مفهوم العلاقة بين العولمة والعالمية:
مقاربات وإشكاليات مع الثقافة الدينية
(الحلقة الثانية والأخيرة)
(2/ 2)
إشكالية
مقاربـة النص الديني مع انتشار العولمـة/ الأنسنـة
في
دائرة المقارنة بين مباديء الإسلام حول حقوق الإنسان و بين الإعلان العالمي –تقول فوزية
العشماوي- إن الإسلام أرسى المساواة المطلقة بين البشر من دون تفرقة أو عنصرية أو
تمييز بسبب اللون أو العرقية أو اللغة.
فالمباديء التي أرساها الدين الإسلامي،
وأعلنها الرسول محمد-منذ 14 قرناً- هي أشمل من المباديء والمعايير التي أقرَّها
الميثاق العالمي لحقوق الإنسان منذ خمسين عاماً. وهنا تقوم العشماوي بمقارنة بين
النصين الإسلامي والعالمي:
-قال الرسول محمد: «كلكم لآدم و آدم من تراب. لا
فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا أبيض على أسود، ولا لأسود على آخر
إلا بالتقوى؛ إن أكرمكم عند الله أتقاكم».
-تنص المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة على
أن: «جميع الأفراد لهم نفس الحقوق والحريات بدون تفرقة من أي نوع، مثل الجنس أو
اللون أو النوع أو اللغة أو الدين أو الآراء السياسية أو الوطنية، أو الوضع
الاجتماعي أو الملكية أو البلاد او أية أوضاع أخرى».
لقد
فاتت موضوعية المقارنة العشماوي. فالمقارنة لم تكن عادلة على الإطلاق: فوثيقة
الأمم المتحدة قد أتت على ذكر مسألتين في غاية الأهمية رفض الإسلام الاعتراف بهما،
وهما لُبُّ الصراع الدائر بين الأديان كافة:
-نصًّت الوثيقة على تساوي كل الأديان على كل الكرة
الأرضية، وسجَّلَت اعترافها بها.
- ونصَّت على المساواة في الحقوق السياسية والمدنية
بين كل المنتسبين لكل الأديان من دون تفرقة أو تمييز.
من
هنا نتساءل: هل يمكن المقاربة بين نصوص الشريعة الإسلامية وبين ما جاء في المادة
18-الفقرة1 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية؟
-لقد نصًّت المادة18/الفقرة1 على ما يلي: «لكل فرد
الحق في حرية الفكر والضمير والديانة. ويشمل هذا الحق حريته في الانتماء إلى أحد
الأديان أو العقائد باختياره، وفي أن يُعبِّر، منفرداً أو مع آخرين بشكل
علني أو غير علني، عن ديانته أو عقيدته، سواء كان ذلك عن طريق العبادة، أو
التعبُّد أو الممارسة أو التعليم».
-وجاء في الفقرة 2،ما يلي: «لا يجوز إخضاع أحد
لإكراه من شأنه أن يُعطِّلَ حريته في الانتماء إلى أحد الأديان أو العقائد التي
يختارها».
الرقيق
في النص الوضعي الأممي:
أما
المواثيق الدولية، ومنها اتفاقية جنيف الرابعة، فتُشكِّل، كنص معولم، حماية
للمدنيين وللمحاربين: فهي قد حرَّمت في مادتها 33 معاقبة أي شخص عن ذنب لم يقترفه
شخصياً. فهذه الاتفاقية حرَّمت ما لم تُحرِّمه الأديان السماوية.
فهل
في ظل هذه الاتفاقية يمكن استرقاق المحاربين وأهاليهم؟ أو هل يمكن أن تُعَدَّ
النساء رقيقاً يبقون ملك يمين المنتصر؟ وهل يجوز قتل الرجال والنساء؟ وهل يمكن
استرقاق أطفال المحاربين؟
الرقيق في النص الإسلامي:
كان الموقف الإسلامي
واضحاً في ما له علاقة بمبدأ الانتماء الاختياري للدين إذ تميَّزت المشاريع
الإسلامية الخاصة بحقوق الإنسان إلى رفض السماح بالارتداد عن الدين. وتبرز، من جهة
أخرى، إشكالية مقاربة النص الإسلامي من العولمة، وهي مشكلة الاسترقاق و مشكلة
الإماء.
-نصَّت المادة الثامنة (الفقرة1) من العهد الدولي
الخاص بالحقوق المدنية على أنه: «لا يجوز استرقاق أحد، ويُحَرَّم الاسترقاق
والاتجار بالرقيق في كافة أشكالهما».
-وجاء في الفقرة 2: «لا يجوز استعباد أحد».
-أما الشريعة الإسلامية فإنها لم تشجع على
الاسترقاق ولكنها لم تُحرمّه. فالعبد في الإسلام كل من تحدَّر من عبد سابق، أو من
وقع أسيراً في الحرب…والعبد إنسان وشيء في آن واحد، إذ يمكن بيعه وإهداؤه وتوريثه
الخ… ولا حق له بالملكية…ويحق له الزواج إذا وافق سيده على ذلك. وانتشرت في العهد
العثماني عادة تربية الغلمان، منذ القرن14م=8هـ، وعلى الرغم من أنه تمَّ القضاء
عليها، في بداية القرن18م=10هـ، فإنهم كانوا يُعَدُّون من عبيد السلطان.
لقد
كان نظام الاسترقاق معمولاً به منذ أيام الدعوة الإسلامية الأولى، ولم يُعدَّل حتى
الآن. فكان كل من أُسِرَ في الغزوات يجوز استرقاقه…ولما كَثُرَت الفتوحات كَثُرَ
الاسترقاق من الأمم المغلوبة كثرة هائلة؛ وكان المُستَرقًّون، رجالاً ونساءً
وذراري، يُوزَّعون على المسلمين الفاتحين.
-يقول المسعودي إن ابن الزبير بن العوام كان له ألف
عبد وألف أمة… وكان يُعَدُّ هذا الرقيق مملوكاً للسيد المُطاع، له الحق في بيعه
وهبته؛ وإذا كان أَمَةً جاز للسيد أن يستمتع بها…ويصح أن يكون للرجل عدد كبير من
العبيد، كما يصح أن يكون في بيته عدد من الإماء….
-جاء في النص القرآني:)فَإِذَا
لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ
فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ
الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا( (محمد: من الآية4). وقد جاء في تفسير هذه
الآية ما يلي:
-قال الخوارزمي، عندما سُئِل عن حكم أسارى
المشركين: « أما عند أبي حنيفة وأصحابه أحد أمرين: إما قتلهم، وإما استرقاقهم
أيهما رأى الإمام. ويقولون في المِّن والفداء المذكورين في الآية نزل ذلك في يوم
بدر ثم نُسِخ. وعن مجاهد: ليس اليوم مَنّ ولا فداء، وإنما هو الإسلام أو ضرب
العنق. ويجوز أن يُراد بالمنِّ أن يُمَنَّ عليهم بترك القتل ويُستَرقُّوا، أو
يُمنَّ عليهم فيُخلوا لقبولهم الجزية، وكونهم من أهل الذمَّة. وبالفداء أن يُفادى
بأساراهم أسارى المشركين؛ فقد رواه الطحاوي عن أبي حنيفة؛ والمشهور أنه لا يرى
فداءَهم لا بمال ولا بغيره خيفة أن يعودوا حرباً للمسلمين. وأما الشافعي فيقول:
للإمام أن يختار أحد أربعة-على حسب ما اقتضاه نظره للمسلمين- وهو القتل والاسترقاق
والفداء بأسارى المسلمين والمَنّ. ويحتجُّ بأن رسول الله منَّ على أبي عروة الحجبي
و على ابن أنال الحنفي، وفادى رجلاً برجلين من المشركين، وهذا كله منسوخ عند أصحاب
الرأي».
-وجاء عند ابن كثير ما يلي: «الظاهر أن هذه الآية
نزلت بعد وقعة بدر، فإن الله سبحانه وتعالى عاتب المؤمنين على الاستكثار من الأسارى
يومئذٍ، ليأخذوا منهم الفداء والتقليل من القتل… ثم ادَّعى بعض العلماء أن هذه
الآية المُخَيِّرة بين مفاداة الأسير والمَنِّ عليه منسوخة بقوله تعالى ) فإذا
انسلخ الأشهر الحُرُم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم(… وقال
الآخرون -وهم الأكثرون ليست بمنسوخة. ثم قال بعضهم: إنما الإمام مُخَيَّر بين
المَنِّ على الأسير ومفاداته فقط، ولا يجوز له قتله. وقال آخرون منهم: بل أن يقتله
إن شاء…وزاد الشافعي فقال: الإمام مُخَيَّر بين قتله أو المنِّ عليه أو مفاداته أو
استرقاقه أيضاً…».
-وجاء عند محمد جواد مغنية: «…وعندئذ أحكِموا أسر
من بقي منهم كيلا يفلت ويعيد الكرَّة عليكم؛ ومتى تمَّ ذلك كان الخيار للنبي أو
نائبه في إطلاق الأسير بفداء، أو منّ من غير فداء حسبما تقتضيه المصلحة…».
أما
جُلَّ ما فعله الإسلام بالنسبة لمسألة الرقيق -وهو غالباً ما كانت أعداده تتكاثر
بسبب كثرة الغزوات والحروب- أن جعل عتق الرقبة كفَّارة عن الذنوب، ولم يرد نص واضح
مُحكَم يدل على تحريمه. وهذه آيتان من القليل الذي جاء في القرآن: )وَالَّذِينَ
يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا( (القصص:
من الآية3). )لا
يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ
بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ
مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ( (المائدة:
من الآية89).
لا يستقيم الموقف إذا
ادَّعى الفقهاء المسلمون أن موضوع الرقيق قد عفَّى عليه الزمن، من بعد أن أصبح
لاغياً بحكم الأمر الواقع، لأن النصَّ وتأويلاته باقيان منهلين أساسيين أمام كل مسلم ليأخذ منهما ما
يتناسب مع الظروف التي يعيشها، فهو حرّ أن يستعبد من أسرى الحرب من يشاء إذا شاء،
ويفعل ذلك من دون أي حرج شرعي.
فعلى
قلَّة المعلومات التي تُنشَر عن موقف التيارات/ الجماعات الإسلامية بالنسبة
للأسرى؛ لكنه تتسرَّب من آن لآخر أخبار، حتى ولو كانت أخباراً صحفية، لها دلالة
ويمكنها أن تضيء على بعض جوانب الإشكالية. وهي تدل مباشرة على أن الأمر الواقع لن
يعفي الفقهاء المسلمين من اتخاذ موقف واضح من تأويل النص وتفسيره بدقة ووضوح لا
لبس فيه، وبما لا يدع أية ثغرة لأي تيار أن يأخذ النص على ظاهره ليتسلل منه إلى
ممارسة حقه الشرعي في إعادة نظام العبودية تحت ذريعة أن النص واضح محكم.
جاء
على لسان أحد أمراء الجماعات الإسلامية في الجزائر ما يلي: «يعيش المتطرفون
[الجماعات الإسلامية في الجزائر] في عالم صوفي. يعتبرون أنهم يمثِّلون اليد
المسلحة لله؛ وبناء على هذه الصِفة يسمحون لنفسهم بأن يقتلوا مستندين إلى الكتاب
المقدَّس، الذي لا يكاد يعرفه معظمهم. يُطبِّقون الخطوط الكبرى فيه من دون أن
يهتموا بالفوارق الدقيقة الحساسة… ويعتبرون أن ضحاياهم ليست بريئة بل مُدانة
بخطيئة أصلية تقريباً: خطيئة عدم الإيمان بالله. ما هي براهينهم؟ [يحسبون
أنه] لا يحترم الجزائريون الشريعة والفقه الإسلامي، ولا يعيشون كمسلمين
صالحين؛ يشاهدون برامج التلفزيون الكافرة، ويسمحون لنسائهم بالقيام بكل شيء…كان
أعضاء الجماعات الإسلامية المسلحة يؤكدون أنه ينبغي حتى قتل الأطفال الرُضَّع…».
وكانوا يقومون بتعذيب الأسرى: إما باقتلاع أجزاء من جلدهم بآلات حادة؛ أو دفنهم أحياء؛
أو قتلهم ذبحاً بالخناجر….
هل
تُحَلُّ مشكلة هؤلاء القتلى إذا تبرَّأ كثيرون من العلماء المسلمين مما يفعله
غيرهم؟ وهل هم لا يتحمَّلون أية مسؤولية؟ وهل إن ما يحصل، وما يفعله إسلاميو
الجزائر، إلا مستنداً إلى ما يتناقله الإسلاميون، كل الإسلاميين، من روايات ونصوص؟
وهل إسلاميو الجزائر إلا من المجتهدين
الذين ينالهم أجر واحد إذا أخطأوا؟ وهل يُعَدُّ ما يجري في الجزائر نتيجة
لاستيرادهم مباديء ومفاهيم غربية؟
بلى
يجب أن يتحملوا مسؤولياتهم، وإن المسؤولية التي يتحملها كل الفقهاء المسلمين،
الذين يغسلون أيديهم من دم أولئك الأبرياء، هي أن ترتفع منهم صرخة حق جريئة –ليس باستنكار
ما يجري، والادعاء بأن ما يفعله أولئك ليس من الإسلام في شيء-تحض على السماح
بالنظر إلى النص بغير العيون التقليدية السلفية،التي بواسطتها ومنها، تتخذ معاهد
التعليم الديني الإسلامي مادتها لتعليم الفقه والتشريع والتفسير وغيرها من علوم
الدين؛ تلك المادة ذاتها التي يتلقَّاها إسلاميو الجزائر، واستناداً إليها يفتون
بما يحدد خطواتهم بالعمل الذي به يقومون.
لم
تُشرِّع العقيدة الإسلامية حق الاسترقاق فحسب، وإنما منعت المساواة بين الأرقاء
والأحرار، أيضاً: يقول الله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ
وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى(
(البقرة: من الآية178).وقد جاء في تفسير هذه الآية ما يلي:
-جاء عند محمد جواد مغنية: إن الحر لا يُقتَل
بالعبد، وإن الرجل لا يُقتَل بالمرأة، أي إن الحر إذا قتل عبداً لا يُقتَلُ به.
وإذا قتل الرجل امرأة لا يُقتَلُ بها، فهل هذا محل وفاق بين الفقهاء؟ يتساءل
مغنية، ثم يُفصِّل ما جاء عندهم:
-قال
مالك والشافعي وابن حنبل: إن الحر لا يُقتَلُ بالعبد.
-قال
أبو حنيفة: بل يُقتَلُ الحر بعبد غيره، ولا يُقتَلُ بعبده.
-واتفق
الأربعة على أن الرجل يُقتَلُ بالمرأة، والعكس صحيح.
-قالت
الإمامية: إذا قتل الحر عبداً لا يُقتَلُ به، بل يُضرَبُ ضرباً شديداً، ويُغرَّمُ
دِيَّة العبد. وإذا قتلت المرأة رجلاً عمداً كان ولي المقتول بالخيار بين أن يأخذ
منها الدية إن رضيت هي وبين أن يقتلها. فإذا اختار القتل فلا يُغرَّم أهلها شيئاً…
وإذا قتل الرجل امرأة كان وليُّها بالخيار بين أن يأخذ الدية إن رضي القاتل، وبين
أن يقتله الولي على أن يدفع لورثة القاتل نصف دِيَّة الرجل.
-وجاء عند ابن كثير أن الجمهور قد ذهب إلى أنه لا
يُقتَلُ الحر بالعبد، لأن العبد سلعة، لو قُتِلَ خطأً لم يجب فيه دِيَّة، وإنما
تجب قيمته.
-وذهب
الجمهور أيضاً إلى أن المسلم لا يُقتَلُ بالكافر.
-وقال
أبو حنيفة إلى أنه يُقتل به لعموم آية المائدة.
إعتراف
الإسلام بالاسترقاق بامتناعه عن تحريمه بنص مُحكَم؛ والإقرار بشرعية الطبقية بين
سيد و عبد ومنع التساوي بينهما؛ والحال كما هي عليه، فكيف يمكن التوفيق بين عالمية
القوانين وعولمتها وبين الشريعة الإسلامية؟
لقد
جاءت النصوص العالمية لتُعبِّر بشكل جلي عن تحريم الاسترقاق والاتجار به بشتى
أشكالهما من جهة، ولكي تساوي بين جميع الأفراد بالحقوق والواجبات بدون تمييز من أي
نوع كان من جهة أخرى. وجاءت لتؤكِّد-في المادة الثالثة من العهد الدولي الخاص
بالحقوق المدنية والسياسية-على مساواة الرجال والنساء بحق التمتع بجميع الحقوق
المدنية والسياسية.
فهل
يبقى من مخرج أمام الفقهاء المسلمين إلا أن ينتظروا الواقع لكي يفرض نفسه على
الشريعة من دون أن يتجرَّأ أي واحد منهم على اتخاذ موقف تشريعي يواكب تطور الزمن؟
وهل يبقى دورهم واقفاً عند محطة انتظار الواقع لكي يفرض نفسه من دون أي تدخُّلٍ
منهم سوى الصمت وإدارة الظهر ودفن الرأس في الرمال؟
هذه
حقيقة لم يستطع محمد جواد مغنية إلا أن يتوقف عندها، ولكن بلامبالاة، في أثناء
تفسيره لآية تتعلق بالإماء وأحكامهن، حين يقول: «إن الحديث عن الإماء وأحكامهن
أصبح بلا جدوى بعد إلغاء الرق».
من
هو الذي ألغى نظام الرق؟ وهل كان للفقهاء المسلمين فضل في ذلك؟ وهل صدرت مباركة
منهم لهذا الإلغاء، أم أنهم قابلوه بالصمت؟ فإذا كان هذا الإلغاء خطوة حسنة ألم
يكن من واجب الفقهاء أن يباركوه ويتبعوه بخطوة اجتهادية جريئة تحرّمه تحريماً
بائناً لا رجعة عنه؟
الرقيق
في النص المسيحي:
لم
تنفرد الدعوة الإسلامية بموقفها غير المحدد من الرق، لأن المسيحية لم تقف موقفاً
متميزاً بالنسبة للعبودية فهي علَّمت أن عتق العبد يُعَدُّ كفَّارة عن ذنوب
المؤمنين؛ وذهب القديس أوغسطينوس إلى أن العبودية هي عقاب مفروض على الإنسان
المذنب. إلا أن «الخطيئة هي التي تجعل الإنسان يَستعبِد الإنسان طيلة حياته، ومثل
هذا لا يمكن أن يحدث إلا بحكم الله الذي لا يعرف الظلم، والذي يعرف كيف يكيل
العقاب لمن يستحقه».
مقاربات
بين النص الإسلامي والنص الأممي:
تحسب
فوزية العشماوي –ومعها كل فقهاء المسلمين من جميع المذاهب- «أن الإسلام دين
عالمي، يصلح لكل زمان ولكل مكان، والرسول محمد هو رسول عالمي، لم يُرسَل إلى قوم
بالتحديد…». ولأن الأسس التي قام عليها الإسلام (إعترافه بحقوق الإنسان-وإن
الإسلام دين عالمي) ليست معروفة لدى الغربيين، تدعو العشماوي إلى أنه قد «آن
الأوان لكي يتحرك المسلمون…لينقلوا هذه الحقائق السامية إلى العالم…ليثبتوا…أن
الإسلام دين عالمي يصلح لكل زمان وكل مكان… وإنه لا يتعارض مع التقدم…».
إننا
لا نجتنب الحقيقة إذا قلنا إن النخبة الدولية -على الأقل- التي صاغت المواثيق
الصادرة عن الأمم المتحدة، ذات العلاقة بحقوق الإنسان، لا تجهل موقف الشريعة
الإسلامية من الاسترقاق؛ وإنها لا تجهل، أيضاً، قانون الردة في الإسلام، أصولـه
ونتائجه والعقوبات التي يرتبها على المسلم المرتد. فالمسألة ليست كامنة في أن
الغربيين -و خاصة النخبة منهم - يجهلون
الإسلام، حتى ولا الشرقيين، أيضاً. ونحسب أن إلغاء التمييز العنصري، وضمان حرية الانتساب
إلى الأديان، لم يأت إلا ردَّاً على قوانين الردة الدينية-التي أُسبِغَت عليها صفة
القدسية-والتي تتنافى مع حقوق الإنسان، والدين الإسلامي هو أحد هذه الأديان.
كيف
تتم المقاربة بين العولمة والنص الديني في منظور بعض الفقهاء؟
وذاك
صوت إسلامي يرتفع منتقداً العولمة بأنها ذات نزعة مادية، ويحسب أن السبيل إلى
مواجهتها، و«في وقت معقول، ولكي لا تشتدَّ خسائرها على المسلمين، يجب على أمة
الإسلام أن تنهض لرسالتها مقبلة على العلم والصناعة واستغلالهما في حماية رسالة
الحق إلى العالم المُضلَّل في شأن الإسلام». والمُستَغرَب في الأمر أن من يقارن
بين الماديين والروحيين لا يستطيع أن يدافع عن صدق روحانيته سوى بالدعوة إلى بنية
علمية صناعية!!
بعيداً
عن الخطاب التعبوي، الذي يدافع عن الدين بمفاهيم عمومية، نتساءل: هل يمكن الآن
استكمال عصر الفتوحات الإسلامية؟ وهل يمكن الإقرار بشرعية استعباد الأسرى أو قتلهم
أو استرقاقهم؟ وهل يمكن الإقرار بشرعية الإماء والتسرِّي بهن؟
إذا كان ذلك أصبح منافياً
لروح العصر، وأصبح لاغياً بحكم الأمر الواقع، إلا أنه لم يصدر عن أية مركزية دينية
إسلامية ما يرفع الشرعية الإسلامية عن هذه التشريعات، إن الاستمرار بالصمت عن ذلك
يُبقي التشريع شرعياً حتى لو أصبح بلا جدوى، لماذا؟
إنه
على الرغم من عدم توفر المعلومات نتساءل: لماذا كلما غزت جماعة إسلامية قرية
جزائرية يقتلون الرجال و يصطحبون النساء معهم حين انتهاء الغزوة؟
إنه
ودرءًا لمخاطر عدم إلغاء بعض التشريعات الإسلامية، التي تأوَّلها السلف من النص
بفتوى فقهية مركزية، تبقى كل جماعة إسلامية أو كل تيار إسلامي-عندما تسنح له
الفرصة المناسبة، حتى ولو كانت مؤقتة-على أهبة الاستعداد لتطبيق أي نص وكما يحلو
له التأويل ولو عُدَّ هذا التشريع بأنه أصبح بلا جدوى.
ولأن
عولمة الثقافة والقوانين وتأسيس أرضية مشتركة للتعايش الشعبي الدُوَلي تتعمق أكثر
فأكثر، وفي شتى أصقاع الأرض، من جهة؛ ولأنه-حتى هذه الساعة-قد تمَّت عولمة كثير من
المؤسسات الإنسانية والثقافية والقانونية، التي لها علاقة بتنظيم التعددية
السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية السائدة على الكرة الأرضية من جهة
أخرى، أصبحت الشعارات العامة الفضفاضة، والدعوات المثالية ليست إلا إغراق الخطاب
الديني بالألفاظ التي لا تفيد أية حقيقة علمية موضوعية.
مقارنة
بين حقوق المرأة في التشريع الديني والتشريع الأممي:
واستطراداً
حول مسألة عولمة القوانين لا بد من أن نُثير ما جاء في وثيقة حقوق المرأة في
الاتفاقيات الدولية، التي صدرت عن هيئة الأمم المتحدة في العام 1979م=1399هـ، ما
يلي: «تمنح الدول الأطراف المرأة في الشؤون المدنية أهلية قانونية مماثلة لأهلية
الرجل، ونفس فرص ممارسة تلك الأهلية... ».
وتنص
المادة الخامسة -الفقرة أ- على ما يلي: «تعديل الأنماط الاجتماعية والثقافية لسلوك
المرأة والرجل، بهدف تحقيق القضاء على التميُّزات والعادات العرفية، وكل الممارسات
الأخرى، القائمة على فكرة دونية أو تفوق أحد الجنسين...».
وتنص
المادة العاشرة على ما يلي: «...القضاء على التمييز ضد المرأة، لكي تكفل للمرأة
حقوقاً مساوية لحقوق الرجل في ميدان التعليم».
واستئنافاً
للبحث في مسألة تنظيم الرق نرى أن آثار اللامساواة بين الحر والعبد في الحقوق قد
طالت المرأة، أيضاً. فقد أقرَّت السُنَّة النبوية حق الرجل بالتسرِّي بالمرأة،
فأيَّد بهذا عادة ألِفَها العرب في الجاهلية. ولم يتساوَ أولاد الإماء بأولاد
الحرائر في الحقوق. وكانت مكانة أم الولد منحطَّةً، حتى إن المسلمين كانوا يُطلقون
عليها اسم أم الولد. وأباح القرآن، أيضاً، التسرِّي بما ملكت يمين الرجل، وجاء ذلك
في عدد من الآيات: )يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ
وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك( [من الكفار بالسبي كصفية وجويرية]
(الأحزاب: من الآية50).
ردَّاً
على عدم اعتراف عدد من الفقهاء المسلمين بشرعية المساواة في فرص التعليم بين الرجل
والمرأة تقف نظيرة زين الدين لتعارض ما ذهبوا إليه في النهي عن تعليم المرأة
مستندين إلى أحاديث تُروى عن الرسول. وفي ردها تنقل عدداً من الأحاديث المذكورة،
ومنها: «عن الترمذي الحكيم عن ابن مسعود أن النبي
قال: مرَّ لقمان على جارية في الكُتَّاب، فقال: لمن يُصقَلُ هذا السيف؟.
وأخرج الترمذي الحكيم من هذا الحديث أن فيه إشارة إلى علَّة النهي عن تعلُّم
الكتابة؛ وهي أن المرأة إذا تعلَّمتها توصَّلت بها إلى أغراض فاسدة، وأمكن توصُّل
الفَسَقَة إليها على وجه أسرع ... من توصُّلهم إليها بدون ذلك. لأن الإنسان يبلغ
بكتابته في أغراضه إلى غيره ما لم يبلغه رسوله، لأن الكتاب أخفى من الرسول، فكانت
أبلغ في الحيلة وأسرع في الخداع والمكر، فلأجل ذلك صارت المرأة بعد الكتابة كالسيف
الصقيل الذي لا يمر على شيء إلا قطعه بسرعة. فكذلك هي بعد الكتابة تصير لا يُطلَب منها
شيء إلا كان فيها قابلية إلى إجابته إليه على أبلغ وجه وأسرعه».
وتنقل،
أيضاً، الحديث التالي: «روى الحاكم وصحَّحه البيهقي، أن النبي
قال:
لا تُنزِلوهنَّ في الغرف ولا تُعلِّموهنَّ الكتابة. وعلموهن الغزل».
وحتى
اليوم يبرر بعض الإسلاميين تعليم المرأة بشروط، وذلك أن تطابق مواد التعليم فطرة
المرأة. يقول البهي الخولي: «إننا لا ننكر أن للمرأة عقلاً كعقل الرجل، ولا نجحد
أنها تفهم كما يفهم الرجل من العلوم والآداب... ولكن القضية هي أننا نريد أن
نوزِّع استعداداتنا الفطرية على أنواع العلوم والمعارف... إن المرأة خُلِقَت لتكون
زوجةً وأماً... هكذا فطرها الله، وفي إرادته الخير كله. فأي خير نجنيه إذا نحن
ثقَّفناها بغير ثقافة الزوجة والأم؟… لقد دخلت الفتاة كلية الزراعة وكلية العلوم وكلية الصيدلة… فماذا
جنت بنجاحها؟...لم تجنِ إلا أنها خرجت من نطاق الأنوثة التي خصتَّها بها الطبيعة
إلى استرجال هي أول من يُنكِرُه...».
لكن
ما هو نوع التعليم المسموح به للمرأة، وما هو الغير مسموح به؟
هنا
يستطرد الخولي قائلاً: «وإذا كانت الظروف تدعونا إلى أن يكون من الفتيات طبيبات أو
مدرِّسات، فلا بأس بذلك، فإننا نستحسن أن يكون الطبيب الذي يعالج المرأة امرأة
مثلها؛ والمدرس الذي يعلِّمها امرأة مثلها أيضاً... أما تعليم الكيمياء والهندسة
العليا، والزراعة والفلك وما إليها فضرب من التزيُّد لا يكون إلا على حساب المهمة
الأصلية التي أُعِدَّت لها الفتاة».
لكنه
يأتي من يستند إلى النص، أيضاً، لِيُضَيِّق الخناق، ليس على المرأة فحسب، وإنما
ليضع تشريعاً يَحِدُّ فيه من حرية التعلم على الرجل أيضاً. وهنا يقول شكري أحمد
مصطفى -أمير إحدى جماعات الإخوان المسلمين- إن الإسلام «يُحَرِّم تعليم الكتابة في
الجماعة المسلمة إلا بقدر الحاجة العملية الواقعية لما يتَّصِل بالكتابة؛ وتعلُّم
الكتابة الزائدة حرام». ويتابع قائلاً: «إن النبي قد أمر بتعليم بعض المسلمين
الكتابة في حدود الحاجة». ويُبرِّر شكري ذلك فيقول: «إن البشرية كلها الضالَّة،
التي دمَّرها الله تعالى، لم تكن تزهو إلا بالعلم، ولم تكن تتعالى على الله إلا
بثمرة هذا العلم المتقدِّم الصلة بعبادة الله وحده؛ قال الله تعالى:)إِنَّمَا
مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ
بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا
أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ
قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا
حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ(
(يونس:24).
أما
العلم في الإسلام، كما يحسب الخولي، فهو قوله تعالى: )أَمَّنْ هُوَ
قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو
رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ(
(الزمر:9). ]يعْلَمُونَ
ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ[
(الروم:7)».
نتيجة:
وعلى
الرغم من ذلك فهو يدعو إلى التكامل مع الحضارات الأخرى، وهذا التكامل -بدون شك- لا
بُدَّ وأن يشمل أنظمة فكرية وسياسية غير قائمة على قواعد وسُنَنٍ إسلامية، ومع ذلك
فهي أنظمة أثبتت صلاحيتها في الاستجابة لحاجة البشر، وإلا لما كان دعا شمس الدين
إلى التكامل معها؛ ومن هنا يصبح من المنطقي والواقعي أن نعترف للآخر أنه يمتلك ولو
بعضاً من الحقيقة. ولهذا فهو يقول: «إننا نرى أن من غير الواقعي ومن غير الصحيح
والمنطقي مواجهة العولمة [الحضارات الأخرى] بالانغلاق، أو برفض كل شيء أو بالعودة
إلى النص من دون وعي».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق