السبت، نوفمبر 12، 2016

نحو تأسيس مفهوم للبعد الإيماني (الحلقة الرابعة)

نحو تأسيس مفهوم للبعد الإيماني
في فكر حزب البعث العربي الاشتراكي

(الحلقة الرابعة)

البعد الإيماني في نصوص مؤسس البعث:

ثالثاً: البعد الإيماني في نصوص مؤسس البعث:
لأنه تربى في بيئة عروبية في سورية، (مواليد العام 1910)، ولأنه عايش منذ بواكير وعيه مشكلات الأمة العربية، في مرحلة الانتداب الفرنسي الإنكليزي. ومع انتشار كتابات عدد من المفكرين القوميين بالتنظير للفكر القومي المرتبط بالدعوة إلى تحرير الأمة العربية. بدأت مراحل وعيه تنمو على تأييد تلك الدعوات.
في تلك المرحلة تسنى له أن يتابع دراسته في الجامعات الفرنسية، (أنهى دراساته في العام 1933)، وهناك تأثر بعدد من الظواهر التحررية سواء بالحركات أم بالمفكرين، ولعلَّ أكثر من تأثر بهم، مصدرين رئيسين، وهما:
1-الحزب الشيوعي الفرنسي خاصة والحركة الشيوعية عامة.واعتبر، كما جاء في كتاب (القومية العربية وموقفها من الشيوعية)، الذي اشترك بتأليفه مع صلاح الدين البيطار، أن الشيوعية في تلك المرحلة، كانت تشكل (ضربة تصيب الاستعمار الأجنبي، وثانياً، لأنها مُلقِّح ومحرك للفكر العربي الجامد الآسن تهزه بتطرفها هزَّاً عنيفاً). ولكن موقفه تغيَّر من الشيوعية في العام 1936، ومنذ تلك السنة أعاد النظر مع صلاح الدين البيطار في الكثير من آرائهما عن الشيوعية ونظرتها إلى المنهج الاشتراكي.
2-ومنذ بداية تكوينه الفكري، تأثر مؤسس البعث، كما نرجِّح، بأفكار هنري برغسون (1859 -1941).وبرغسون هو الفيلسوف الفرنسي، رائد فلسفة المنهج الحدسي، وقد وضع أسسها للدفاع عن منهج المعرفة الإيمانية كبديل للمعرفة البرهانية القائمة على العقل. وهنا رأى برغسون ضالته المنهجية في البطل والبطولة. فعدَّ البطل مثالاً للمتميزين منهم. كما حاول (أن ينقذ القيم التي اطاحها المذهب المادي، ويؤكد ايماناً لا يتزعزع بالروح).
وترجيحنا لتأثره بالمنهج الحدسي البرغسوني، هو أن ميشيل عفلق نشر مقالته (عهد البطولة) في العام 1935. واستطراداً، ومن خلال دراسة منهجه في التفكير الفلسفي، من خلال كتاباته، يظهر انسجامه الواضح مع ذلك المنهج، من جهة، وبنائه لأسس العلاقة بين الروح والمادة، بين المنهج البرهاني والمنهج العقلي، بين القومية والدين، بين العروبة والإسلام. وإذا لم يكن عفلق قد اختط طريق التنظير الفلسفي إلاَّ أنه اختط طريق الاستفادة من الفلسفة البرغسونية في التقريب بين المنهجين العلمي والحدسي.
كانت هذه المقدمة ضرورية لتحديد منهج عفلق في الوصول إلى المعرفة، وهذه مسألة ضرورية، من أجل تفسير الكثير من نصوصه التي تحتمل الالتباس بين دمج العروبة مع الإسلام واعتبار علاقتهما عضوية، السبب الذي تكاثرت الاجتهادات حول بعض مسلماته كمثل قوله (العروبة جسد روحها الإسلام)، أو أنه (لا يفهم أن يكون الإنسان عربياً، ولا يكون مسلماً). فانقسمت اجتهادات البعثيين إلى اجتهادين رئيسين:
1-اعتبر قسم منهم أن منهج عفلق إسلامياً أولاً وقومياً ثانياً، وراح يستخدم المقولات القوميات لتبرير إسلامية منهجه.
2-وقسم اعتبره منهجاً قومياً أولاً يستعين بالإسلام ثانياً لتعزيز نظرته القومية.
بحيث تبارى الاجتهادان بالعودة إلى النصوص الإسلامية للدفاع عن وجهتهم بالاجتهاد. وبعيداً عن تعدد الاجتهادات عند البعثيين، فقد أغرى منهجه المعرفي مفكرين إسلاميين لتعزيز منطلقاتهم الإسلامية، أي اعتبار الإسلام أولاً، وحصر الفضل بالإسلام في تكوين القومية العربية. ومن أشهر من اعتنى بذلك من المفكرين الإسلاميين، هما الدكتور محمد عمارة، الذي قدم دراسة يحسب فيها أن عفلق لو لم يمت لكان عليه أن يتبنى الإسلام الإيديولوجي وليس الإسلام الحضاري فقط. وأما محمد حسين فضل الله، فقد أجاب على سؤال وُجِّه إليه عن رأيه بعلاقة العروبة والإسلام، فأجاب: (كما قال ميشيل عفلق إن العروبة جسد روحها الإسلام).
وبدورنا، وبموقعنا البعثي، سنتقدم باجتهاد آخر مبنياً على نصوص عفلق، وذلك بربط نصوصه بمنهجه المعرفي.
اعتبر عفلق أنه يقدس حقيقتين، كما جاء في خطابه (في ذكرى الرسول العربي) في العام 1943، وهما: الإيمان بالله والقومية. أي الإيمان بالله، والإيمان بالشعور القومي.
وهو بذلك أعطى أولوية للإيمان بالله، وهو ثابت للإيمان الديني. وهو الجامع المشترك لأيديولوجيات الأديان السماوية، كونه نهجاً ميتافيزيقياً، له علاقة بمصير الإنسان بعد الموت. وهذا لا يعني موقفاً سلبياً من الأديان الأخرى التي ترمز لآلهتها برموزها الخاصة.
وأما تقديسه للشعور القومي، فلكونه نهجاً إيمانياً دنيوياً، له علاقة بحياة البشر وواقعهم الحسي الملموس. ولأن القومية حقيقة أخرى مقدسة عند عفلق، ولكنها حقيقة دنيوية، ولأن القومية تعني أن المجتمع القومي متعدد الأديان، فلا يمكنه سوى الاعتراف بحقوق الأديان الأخرى في المجتمع القومي.
وأما تفضيله للإسلام، كما جاء في خطابه المذكور بأن (العروبة جسد روحها الإسلام)، فلم يكن لأسباب أيديولوجية. وإذا كان الأمر غير ذلك فيعني أن عليه أن يبني أفكاره على أساس أن أي مجتمع قومي يجب أن يعتقد كل أفراده بدين واحد هو الإسلام. ولأن واقع المجتمع القومي هو تعددية في الأديان يؤكد أن عفلق لم يبن أفكاره على أساس أيديولوجي إسلامي.
وهنا يرتفع السؤال تلقائياً: إذن لماذا قال عفلق ما قاله عن علاقة عضوية بين العروبة والإسلام؟
وللإجابة عن رأينا حول ذلك، نعود إلى التذكير بالأسس المنهجية التي استند إليها عفلق في منهجه المعرفي.
-أولاً: تأثره بالمنهج المعرفي البرغسوني القائم على وجوب مبدأ (البطولة) في تحرير المجتمعات، وكتابة عفلق مقاله عن (عهد البطولة) في العام 1935، يعتبر عفلق أن النبي محمد كان الأنموذج في تحرير عرب الجزيرة من التفتيت العشائري والقبلي أولاً، وتحرير الأرض العربية من إمبراطوريتيْ الفرس والروم.
-ثانياً: أتم النبي محمد رسالته في التوحيد والتحرير على أساس دعوة دينية، وهي الدعوة الإسلامية.
-ثالثاً: وإذا كان التوحيد والتحرير هما الغاية الاستراتيجية، فلن تكون الوسيلة عائقاً، ويجب أن لا تكون. فكان مؤسس الدعوة الإسلامية هو البطل، وكانت الدعوة هي الوسيلة.
-رابعاً:وإذا كان البطل عربياً، وإذا كان المجتمع العربي، متعدد الانتماءات الدينية، قد استفاد من نتائج التحرير على أيدي بطل مسلم، وبواسطة دعوة دينية هي الإسلام، فليس هناك، كما يؤمن عفلق، ما يضير العرب من غير المسلمين، لا بل دعاهم لأن يدينوا بالفضل للبطل المسلم. ولذلك قال: (فلا نستطيع أن نتغنى ببطل من أبطالنا الخالدين بصفته عربياً ونهمله أو ننفر منه بصفته مسلماً).
وفي هذه الدراسة، واختصاراً، حصر عفلق مفهومه للبعد الإيماني بمعانيه العامة والشاملة من دون الغرق بالأيديولوجيات الدينية. وإذا كان قد أعطاها اهتماماً، وخاصة بالإسلام، فلعلاقتها بتشكيل دوافع وحوافز للمجتمع العربي من أجل التحرر الداخلي والتحرير من هيمنة الخارج. وما عداها من التفاصيل فقد تركها للخيارات الذاتية على أن لا تمس بأسس العدالة والمساواة المبنية على أسس القيم الإنسانية العليا. ومن يتابع كتاباته بشكل شمولي، وليس بانتقائية، سيجد أن منهجه يرفض الغرق بتفاصيل الإيديولوجيات الخاصة بكل دين. والدليل على ذلك أنه يعلن رفضه لقيام دولة دينية فحسب، بل أكَّد على قدسية واحدة معاشة ومحسوسة هي قدسية الشعور القومي.


ليست هناك تعليقات: