نحو
تأسيس مفهوم للبعد الإيماني
في
فكر حزب البعث العربي الاشتراكي
(الحلقة الثانية)
البعد الإيماني في نصوص
الدستور:
نحو تأسيس مفهوم للبعد الإيماني في حزب البعث العربي الاشتراكي
نتيجة تعدد الرؤى والاجتهادات في فهم مصطلح البعد
الإيماني عند البعثيين، كان لا بُدَّ من وضع دراسة لتقريب وجهات النظر حول هذا
المفهوم، على أن تستند إلى دراسة هذه الحالة في ظروفها التاريخية بالعودة إلى
مصادر الحزب الفكرية، التي أولت الموضوع عناية واهتماماً.
بداية، وبالنظر إلى مفهوم الإيمان لغوياً (آمَنَ
بِهِ:
وَثِقَ بِهِ وَصَدَّقَهُ)، لا نجد فيه ما يفرض
حصره في جانب واحد، بل للإيمان وظائف متعددة في حياة البشر، فهي لا تقتصر على
الإيمان الديني بل تتعداه إلى كل ما يختص باعتقادات الإنسان، من علاقة بالمجموعات
الإنسانية والوطنية والعائلية والاجتماعية وبالقيم الأخلاقية العليا.
الإيمان الديني علاقة شخصية تربط الخالق
بالمخلوق، (آمن بالله ورسله) أي وثق بهم وصدَّقهم. ولأن الله قوة غيبية غير
منظورة، فتعتمد على الإيمان بالقلب وهذا يكفي لاتباع أوامره على الرغم من أن
العقيدة الدينية لا تقبل الإيمان بالقلب فقط بل باللسان أيضاً وبالسلوك كذلك.
والإيمان بالقومية مسألة اجتماعية تحدد
روابط العلاقة بين أبناء الوطن الواحد. آمن بالوحدة الوطنية: أي وثق بصلاحيتها في
تمتين علاقات الفرد بمجموعة بشرية. وآمن بالأخلاق الحميدة: وثق بأنها تعزز روابط
الفرد الإيجابية بتلك المجموعة. وآمن بقيم العدل والمساواة: أي وثق بأنها تحقق
العدالة بين جميع البشر.
ومن أجل حسم الجدل، وتقليص المسافات بين
الاجتهادات المتعددة حول مفهوم البعد الإيماني، كان لا بُدَّ من العودة إلى قراءة
تاريخية لما ورد عنها في مصادر الحزب الفكرية الرئيسية.
أولاً: مصادر الحزب
الفكرية:
حتى تاريخ هذه
الدراسة، حصر المكتب الثقافي القومي للحزب، في نشرته الداخلية الصادرة في العام
1998، المصادر الأساسية لفكر حزب البعث العربي الاشتراكي، بالتالية:
1-دستور الحزب: وفيه حدَّد المؤتمر القومي الأول، الذي عُقد في 7/ 4/ 1947،
ثوابت الفكر الحزبية. ومنع تعديل المبادئ الأساسية (وهي ثلاثة مبادئ)، والمبادئ
العامة (تتضمن ثلاثة عشرة مادة). بينما سمح بتعديل المواد الأخرى بموافقة ثلثي
المؤتمر القومي.
2-مقررات المؤتمرات
القومية.
3-كتابات ميشيل
عفلق، مؤسس الحزب.
4-كتابات صدام
حسين، رائد بناء أول تجربة لحزب البعث في السلطة.
وإذا أردنا أن نحدد موقف الحزب من البعد الإيماني، فعلينا أن نعود إلى ما
اعتبره الدستور ثابتاً، والثابت هو ما منع الدستور تعديله.
ثانياً: البعد الإيماني في نصوص الدستور:
1-المبادئ الأساسية:
وإذا قرأنا مضمون المبادئ الأساسية، وقمنا بالتفتيش عن مفهوم الحزب للبعد
الإيماني، فلا نجد غير العبارات التالية:
أ-الوطن العربي وحدة سياسية اقتصادية وثقافية لا تتجزأ، والوطن
العربي للعرب وحدهم. (المبدأ الأول: وحدة الأمة العربية
وحريتها).
بـ-حرية الكلام
والاجتماع والاعتقاد والفن مقدسة، وقيمة المواطنين تقدر بحسب العمل الذي يقومون
به. (المبدأ الثاني: شخصية الأمة العربية).
جـ-مكافحة
الاستعمار، واعتبار الإنسانية مجموعاً متضامناً في مصلحته. (المبدأ الثالث: رسالة الأمة العربية). وجاء نصه كاملاً: (الإنسانية مجموع متضامن في
مصلحته، مشترك في قيمه وحضارته، فالعرب يتغذون من الحضارة العالمية ويغذونها،
ويمدون يد الإخاء إلى الأمم الأخرى ويتعاونون معها على إيجاد نظم عادلة تضمن لجميع
الشعوب الرفاهية والسلام، والسمو في الخلق والروح).
ولذلك نجد حول ما هو مقدس في مبادئ الدستور،
الأمور التالية:
1-في كل ما له
علاقة بالإيمان الديني، يؤكد الدستور على قدسية (حرية الاعتقاد)، والحرية هنا لا تحمل قوة الإلزام باعتقاد محدد. بل حرية الاعتقاد، هنا، هي
خيار ذاتي، الذي إذا حصل عند الفرد أو الجماعة فمن واجب الدولة أن تحميه. ويؤكد
الدستور على أن قيمة المواطن تُقدَّر بحسب العمل الذي يقوم به، أي العمل الذي يصب
في مصلحة المجتمع القومي ويعود عليه بالفائدة (وهذا عمل له الصفة الاجتماعية
الدنيوية)، ولا يقدَّر بحسب نوعية خياره الديني (لأن الخيار الديني له صفة الفائدة
الفردية الأخروية).
2-وما له علاقة بمفهوم (السمو في الخلق والروح) فهذا مفهوم أخلاقي عام،
وهو يرتبط بالتربية الشخصية، أو الاجتماعية الوطنية، أو الاجتماعية الإنسانية. ويُلاحظ
أن الدستور أولى العلاقات الإنسانية بين الدول أهمية خاصة، علاقات ليست مبنية على
قواعد الخيارات الدينية، بل اعتبر أن العرب جزء من المجتمع الإنساني على تعددية
انتماءاته الدينية، يشارك في قيمه وحضارته، يتغذون منه ويغذونه، ويتعاونون معه على
إيجاد نظم عادلة.
وينحو البعض باتجاه تفسير مصطلح (الرسالة
الخالدة)، أي تفسير ما جاء في مقدمة المبدأ الثالث (رسالة
الأمة العربية) على أنه مرتبط بالدين، فينقض هذا التفسير إذا ما قرأنا النص الحرفي
للمبدأ، والذي جاء فيه: (الأمة العربية ذات رسالة خالدة تظهر بأشكال متجددة
متكاملة في مراحل التاريخ. وترمي إلى تجديد القيم الإنسانية وحفز التقدم البشري
وتنمية الانسجام والتعاون بين الأمم). وهنا، نعتبر أن ما جاء في المقدمة واضح
تماماً، وهو ليس بحاجة إلى الاجتهاد، والدليل على ذلك، أن النص استخدم مصطلح
(الرسالة الخالدة) بأنها (تظهر بأشكال متجددة متكاملة في مراحل التاريخ)،
وهذا التحديد يشمل فيما يشمل مرحلة ما قبل الإسلام، كما يشمل مرحلة ما بعد الدولة
الإسلامية، أي مرحلة (الدولة القومية). والرسالة الخالدة، هنا، هي ما عدَّه
الدستور مبدأً إنسانياً عاماً يرمي (إلى تجديد القيم الإنسانية وحفز التقدم البشري
وتنمية الانسجام والتعاون بين الأمم). ومعنى الخلود (الدوام والاستمرار إلى نهاية
الزمان)، ولن تكتسب الرسالة الخالدة معنى إذا لم تكن عامة تشمل القيم المشتركة بين
كل المجتمعات على اختلاف معتقداتها وألوانها، وإذا لم تقدم للبشرية على الدوام
إنجازات حضارية تصب في مصلحتها.
-نتيجة أولى: من قراءتنا لمبادئ الحزب الأساسية نجد أن حرية
الاعتقاد بمفهومه الديني، ليس مبدأً ثابتاً. فالمبدأ الثابت في مبادئ الحزب هو
الإيمان بـ (الوحدة العربية وبالحرية)، وبـ (تجديد القيم الإنسانية وحفز التقدم البشري)، بينما
الإيمان الديني هو متغير، وإن أكد الدستور على حرية الاعتقاد،لكنه لم يلزم أياً من
مواطني الدولة القومية بالاعتقاد بدين محدد. فالالزام بدين محدد لا يستقيم مع
مبدأيْ: (حرية الاعتقاد على مستوى الدولة القومية)،و(الانسجام والتعاون بين الأمم
على المستوى الإنساني العالمي)، لأن المجتمع القومي متعدد الانتماءات الدينية، ولأن
الأمم الأخرى تدين بأديان أخرى غير الإسلام، كالمسيحية واليهودية والبوذية...
إلخ...
2-المبادئ
العامة:
وبالعودة
إلى المبادئ العامة، نجد أن الحزب يؤكد الثوابت التالية:
أ-هو(حزب قومي يؤمن بأن القومية حقيقة حية خالدة،
وبأن الشعور القومي الواعي الذي يربط الفرد بأمته ربطاً وثيقاً هو شعور مقدس...)
(المادة 3).
بـ-هو (حزب اشتراكي يؤمن بأن الاشتراكية ضرورة منبعثة من صميم القومية
العربية لأنها النظام الأمثل). (المادة 4).
جـ-هو (حزب شعبي يؤمن بأن السيادة هي ملك الشعب وأنه وحده مصدر كل سلطة
وقيادة، وأن قيمة الدولة ناجمة عن انبثاقها عن إرادة الجماهير، كما أن قدسيتها
متوقفة على مدى حريتهم في اختيارها). (المادة 5).
د-يؤمن الحزب بأن (العربي هو من كانت لغته العربية، وعاش في الأرض
العربية أو تطلع إلى الحياة فيها، وآمن بانتسابه إلى الأمة العربية). (المادة 10).
نستنتج من المبادئ
العامة أعلاه، أن الثوابت فيها هي التالية:
1-القومية حقيقة
خالدة، والشعور القومي شعور مقدس.
2-الاشتراكية هي
النظام الأمثل.
3-السيادة الشعبية،
وهي مقدسَّة.
4- شروط الانتماء
للأمة هي اللغة والسكن والإيمان بالانتساب إليها.
ما هو مقدَّس بنص
الدستور هو أن القومية تشكل الحقيقة الخالدة، والشعور القومي هو شعور مقدس. والاشتراكية
هي النظام الأمثل، والسيادة الشعبية هي مقدسة، والإيمان بالانتساب للأمة العربية
هو من أهم أعمدة البعد الإيماني في فكر البعث.
-نتيجة ثانية: لم يرد في المبادئ العامة
لدستور الحزب، أي ذكر للإيمان بمعناه الديني، بل إن ما اعتبره مقدساً بالنص هي
القومية الخالدة، والشعور القومي المقدَّس.
-نتيجة ثالثة: لقد سبقت أقوال مؤسس البعث
باعتبار (العروبة جسد روحها الإسلام) ما جاء في دستور الحزب. ولأن وضع
الدستور وإعلانه لم يضع نصاً يؤكد ما جاء في قول مؤسس الحزب، يعني ذلك أن قوله،
المشار إليه، لا يُعتبر ثابتاً إيمانياً دينياً ملزماً للمواطنين في الدولة
القومية المدنية. بل إن في قوله ما يربط تاريخ المرحلة الإسلامية بتاريخ التكوين
الرئيسي للأمة العربية. ففي تاريخ المرحلة الإسلامية انتقل العرب من شعوب وقبائل
إلى وحدة جمعتهم لأول مرة في مرحلة تاريخهم ما قبل الإسلام. وما يعزز هذا التفسير
هو ما جاء في
المادة 17 من الدستور، التي تنص على أن الحزب يعمل على: «تعميم الروح الشعبية
(حكم الشعب) وجعلها حقيقة حية في الحياة الفردية، ويسعى إلى وضع دستور للدولة يكفل
للمواطنين العرب المساواة المطلقة أمام القانون والتعبير بملء الحرية عن
إرادتهم...».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق