنتاج الذي يرقى إلى رتبة اليقين، أن تحرير بغداد سيعيد
العراق إلى حضن العروبة، وستعود العروبة إلى أحضان العراق وحدقات عيونه. وهذا ما
تؤكده المتغيرات المتسارعة في العراق، تلك المتغيرات أحدثت حتى الآن انقلاباً في
موازين الحسابات على شتى المستويات العراقية والعربية والدولية، وبالتالي وضعت
أهداف الثورة في إعادة الوهج للفكر القومي العربي موضع التطبيق. وبذلك ستضع حداً
لكل طامع ببناء مشروع إمبراطوري، والبديل هو أنه سيعود الخيار القومي خياراً أول
لدى الشعوب المطموع بضمها إلى إمبراطوريات الشر والعدوان. إمبراطوريات سيان أكانت
تنتمي إلى إيديولوجيات مادية رأسمالية، أم إلى إيديولوجيات دينية.
وبهذا،
ولكل هذا فإن مشاريع الأصوليات الإمبراطورية تتهافت على أسوار بغداد. وبغداد عائدة
إلى أحضان العروبة، والعروبة ستعود إلى أحضان بغداد.
وتحرير
بغداد خطوة لا بد منها لأكثر من سبب، لتحرير الجنوب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق