نحو تأسيس مفهوم للبعد الإيماني
في فكر حزب
البعث العربي الاشتراكي
(الحلقة الأولى)
مقدمات نظرية في البعد الإيماني
تكامل العلاقة بين المنهجين المعرفيين
الإيماني والعقلي
1-تعريف المفهوم الإيماني
جاء في المعجم الفلسفي (ج1): لجميل صليبا:
دار الكتاب اللبناني: بيروت: 1982م: ص 186 – 187: الإيمان هو «التصديق بالقلب… من دون
أن يؤيده برهان منطقي، أو مشاهدة حسية. وهو مغاير للعلم، لأن العلم مبني على أسباب
عقلية كافية، في حين أن الاعتقاد مبني على بواعث قلبية، أو على أسباب عقلية غير كافية».
ومن معاني الإيمان «تسليم النفس بالشيء
تسليماً راسخاً لا تقل قوته عن قوة اليقين. والفرق بينه وبين اليقين أن اليقين
مستند إلى أسباب موضوعية، في حين أن الإيمان مبني على أسباب شخصية ذاتية». أما
الإيمان في الشرع الإسلامي فهو «الخضوع والقبول للشريعة، ولما أتى به النبي...».
2-العلاقـة بين الإيمـان والعقل
يرجع مصطلح العقل: «إلى وقار الإنسان
وهيئته»، وهي هيئة محمودة للإنسان في كلامه وسلوكه. ويراد به ما يكتسبه
الإنسان بالتجارب من الأحكام الكلية. وهو قوة تدرك صفات الأشياء من حسنها وقبحها،
وكمالها ونقصانها.
أما الفلاسفة، كما جاء في المرجع أعلاه، (
الجزء الثاني ص 84 و89 و90)، فيرون أن العقل «جوهر بسيط مدرك للأشياء بحقائقها»،
والفرق بينه وبين الحس أن العقل يستطيع أن يجرد الصورة عن المادة، ويدرك المعاني
الكلية كالعلة والمعلول، والغاية والوسيلة… وهو «قوة الإصابة في الحكم»، …وهو لا يقبل، على الإطلاق،
شيئاً على أنه حق، ما لم يتبيَّن ببداهة العقل أنه كذلك…وهو قوة طبيعية للنفس
متهيئة لتحصيل المعرفة العلمية، وهذه المعرفة مختلفة عن المعرفة الدينية المستندة
إلى الوحي والإيمان. فالعقلي هو المنطقي والنظري.
3-علاقـة الإيمـان الروحي بالمنهج المعرفي
وجاء في الموسوعة الفلسفية العربية
(المجلد الأول): لمعن زيادة، معهد الإنماء العربي: بيروت: 1986م: ط 1: ص 660.
إشكالية الاشتباك بين مناهج المعرفة، بوجهيها الإيماني والبرهاني، مسألة قديمة.
أما تاريخ بدء العمل فيها فيعود إلى العصور التي بدأ فيها العقل الإنساني يتناول
جوانب المعرفة الميتافيزيقية. تلك الجوانب لا تخضع لليقين الحسي والبرهاني. ولأن
الظاهرة الدينية تخضع لاعتبارات ميتافيزيقية، عرف العقل النقدي، بين المنهجين،
أولى محاولاته الجدية على أيدي الفلاسفة اليونانيين، وانتقل منهم إلى المفكرين العرب والمسلمين، وانتقل حتى بلغ ذروته في مرحلة بناء العقل
الفلسفي الأوروبي، الذي بدأ يشق طريقه لينتقل من عصر الإيمان، ويتخذ طريقه نحو
النضج منذ بداية عصر النهضة. وبه انشغل الفكر الفلسفي في مرحلة التوفيق بين العقل
والنقل، بين منهج الإيمان ومنهج الفكر العلمي. وانعتق الفكر الأوروبي في عصر
النهضة من قيود مقولات الفكر القديم، إلى أن وصل في عصر التنوير إلى مرحلة بناء
أنسقة فلسفية متكاملة، واستخدام المناهج العلمية في البحث.
ولأن الإيمان كان يعني، تقليدياً، الإيمان
الديني. والعقل كان يعني، أيضاً، الفكر الفلسفي، سنستعرض بإيجاز ما هو المقصود
بهذين المصطلحيْن:
بعد أن انتقل الفكر الفلسفي اليوناني إلى
العربية، ومع انتشار موجة إعطاء العقل حقَّه في البرهان في مسائل المعتقدات
الإسلامية، خاض النقليون الإسلاميون صراعات ضد موجة التفلسف الجديدة، ذلك الصراع
الذي قاد الغزالي إلى الدفاع عن الإيمان الديني باستخدام أسلحة الفلاسفة. وعمل على
أساس أن يضع قواعد للبعد الإيماني في مواجهة العقل، فتوصَّل إلى
نتائج دفعته إلى الدفاع عن الحدس الصوفي كطريق إيماني بديل للعقل.
ترجع قوة الدين إلى أنه يعرض على الناس
الإيمان لا المعرفة، كما جاء في قصة الحضارة (م16): ديورانت، جامعة الدول
العربية: القاهرة: 1964م: ط2: ص 12 – 13.. وكان النساك المسيحيون يرون أن تبرير العقيدة بحجج العقل هو
إسراف غير مفيد لوقت ثمين، فمن الأفضل، كما جاء في تاريخ العصر الوسيط في أوروبا (ج1): نور
الدين حاطوم: دار الفكر: دمشق: 1982م: ص 907، أن يُبْحَث، عند تأمل الكتاب المقدس،
عن غذاء أخلاقي معنوي يغذّي الروح،. وحول ذلك يقول القديس أغسطين، كما جاء في قصة
الحضارة (م17): ديورانت: م. س: ص 61.: «لست أسعى للفهم لكي أعتقد، بل أن أعتقد
لكي أفهم».
ولما اشتدَّ ضغط النقد الفلسفي على الكنيسة
والفكر الديني، وجد بعض اللاهوتيين أنفسهم يخوضون غمار الدفاع عن الإيمان الديني
بأسلحة العقل نفسه. وكما جاء في قصة الحضارة (م 17) (ص 117، وو145 و146)، كان من
أهم أولئك المدافعين توما الأكويني، الذي كان كأنه يقلِّد طريقة الأشعري والغزالي
في الرد على الفلسفة تحت شعار الرد على الفلاسفة بأسلحتهم. فيكون الأكويني قد رفع
العقل فوق الإرادة والفهم فوق الحب؛ ولهذا السبب عدَّه مرسوم للبابا يوحنا الحادي
والعشرين (1276-1277م) خارجاً عن الدين.
لم تتوقف حركة التفتيش عن تحديد مناهج
المعرفة، بين العقل الفلسفي والإيمان الديني، عند حدود عصر معيَّن، بل تواصلت إلى
القرن العشرين الميلادي، وتوصَّل بعض فلاسفة الغرب إلى وضع قواعد جديدة في الحدس
لكي يبرهنوا من خلالها على أرجحية البعد الإيماني في صياغة مناهج معرفية تسهم في
إنتاج معارف جديدة للبشرية، وأن تكون موثوقة النتائج أكثر من جمود البرهان العقلي
والمنطقي. فكان برغسون، الفيلسوف الفرنسي، من أهم من مثَّل ذلك التيار.
عمل برغسون، كما جاء في أطروحة دكتوراه
بالفلسفة غير مطبوعة: لعبده شحيتلي الجامعة اللبنانية: أيار/ مايو 2005، على
وضع أسس للحدس يدافع بواسطتها عن منهج المعرفة الإيمانية كبديل للمعرفة البرهانية
القائمة على العقل. وهنا رأى برغسون ضالته المنهجية في البطل والبطولة. فعدَّ
البطل مثالاً للمتميزين منهم، أولئك الذين يصلون إلى أهدافهم في المعرفة الإنسانية
من خلال مبادئ الأخلاق المؤسَّسة على الوعي؛ فيرى أن كل أخلاق بطولية لا يمكن أن
تنال كفايتها بواسطة العقل، لأنه، وحساباته، غالباً ما يوقعان الأخلاق في المنفعة
المباشرة أو غير المباشرة. أما أخلاق البطولة فلا يمكن أن تصدر إلاَّ عن حالة
روحية تعيش جواً انفعالياً يُشيعه الفرد المتميز، ويسري في نفوس الناس سريان النار
في الهشيم.
لا يمكن لمنهج معرفي واحد أن يحتكر حقيقة
الوصول إلى المعرفة، لأن الإنسان كتلة معقَّدَة. كما أنه عبارة عن موجود مركَّب لم
تستطع كل المناهج المعرفية السابقة ،سواء أكانت ذات أبعاد إيمانية أم كانت ذات
أبعاد برهانية عقلية، أن تحدده تحديداً دقيقاً. وقد وقعت تلك المناهج، في التعسف
عندما ادَّعت أن منهجاً معرفياً واحداً يستطيع أن يضع للكائن البشري تفسيراً من
خلال جانب واحد، سواء أكان الجانب مادياً أم كان روحياً.
وفي هذا الإطار وقعت الماركسية، كأحد أهم
الفلسفات المادية، في الخطأ عندما أقامت هيكلها المعرفي على أساس وحدانية الجانب
المادي. ووقعت الإيديولوجيات الدينية فريسة أيضاً عندما حسبت أن الجانب الروحي هو
الهيكل المعرفي الوحيد الذي يستطيع أن يفسر كينونة الإنسان.
أما نحن فنرى أن هناك
ارتباطاً بين النفس والإيمان. فالنفس ليست خاضعة للبرهان الحسي بقدر ما هي خاضعة
للاستنتاج والتحليل. كما أن الإيمان ليس خاضعاً للبرهان الحسي، أي لا يمكن
مراقبته، كما لا يمكن البرهان على وجوده أو عدم وجوده بواسطة التجربة الحسية،
فالإنسان قد يُضمر ما لا يُظهر.
ولأن هناك صعوبة في
استبيان ما يُبطن الإنسان إذا هو، نفسه، لم يعلن بصدق ما يُبطن فعلاً، يصبح
الاعتقاد الإيماني غير خاضع للمحاسبة ولا للمساءَلة. وفي أفضل الأحوال، على الرغم
من أننا قد نتلمَّس نوعية الاتجاه الإيماني لإنسان ما من خلال تصرفاته وسلوكه
وطريقة تفكيره إلاَّ أن ذلك لا يشكل برهاناً قاطعاً على أننا يمكننا تحديد هويته
الإيمانية بدقة. فالسلوك خاضع للمراقبة، ومن خلاله يستطيع المراقب أحياناً أن
يستنج الاتجاهات الإيمانية عند الإنسان الذي يراقبه، لكن فيما لو كان لدى الإنسان
الخاضع للمراقبة قدرة على الاستبطان لأمكنه أن يضلل كل من يراقبه، ويحول دونه
وتحديده هويته الإيمانية.
يدفعنا ذلك إلى القول إن الإيمان يخضع
للاختيارات الذاتية عند الإنسان، فللإيمان الروحي بُعد ذاتي أكثر منه بعد اجتماعي.
فهناك فروقات بين البعدين: فعلى البُعد الاجتماعي تترتب مسؤوليات تحددها طبيعة
سلوك الفرد الاجتماعي داخل مجتمعه، فما دام ذلك السلوك لا يضر بالمجتمع فلن يترتب
على صاحبه أية عقوبات. أما على البعد الإيماني الروحي فلا مسؤوليات تترتب على
معتنقه ما دام بعيداً عن انتهاج سلوك يُضر بالمجتمع.
وبهذا يكون البُعد الإيماني الروحي استجابة
لحالة نفسية ذات علاقة بالتوازن النفسي الداخلي للإنسان، يستعصي على المراقبة
الحسية، ولهذا لا يمكن أن يخضع للبرهان الحسي، ولا يمكن للعقل وحده أن يحيط به
ويفسِّره، فلا بد للحدس من أن يكون ميزاناً لتفسيره.
أما البعد الاجتماعي فهو استجابة لحاجة
اجتماعية يضعها المجتمع لتنظيم علاقات سليمة بين أفراده، ويترجمها الفرد إلى سلوك
ملموس وحسي يمكن قياسه بمفاهيم عقلية.
والنتيجة أن ثنائية الإنسان «مادة وروح» لا
يمكن الفصل بينهما. فلا يمكن أيضاً اعتماد
منهج تفسير واحد للعلاقة بين طرفيها. ولا بُدَّ من أن نعترف للمنهجين: المادي
والروحي، بدوريهما المتكاملين في تكوين مناهج معرفية تساعد الإنسان، ذلك الكائن
المركَّب، على اكتساب المعارف الضرورية التي تساعده على تخطيط وسائل الوصول إلى
سعادته في جانبيها: المادي والروحي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق