قراءة في نتائج انتخابات الرئاسة
الأميركية
وقائع واحتمالات
انتهى عهد رئيس وبدأ عهد رئيس في الولايات
المتحدة الأميركية. سقط الحزب الديموقراطي، نجح الحزب الجمهوري. سقطت هيلاري
كلينتون، نجح دونالد ترامب. أعلن البعض أسفه على سقوط كلنتون، والبعض أعلن خوفه من
نجاح ترامب، كل ردود الأفعال حديث خرافة إذا بُنيت المواقف على احتمال متغيرات في
الأيديولوجية الأميركية. فالعرب دفعوا ثمناً كبيراً من المغامرات العسكرية لجورج
بوش الجمهوري، كما دفعوا أثماناً لا تقل خطورة نتيجة قفازات أوباما المخملية. إن
حصل تغيير في الأسماء وفي الأحزاب، لكن هذا لا يعني أن الاستراتيجية ثابتة بكل
تفاصيلها، وبكل الوسائل التي تعتمدها الإدارات المتعاقبة لتنفيذها. وهذا لا يعني
أيضاً أن هناك ثبات في تلك الاستراتيجية إذا ما واجهت عقبات وعراقيل وعوائق وعوامل
قاهرة.
آخذين بعين الاعتبار هذه المقدمة، ولأن
الولايات المتحدة الأميركية ستبقى حتى هذه اللحظة عبئاً ثقيلاً ينوء العالم تحت
وطأته، سنغامر بقراءة نتائج الانتخابات الأميركية الأخيرة، على ضوء الأحداث
والمتغيرات التي ألقت بالثقل الأميركي على مصير الوطن العربي والمنطقة بعد احتلال
العراق، وعلى ضوء ما أنجزته المقاومة الوطنية العراقية عندما أعاقت القوة
الأميركية وعرقلت مشاريعها، وحالت دون تنفيذها بالسرعة التي خططت لها إدارة جورج
بوش الإبن.
وهنا، لا يمكن لأحد أن يزعم أنه أسهم في وضع
تلك العوائق في وجه تسونامي اليمين الأميركي المتطرف بمعزل عن دور المقاومة
العراقية، فهي أول من دقَّ جرس تحدي المشروع الأميركي القائم على أسس استراتيجية
حكم العالم بقطبية أميركية منفردة، ومنفلتة من أية قيود. وهي التي أرغمت قواتها
المحتلة على الانسحاب الذليل اتقاء لشرور أعظم قد تلحق بهيبة أميركا بعد أن
مرَّغها أبطال المقاومة بالوحل والطين. وتركت عشرات آلاف الأميركيين أمواتاً في
باطن الأرض، أو صرعى في مستشفيات العلاج النفسي، أومقعدين يتنقلون على كراسي
كهربائية، أو يتكئون على أرجل من خشب. هذا ناهيك عن إيقاعها في أكبر أزمة مالية
منذ تسلقها مقعد قيادة العالم بعد الحرب العالمية الثانية.
تعريف للاستراتيجية الأميركية في الأهداف
والحكم
بداية لا بُدَّ من إعادة التذكير
بالاستراتيجية الأميركية، التي كانت قائمة، وما تزال، على القواعد التالية:
-أمن الكيان الصهيوني، الذي يأتي في
أولوياتها.
-أمن النفط في الوطن العربي.
-العمل على انتصار الرأسمالية الأميركية في
مواجهة النظام الاشتراكي، بما يعنيه من إقصاء أية قوة منافسة للعولمة الرأسمالية،
أو منافسة الآلة الصناعية الأميركية، في كل زمان ومكان.
ومن سمات الديموقراطية الأميركية أنها وضعت
الناخب الأميركي أمام خيارين، وهما: إما أن تختار الرأسمالية، أو تختار
الرأسمالية. وأما الخيار بين الحزبين الديموقراطي أو الجمهوري، فهي أكذوبة واضحة
لأن الحزبين هما حزبان رأسماليان، وعلى كل منهما أن يكون حارساً أميناً على حماية
الاستراتيجية الأميركية بعناوينها الرئيسية.
وهنا، نسجل ملاحظة أساسية، وهي ثبات
الاستراتيجية الأميركية التي تعمل على حماية رأسمالية (العرق الأبيض)، وأما اعتراف
النظام الأميركي بالأعراق الأخرى، فلكي يشكل تغطية إعلامية للتعتيم على جوهر
الاستراتيجية الأم. ومع العلم بأن الحزبين الحاكمين، الذي يقتضي أن يكون أحدهما في
الحكم، بينما يكون الآخر حكماً في صف المعارضة، تبقى ما تُسمى (الحكومة الخفية) هي
التي تحرس الاستراتيجية وتسهر على تطبيقها. وما اختلاف الحزبين الحاكمين، في ظل
المحاصصة على تناوب الحكم، إلاَّ في الوسائل التفصيلية وليس الاستراتيجية.
الاستراتيجية الأميركية المتوحشة تنفلت من
عقالها بعد انهيار القطبية الثانية:
من أهم وسائل الإدارات الأميركية المتعاقبة،
من أجل تذليل كل العقبات من طريقها، هو إزاحة الاتحاد السوفياتي وتفكيكه على
المستوى الدولي لمنع دوره الافتراضي في حماية كل خارج عن الإرادة الأميركية، وهذا
ما حصل منذ العام 1991. حينذاك تفرَّغت تلك الإدارات من أجل الإطباق على كل مظهر،
أو فكرة، أو تيار سياسي أو فكري، يعيق استراتيجيتها في حماية أمن
"إسرائيل" وأمن النفط. ولأن فكرة القومية العربية كانت تشكل العائق
الأساسي، ولأن الأنظمة والأحزاب العربية التي رفعت لواء القومية خسرت غطاءها
الدولي الافتراضي بتفكك الاتحاد السوفياتي، فقد احتل تفكيكها الأولوية في
الاستراتيجية الأميركية. ولذلك أصبح الوضع في الوطن العربي الشغل الشاغل لتلك
الإدارات، فأعلنت البدء باستراتيجة تغيير الأوضاع في الشرق الأوسط، فوضع مشروع
الشرق الأوسط الجديد قيد التنفيذ على أن تبدأ خطواته الأولى في العراق. وهكذا بدأت
حلقات المسلسل الطويل في حكاية الأمة العربية مع الأخطبوط الرأسمالي المتوحش.
احتلال العراق كان عقدة النجار الأولى التي
وضعت الاستراتيجية الأميركية في المأزق:
ولأن تفكيك أقطار الوطن العربي، كما أثبتت
صحتها مسارات التاريخ، يقتضي وجود قواعد انطلاق قريبة من حدود الوطن والمتمثلة
تاريخياً بدولتين: إيران وتركيا، كان لا بُدَّ للاستراتيجيات الأميركية من أن تعيد
إلى الواجهة حلف بغداد بطريقة جديدة، لذا أعادت التعاون مع كليهما، وإن بوجوه
جديدة. فاستبدل نظام الشاه العلماني بنظام الملالي الديني. واستبدل نظام العسكر
العلماني في تركيا بنظام أقرب من الإسلام السياسي.
ولكي تقلل من خسائرها، وتوفِّر غطاء دولياً
لاحتلالها، فقد دعت عدداً من الدول بمثابة الحصول على تواقيعهم لإضفاء شرعية دولية
على جريمتها، وقد وعدتهم ببعض الفوائد بما دعته (إعادة إعمار العراق).
إدارة أوباما تلتف على هزيمة أميركا في
العراق بتسليمه إلى نظام الملالي:
عندما احتلت الولايات المتحدة الأميركية،
وشاركت الكثير من ثعالب العالم إغراء لهم بحصة من تقسيم الكعكة العراقية، وجرَّت
فيها بعض دول الإقليم الجغرافي، ولأنها خطَّطت ونفَّذت اعتبرت حقاً لها أن تكون
الوحيدة التي تترأس طاولة الوليمة، على أن يكون جميع المشاركين ممن ينتظرون فتات
المائدة يلقي بها إليهم الإمبراطور الأميركي ببقايا المائدة. فكانت النتيجة أن
الجميع، باستثناء نظام الملالي في إيران، قد فروا من جهنم العراق يلوذون بسلامة من
زجُّوهم بها من الجنود. ولم يبق سوى نظام الملالي الذي اعتبر نفسه أن خسارة العراق
إذا انسحب الأميركيون لن تشكل لهم خسارة لأنهم سرقوا منه ما سرقوا ولكنهم لم
يدفعوا قطرة دم واحدة، وإذا شاركهم الأميركيون باحتلال العراق نيابة عن
الأميركيين، فتكون الأرباح دسمة إلى الحد الذي لم يكونوا يحلموا بجزء يسير مما
سيجنونه من تسليمهم إدارة الاحتلال.
وإذا كانت خسائر التاجر الأميركي محقَّقة،
فالإدارة الأميركية رضىت بأن تقلِّل منها بسحب جنودها من العراق. ولكي لا يكون
الانسحاب الأميركي خسارة كلها، ولأن نظام الملالي في طهران يستطيع البقاء
الافتراضي فيه لأكثر من عامل جغرافي وأيديولوجي، ولأن هناك تماثل بين مشروعيهما
على صعيد الشرق الأوسط الجديد، فقد ارتضت إدارة أوباما أن تسلِّم العراق لإيران
لقاء تقاسمهما محاصيل السرقات. وهذا ما يعوِّض الخسارة الكاملة. إلاَّ أن هذا التنازل،
في المنظور الأميركي، كان تنازلاً مؤقتاً، لأن الإدارات اللاحقة بيتت التراجع عن
قرارها عندما يحين الظرف المناسب. ولكن لم تبحر سفن التحالف المذكور حسبما يتمنى
البحار الأميركي، إذ حصلت متغيرات على الصعد الدولية والإقليمية والعربية، أرغمت
السفن الأميركية على الإبحار عكس ما يريده قبطانها. فما هي تلك العوامل؟
عوامل أسهمت في فرض
متغيرات متوقَّعة على الاستراتيجية الأميركية في عهد ترامب:
-العامل الأول:
دور المقاومة
الوطنية العراقية في إلحاق الهزيمة بقوات الاحتلال الأميركي، دفع بالرئيس أوباما لتغيير
وسائل القوة العسكرية بالتدخل المباشر والانتقال إلى أسلوب القوة الناعمة. وهي
المرة الأولى بعد هزيمة النظام الأميركي في فييتنام، التي يعترف فيها أن استخدام
القوة العسكرية الأميركية المباشرة لن تكون المدخل الصحيح لتوسيع النفوذ الأميركي.
واستطراداً نحض العالم كله للاعتراف لتلك المقاومة بهذا الإنجاز التاريخي الذي
سينعم فيه العالم، ويصبح أكثر جمالاً من دون بروز عضلات رامبو الأميركي، لأنه أصبح
لا يرهب سوى الضعفاء، وأصبح التهويل بالقوة العسكرية الأميركية شيكاً من دون رصيد.
-العامل الثاني:
إستعادة الصحوة
الروسية، وهو ما تبقى من إرث الاتحاد السوفياتي، منذ العام 2011، عندما تعرَّضت
مصالحها للخطر الفعلي، ابتداء من الأزمة السورية. فكانت البداية في إعادة تكوين
عالم تحكمه أكثر من قطبية واحدة. وهذا ما يمكن أن نسجله على حساب المتغيرات على
الصعيد الدولي. وهنا، نضع تصريح ترامب في اتجاهاته العامة التي تقتضي بناء علاقات
ثقة مع روسيا، والعمل على الاعتراف بمصالحها في سورية، واعترافه بضرورة تنشيط
وسائل الحل السياسي.
-العامل الثالث:
تقليص الصداقات
لغير مصلحة أميركا، وإكثار في عدد العداوات، وخاصة مع دول الخليج العربي من جهة،
وتركيا من جهة أخرى. فما هي التوقعات التي ننتظرها من إدارة ترامب؟
وعن السعودية ودول
الخليج العربي، نتساءل كيف يمكن لإدارة ترامب أن ترقِّع ما فتقته إدارة أوباما، خاصة
وإنه قد نسبت إليه تصريحات متناقضة. فقد اعتبر أن السعودية بقرة حلوباً إذا ما
جفَّ ضرعها يمكنه أن يذبحها، وتارة أخرى طالب السعودية بتقديم ثمن لخدمات الحماية التي
تقدمها أميركا لها، وتارة ثالثة صرَّح بأنه سيؤسس ائتلافاً مع دول الخليج العربي،
وهو الأمر الذي عارضه سلفه أوباما.
وأما عن تركيا،
فالفتق بالعلاقات أصبحت عميقة بشكل بالغ بعد أن حضَّرت إدارة أوباما انقلاباً كاد
يطيح بنظام أردوغان؟
تحليل واستنتاجات
حول عوامل التغيير في السياسة الأميركية:
بعد استعراض عناوين
العوامل الثلاث التي وضعت الإدارة الأميركية في مواقف محرجة والتي، كما نحسب، أنها
ستفرض متغيرات على الاستراتيجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط، سنقوم بعرض
استنتاجتنا لما نتصوره بداية لوضع حلول، يمكن أن تصيب أو أن تخطئ. إلاَّ أن فائدة
ما سنقوم به هو أن نضع أسئلتنا أمام المهتمين بتحليل الوضع في أميركا بعد أفول عصر
إدارة أوباما، وبزوغ فجر إدارة ترامب.
-فأما بالنسبة للعامل الأول،
فقد ظهر التغيير مباشرة في عهد أوباما، إذ أعلنت المؤسسات الأميركية ذات الصلة فشل
استراتيجية (الصدمة والترويع) في توفير أمن المصالح الأميركية في العالم، ولذلك
استبدلتها بوسائل الديبلوماسية الناعمة، أي التدخل الأستخباراتي (الناعم)
على التدخل العسكري (الخشن) باهظ التكليف العسكرية، المادية والاعتبارية. وتأكيد
عدم التورط في حروب خارجية، شريطة أن لا يشكل تهديداً للأمن القومي الأمريكي بشكل
مباشر.
وباختصار نعتبر أن
هذه النتيجة أصبحت ثابتة وليست بحاجة إلى استنتاج أو احتمال أو توقع. وهو التغيير
الذي حصل ياستبدال استرتيجية (الصدمة والترويع) بوسائل أخرى على شرط امتناع أميركا
عن استخدام القوة العسكرية بشكل مباشر، سوى في حالة واحدة هي الحالة التي يتعرَّض
فيها الأمن الأميركي للخطر.
-وأما بالنسبة للعامل الثاني،
وبعد تجربة عرض عضلات القوة العسكرية الأميركية من أجل إخضاع روسيا خاصة في القضية
السورية، وحيث إنها فشلت فشلاً ذريعاً، فلا نعتقد بأن الإدارة الجديدة ستُعيد
التجربة مرة أخرى. وإنما أهون الحلول هو العودة إلى تجربة الحرب الباردة التي نجحت
إلى حد بعيد في النصف الثاني من القرن العشرين، أو إلى وسائل التوافق على الملفات
الساخنة، بحيث لا يأكل الاتفاق من مصالح هذا الطرف الدولي لصالح الطرف الدولي
الآخر. وهذه النتيجة قد خرجت من باب الاستنتاج، بل أصبحت من الوقائع التي تنأى بنا
من خطأ التوقعات والاحتمالات. وهذه نتيجة ثانية يمكننا البناء عليها في معرض تحليل
القضايا التي يُتوقع فيها أكثر من احتمال. وأما النتيجة فهي فشل الاستراتيجية
الأميركية في فرض نفسها قطبية وحيدة تحكم العالم من دون أي شريك.
-وأما بالنسبة للعامل الثالث، فيتعلَّق
بالأخطاء التي وقعت فيها إدارتا بوش وأوباما في التعاطي مع قضايا الشرق الأوسط بشكل
عام، وقضايا الوطن العربي بشكل خاص. ونعتبر أن العامل الثالث هو الأكثر تعقيداً،
وليست الإجابة عليه بالسهولة بمكان. وهو الذي يحتاج في حساباتنا إلى الكثير من
التحليل على قاعدة إعادة فرز ما تتداخل القضايا فيه، ومن ثم إعادة تركيبها بما
يتناسب مع مظاهر المواقف المعروفة إذا ثبتت مصداقيتها، أو رصد المواقف غير المعلنة
حتى تثبت مصداقيتها. هذا علماً أن التداخلات بين المواقف تتوزَّع بين القوى
الدولية العظمى، وكذلك بين القوى الإقليمية.
ولذلك، وعن هذا
العامل، سنطرح الأسئلة التالية:
-إن السؤال الأكثر
إلحاحاً، هو التالي: إذا كان الاحتلال الإيراني للعراق ضمانة للمصالح الأميركية الآن،
وإذا أراد ترامب أن لا يشارك أحداً في سرقة ثروات العراق، كما صرَّح أخيراً، فكيف
يستطيع فكَّ الشراكة مع النظام الإيراني التي وقعها الفريقان قبل خروج القوات
الأميركية من العراق؟ وهل تستطيع أميركا أن تحمي سرقاتها من دون الحماية
الإيرانية؟ فإذا كان تصريحه للتنفيذ، فعلينا انتظاره لكي يفك اللغز. وإذا كان
لمساومة النظام الإيراني على رفع حصة أميركا فهذا شيء آخر. وهذا ليس غريباً على
منهج اللصوص والعصابات المسلَّحة.
-وإذا كان النظام
الإيراني ضرورة أساسية لاستكمال تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد، كما خططت إدارة
أوباما. وشراكة النظام الإيراني في المشروع أساسية في تنفيذه. ولا تستطيع أميركا
أن تنفذه بمعزل عن دول الإقليم الجغرافي للوطن العربي، فهل لإدارة ترامب وسائل
أخرى لاستئناف التنفيذ؟ وبالتالي، وبعد أن أصبحت حظوظ نجاح المشروع في أدنى درجات
الضعف، فهل تبقى إدارة ترامب مصرَّة على تطبيقه؟ وهل يمكن الاستمرار فيه بمعزل عن
دور تركيا، خاصة بعد المتغيرات التي طرأت على الموقف التركي منذ أشهر معدودة؟
-واستكمالاً
للأسئلة أعلاه، هل يستطيع ترامب أن يوفِّق بين تأسيس ائتلاف مع دول الخليج، في
الوقت الذي حصلت فجوة في علاقات أميركا مع تلك الدول بسبب تحالف أميركا مع إيران؟
إنها أسئلة بديهية
وسهلة، ولكن للإجابة عنها بوضوح حواجز وعوائق. وإذا كانت التوقعات، سواءً أأصابت
أم أخفقت، فعلاً مشروعاً، فسوف نبني توقعاتنا على ما سوف تكون عليه الاستراتيجية
الأميركية في عهد دونالد ترامب، الرئيس الجديد للولايات المتحدة الأميركية.
وفي هذا المجال،
دعونا نستعيد معادلة ترامب التي أعلنها عن طريقة حله لإبقاء هيمنة الولايات
المتحدة الأميركية على العالم، وهي التالية: إنشاء صندوق للرشاوي من أجل جمع
الأموال عن طريق جبايتها من الدول كثمن لحمايتها وضمان هذا الحماية. أليست شبيهة
بأنظمة وقوانين الشركات الأمنية التي تقوم بواجبات الحماية الدفوعة الأجر للشركات
والدول؟
-المتغيرات المحتملة على صعيد تصحيح موازين العلاقات الدولية
المختلَّة:
في المفاهيم الرأسمالية يتحول الاقتصاد إلى عامل
أساسي في علاقات الدول، وإذا كانت التجارة من أهم أعمدة تلك المفاهيم، فلا يجوز أن
نهمل الجانب التجاري، ترويجاً للسلع المصنَّعة واستيراداً للمواد الخام، كعامل
مؤثر وأحياناً يكون أساسياً في علاقات الدول، وخاصة فيما له علاقة بموضوع دراستنا.
وبالتالي يكون اكتساب الأسواق عاملاً أساسياً في التنافس بين الدول الصناعية. وإذا
كانت التنافسية التجارية قد أصبحت الوسيلة
الوحيدة لضمان البقاء في الأسواق، فإن
المنافسة على الأسواق انتشر بشكل واسع بين الدول الصناعية الكبرى. والتسابق على
اكتسابها، حتى ولو بطرق القوة، أصبح عاملاً مؤثراً في علاقات الدول النامية مع
الدول الصناعية. وكثيراً ما تخلق المنافسة في هذا المجال النزاعات بين الدول
الكبرى، فيكون التلويح بالقوة العسكرية إحدى الوسائل التي تلجأ إليها تلك الدول.
وهذا شبيه بما آلت
إليه العلاقات على الصعيد الدولي، وخاصة بين أميركا وروسيا في المرحلة التي
استفاقت فيها روسيا على أن أميركا، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، تجتاح العالم
بالاستيلاء على كل المصالح الدولية، فوقفت روسيا في مواجهة هذا الاجتياح الذي لم
تنفع معه كل عربدات الإدارة الأميركية في عهد إدارة أوباما، التي وصلت إلى حافة
الصدام المباشرمع روسيا في تسابقهما على حيازة الوقع السوري. وأما اليوم فمن
المحتمل أن تصحح إدارة ترامب طريقة المنافسة الحادة مع روسيا باللجوء إلى الاتفاق
على توزيع الأسواق بينهما، والعودة إلى وسيلة التنافس البارد على اكتساب الدول
النامية كأسواق لمصالحهما التجارية والسياسية والعسكرية الاستراتيجة مع الدول
الأخرى.
ولأن إدارة أوباما
أوصلت الصراع مع روسيا إلى حافة الهاوية، فمن الاحتمالات الأكثر ترجيحاً أن تعيد
إدارة ترامب النظر بسياسة إدارة أوباما، وإصلاح الخلل في العلاقات مع الأقطاب
الدوليين وفي المقدمة منهم روسيا. لقد ولَّت إلى غير رجعة أحلام بناء (قرن أميركي
جديد)، وأصبح من المنطقي، ومن غير (المعقول
ان لا يتم التواصل بين دولتين نوويتين) كما صرَّح وليد
فارس، مستشار ترامب. وليس هذا من باب
التحليل بل له إسنادات في تصريحات دونالد ترامب أيضاً، حيث بادر إلى توجيه خطاب
ودي إلى الرئيس بوتين يوحي إليه فيه أنه على استعداد لبناء قواعد ثقة بين الدولتين
الأكبر في العالم. إنها العودة إلى مرحلة الحرب الباردة التي تستعيد ألقها الآن
بعد أكثر من خمسة وعشرين عاماً من سقوطها. إنها العودة إلى تقسيم مناطق النفوذ بين
الأقطاب الدوليين. ولكن في هذا التوازن في القوى بين دولتين نوويتين فرصة أمام
الأسواق العربية لأن تحسن اختيار التاجر الذي يقدم العروض الأفضل من بين
المتنافسين على طلب التعاون معها.
-المتغيرات المحتملة على صعيد دور أميركا في الشرق الأوسط:
تواجه الإدارة دونالد ترامب، حسب ما رشح عنه من تصريحات حتى
الآن:
-حول قضية احتلال العراق: وإذا كان
الجميع قد هربوا، ولحقت بهم أميركا، ومع صمود نظام الملالي فيه، يعني هذا أن معظم ثروات
العراق راحت تصب في جيوب الملالي، وهو في الوقت ذاته راح يحدد حصة أميركا بتلك
الثروات. وهذا فعلاً مما لم تكن تحلم فيه إيران بأكثر من أن يكون لها حصة تحدد
أميركا مقدارها. كما أن هذا المآل لم يكن ليخطر ببال إدارة جورج بوش و(حكومته
الخفية). وفي هذا الواقع يبرز الاختلال الشاسع في موازين المصالح في العراق بين
أميركا وإيران.
إن مآل مصير العراق، كما هو الآن، هو الذي
دفع بدونالد ترامب، الرئيس الجديد لأميركا، أن يقول: لماذا كان علينا أن نشارك
الآخرين في ثروات العراق؟ وهو يقصد بذلك إيران. وهو بالإضافة إلى اعتراضه على
الاتفاق النووي الذي وقعت عليه إدارة أوباما، ينبئ بتغيير ما، ليس على أن يترك ترامب
العراق لأهله، بل العمل في الحد الأدنى على استئثار أميركا بثروات العراق، وعلى أن
تكون هي الآمر والناهي في توزيع الحصص على الآخرين. وفي حده الأقصى مساومة
الإيرانيين عن طريقة المناقصة لتحديد الحد الأقصى لهم من سرقة ثروات العراق. فهل
سيغيِّر ترامب هذه المعادلة، وكيف، ومتى؟
إنه من أجل أن يُخضع النظام الإيراني ويرغمه
على تقديم التنازلات، أرسل إليه رسالة مسبقة يهدده فيها قائلاً على لسان مستشاره
وليد فارس: (إنه
يرفض أن يكون هناك تدخل عسكري استخباراتي ايراني في العراق وسوريا ولبنان).
على أية حال، ولتشابك مصالح أميركا مع مصالح
إيران في العراق، بسبب من تبادلهما عوامل القوة إذ لا استقرار لأحدهما في العراق من
دون وجود الآخر، وهذا ما تعرفه إدارة ترامب القادمة، فهل يجرؤ ترامب على اتخاذ
قرارات صعبة يقرر فيها أنه مستعد لخسارة النظام الإيراني؟ وبالتالي يشكل له خسارة
كبيرة يجنيها من سرقة ثروات العراق، لأن خروج إيران من العراق يعني استحالة وجود
أميركا فيه. فالنظام الإيراني هو الذي يحمي وجود أميركا العسكري والسياسي
والاقتصادي في العراق.
إنه خيار صعب وأكثر من مؤلم، وقد لا تقدم
عليه إدارة ترامب إذا غابت عوامل أخرى عن التأثير في تحديد اتجاهات القرار الذي
ستتخذه الإدارة الجديدة بشأن العراق، ومصدر تلك العوامل تجمع بين العربي
والإقليمي. إن هذا المأزق، لوجود عوامل تأثير أخرى، هي التي أربكت إدارة أوباما
وأوقعتها في أخطاء فادحة، ووضعتها في مأزق الخيار بين التعاون مع إيران وخسارة
آخرين من حلفاء أميركا السابقين، وهو المأزق ذاته الذي ستقع فيه إدارة ترامب. فهل من
مخارج لديه لحل تعقيدات هذا المأزق؟
إذن الجواب على هذه الإشكالية سيكون قاصراً
ما لم يتم ربط التحليل، والجواب على كيفية حلها، بدون تحديد جواب واضح عن كيفية
التوفيق بالجمع بين ضدين لا يلتقيان، بين التدخل الإيراني وإزالة المخاوف لدى دول
الخليج العربي من جهة، وتركيا من جهة أخرى. وهو ما سنلقي عليه بعض الأضواء في
الفقرة التالية:
-المتغيرات المحتملة في العلاقات الأميركية مع
دول الخليج العربي:
لقد شكَّل التحالف الأميركي – الإيراني
مأزقاً كبيراً في علاقة إدارة أوباما مع دول الخليج العربي. وعلى الرغم من كل وعود
الإدارة المذكورة لتطمين تلك الدول، وعلى الرغم من كل وعيدها وتهديدها لها، لم
تنجح جهوده في إقناع وتطمين دول الخليج العربي، بل أصابها الفشل الذريع، فازدادت
الفجوة بين المواقف. منذ تلك اللحظة وُضعت إدارة أوباما أمام خيارين أحلاهما كان
مرَّاً: استمرار التحالف الخليجي مع
أميركا على شرط قطع التعاون مع النظام الإيراني، أو على الأقل ابتعاده عن أحلامه
الإمبراطورية، ومنعه من التدخل في الشأن العربي الداخلي. ولما اختار أوباما
استمرار التعاون مع النظام الإيراني، غير آبه بمخاوف دول الخليج، حصلت قطيعة
أميركا مع حلفائها السابقين.
إن إدارة ترامب تعرف تمام المعرفة هذه
الوقائع، وتعرف أيضاً أنه إذا لم تحصل متغيرات في الموقف الأميركي من النظام
الإيراني، خاصة عامل الاحتلال الإيراني للعراق الذي يأتي في الدرجة الأولى، وكبح
جموح النظام الإيراني في اليمن وسورية ولبنان، فمن الأفضل لإدارة ترامب أن لا
تضيِّع وقتها.
وهنا، وبانتظار ما ستقرره إدارة ترامب،
ويضيف البعض حتى يبدأ بتعيين أركان إدارته، نتوقَّع أن تأخذ أخطاء إدارة أوباما
بعين الحرص الشديد. وغير ذلك فستضع نفسها أمام مآزق جديدة – قديمة. وهكذا
تستمر في الدوران في الحلقة المغلقة.
وأخيراً،
واستناداً إلى نتائج هذه الدراسة، نحسب أنه
ما لم يطرأ تغيير على صعيد الوسائل الاستراتيجية لتعاطي الإدارة الأميركية الجديدة
مع الملفات الشائكة على الصعد الدولية والإقليمية والعربية، فإن الأمور سائرة
باتجاه الأسوأ. وإذا صحَّت بعض الاحتمالات الواردة في هذه الدراسة، أو كلها،
فالأوضاع سائرة باتجاه التهدئة بانتظار وضعها على طاولات المفاوضات السياسية الأميركية
من جهة، مع كل من روسيا وتركيا وإيران ودول الخليج العربي، منفردة أو ثنائية أو
أكثر، من جهة أخرى. ولكن...
لن تنتج إية طاولة مفاوضات تتناول الاحتلال
الإيراني، والاحتلال الأميركي للعراق، أية حلول لها حظ بالتنفيذ بعيداً عن دور
كبير للمقاومة الوطنية العراقية. فهي التي وضعت الإدارة الأميركية أمام كل المآزق
التي رست عليها. ولن تجد أميركا والآخرون حلولاً للتهدئة سوى باعتماد ثوابت
المقاومة العراقية أساساً لكل التسويات السياسية لمشاكل المنطقة إذا قُيِّض لها أن
تأخذ طريقها باتجاه الحلول.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق