في العراق ابتدأ المشروع الإمبراطوري
الأميركي
وفي العراق كُتبت نهايته
(الحلقة الثالثة والأخيرة)
ثالثاً:
نتائج غزو العراق واحتلاله:
العامل
الرئيسي في سقوط القرن الأميركي الجديد
1-السقوط العسكري
للاحتلال أذهل الصقور المخططين:
بعد انطلاقة المقاومة
الوطنية العراقية، وتوقف عجلة تحويل العراق إلى محمية أميركية، انشغلت الآلة
السياسية الأميركية في مسألة الحرب على العراق، وتقييم انعكاساتها على أمراء القرن
الأميركي الجديد. واتسع النقاش الفكري والأخلاقي في أميركا لمواجهة الوضع الصعب في
العراق. وراح الصقور يفتشون عن أسباب ما حصل، والتفتيش عن حلول لها. وقد انعكس
القلق الذي ساور تلك القيادات، وعجزها عن وضع حلول تعيد لأحلامهم بريقها، ردة فعل
شعبية أميركية حادة ظهرت نتائجها بعد أن تخلّى الكثير من الناخبين الأميركيين عن
الحزب الجمهوري أثناء انتخابات شهر نوفمبر 2006.
أصبح العراق، بفعل انطلاقة
المقاومة الوطنية العراقية، وبفعل تأثيرها في إفشال مخطط الاحتلال، يشكل ملفاً
شائكاً ومقلقاً، لإدارة المحافظين الجدد. ومن الدلائل على ذلك، ما أخذ يظهر في
خطاباتهم، إذ تغيرت لغتهم من الحديث عن ديمقراطية العراق، إلى الحديث عن أولوية
استقراره الأمني، ومكافحة الاحتقان الطائفي.
وبمثل هذه النتائج اعتُبر أن عهد الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط قد أخذ
يضعف، وهو في طريقه إلى المزيد من الضعف. وراح البعض من الأميركيين يضعون بدائل للمخطط
السابق، كأن تحل الوسائل الدبلوماسية مكان القوة العسكرية. وبهذا يصح القول بأن
استراتيجية الهيمنة الأميركية على العالم انتهت بفشلها في العراق. وعوامل النهاية،
كما حددها أكثر المخططين من المحافظين الجدد، تعود إلى الأسباب التالية:
-قرار إدارة بوش الحرب على العراق وأسلوب
إدارته.
-إخفاق عملية إحلال السلام في الشرق الأوسط.
-فشل الأنظمة العربية
التقليدية في مواجهة المد الإسلامي الأصولي.
يتفق الديمقراطيون
والجمهوريون على أن الحقبة الأميركية في الشرق الأوسط شارفت على الانتهاء، والسبب
الرئيس هو فشلها في العراق، بالإضافة إلى هزائمها في أفغانستان والصومال،
والتحديات في الملفين النوويين الكوري الشمالي والإيراني.
تفيد التقارير التي صدرت عن
مركز «بيو» لاستطلاعات الرأي أنه مع استمرار الحرب الأمريكية في العراق من دون
نتائج، ازدادت صورة الولايات المتحدة الأمريكية العالمية تدهوراً حتى في وسط مواطني
بعض الدول الحليفة».
نتيجة هذا الوضع بدأ القلق
يساور النخب الأميركية، الذين توظفهم الجامعات ومراكز البحث، إذ أصبحت انطلاقة
المقاومة الوطنية العراقية، منذ العام 2003، تشكل الهاجس بالنسبة للسياسة الخارجية
الأميركية، وأكثر تلك الهواجس قلقاً كانت معرفة مصير مشروع المحافظين الجدد
الأميركيين الذي وُضع على محك الواقع في العراق. ورافقت بعضهم، «أزمة الضمير» التي كانوا يعانون منها بـ«مقدار
ما تقترب الزوبعة العراقية من البيت الأبيض».
وفي وقت مبكر، دفع هذا
الأمر بصموئيل هنتنغتون، صاحب نظرية «صراع الحضارات» الشهيرة بين الحضارتين
الغربية والإسلامية، إلى الوقوف موقفاً «معتدلا»، عبَّر عنه، في العام 2004،
قائلاً: «كنت قد قلت قبل الحرب إنه إذا دخل الأميركيون العراق فسوف تكون هناك
حربان:
-الأولى ضد صدام حسين ونظامه وجيشه وضباطه. يتم كسبها خلال شهر ونصف.
-والثانية ستكون ضد
العراقيين التي لن يكسبها الأميركيون أبداً».
وبعد أن بدأت ملامح الفشل
تتراكم. وبعد أن تم نشر وثيقتهم (Clean
Break)، التي مهدت للحرب على العراق، يبدو أنهم رأوا
أن انفراط عقدهم ظاهرياً، وتفرقهم واستقالتهم سوف يخدم قضيتهم أكثر من بقائهم في
البنتاجون. فقد تفرق شمل )دوجلاس فيث( و)ولفويتز) و(بيرل)، واستقال الواحد تلو الآخر من المؤسسات الرسمية الأمريكية؛ ليظهروا في
أماكن أخرى لصنع القرار،
ولكن العالمي هذه المرة:
2-من نتائج السقوط
العسكري سقوط الصقور المخططين:
أ-سقوط ريتشارد بيرل
وحمايته من إخفاقه بتهمة فساد:
كان سقوطه بعد أسبوع من بدء الغزو وفق الأسباب المعلنة
لتورطه في فضيحة فساد مالية مع شركة اتصالات، إلا أن الأسباب الحقيقية تتعلق بسياسة مرتبطة بالحرب. فقد استخف بيرل بتقديرات الجنرالات
العسكريين حول القوة اللازمة لتنفيذ الحرب، ووقف
هو ورامسفيلد ووولفويتز ضد تقديرات العسكريين حيث أصرّوا
على أن 60 ألف جندي أميركي فقط تكفي لتحقيق الانتصار، في غضون أيام.
ب-سقوط بول وولفويتز وحمايته
في رئاسة البنك الدولي:
كان من قواعد متابعة تنفيذ
المشروع الإمبراطوري، المتفق عليها بين أقطابهم، أن يدفع الأفراد ثمن فشل حلقة من
حلقات التنفيذ. ولكن على أن تتم المحافظة على مصالحهم، وبالتالي حمايتهم. فكان
سقوط بول وولفوويتز مدوياً، إلاَّ أن الإدارة السياسية نقلته من موقع القرار في
السلطة السياسية إلى موقع في القرار الدولي. ولهذا وعلى الرغم من إدانة الاتحاد
الأمريكي للحريات المدنية (ACLU)، تم تعيين بول وولفويتز في رئاسة البنك الدولي،
خاصة بعد ما تكشف من ملفات الــFBI التي تتهمه بأنه اخترع وسائل جديدة لتعذيب المعتقلين في جوانتانامو،
وهي اتهامات كفيلة بإقصائه عن تلك الوظيفة إن لم تؤهله للمحاكمة الجنائية, أصرَّ
جورج بوش على التعيين كنوع من المكافأة
للمقربين, بغض النظر عن ممارساتهم الأخلاقية.
بالإضافة إلى حمايته، فرض المحافظون
الجدد تعيين وولفويتز في رئاسة البنك الدولي، من أجل مهمات أخرى، وقد أشارت
التقارير إلى أنه من أهم الأهداف كان السعي إلى تدمير منظمة أوبك، وإفقار الدول
العربية النفطية. وقد. كشفت التقارير أيضاً أن إدارة المحافظين الجدد
قد دبرت خططاً لنفط
العراق قبل هجمات 11 سبتمبر، باستخدامه لتدمير مجموعة «أوبك»، عبر خصخصة صناعة
النفط العراقية، حيث كانوا يأملون في أن يفصلوا تلك الصناعة، عن منظمة «أوبك»، وضخ
كميات ضخمة من النفط بعيدًا عن القيود التي تفرضها المنظمة
على حصص النفط الخاصة بالدول المشاركة فيها.
ج-سقوط دوغلاس فيث وحمايته من إخفاقه بأسباب عائلية:
في كانون الثاني من العام
2005 أعلن وكيل وزارة الدفاع الأميركية للشؤون
السياسية، دوغلاس فيث، نيته الاستقالة، معللاً ذلك بأسباب
شخصية وعائلية. وجاء قراره بترك منصبه في وقت كانت لا تزال
المباحث الفدرالية تحقق في تورط محلل معلومات يعمل في مكتبه للاشتباه في قيامه بالتجسس لصالح إسرائيل.
كما اتهمه تقرير أعدته
وزارة الدفاع الأميركية،
بتقديم معلومات «مغلوطة» استخدمت لدعم مبررات شن الحرب على العراق.
د-سقوط دونالد رامسفيلد
وحمايته من الإقالة بالاستقالة:
في تشرين الثاني من العام
2006، بعد النتائج النهائية للانتخابات النصفية الاميركية، طالت الهزيمة وزير
الدفاع دونالد رامسفيلد نتيجة مجموعة الأخطاء المتراكمة والسلبيات السياسية التي
ساهمت بشكل مباشر في إغراق واشنطن في مستنقع العراق. حصل هذا على الرغم من أن كثيرين لم يتوقعوا رحيله: فهو الصقر القديم في
الحزب الجمهوري، وأحد أهم ركائز إدارة جورج بوش.
هـ-سقوط جون بولتون وحمايته من الإقالة بالتنحي:
منيت إدارة بوش بنكسة
دبلوماسية كبرى، مع إعلان تنحيه، فهو مندوبها لدى الأمم المتحدة.
ويعادل خروجه سقوط رامسفيلد، وهو ما قد يكون بمثابة انتصار للأمم المتحدة الذي لا يعترف بها، ويسخر من
وجودها.
حتى لو أجبر وولفوتيز وفيث
وإبرامز وليبي ومجموعة الصهاينة الآخرين في البنتاغون، على الاستقالة، فإن ذلك لن
يكون سوى نكسة مؤقتة للمحافظين الجدد (الصهاينة في الإدارة)، فالمنظمات السياسية
الصهيونية تبقى متماسكة وتأثيرها على الكونغرس يظل كاسحاً، ولديهم تعهدات من مرشحي
الرئاسة أن قضية «إسرائيل» هي قضية الولايات المتحدة، فقد حرص الصهاينة في إدارة
بوش على فرض عقوبات ضد سورية، والدفع باتجاه ضرب المنشآت النووية الإيرانية. وإذا
لم يكن هناك تهديد للولايات المتحدة، فإن مجموعة الصهاينة في السلطة قد تخلق مثل
هذا التهديد.
و-سقوط الفريق العسكري
وحمايتهم من الإقالة بتبديل المواقع:
توسعت عملية التغيير وطالت
القطاع العسكري.
فتمَّ تعيين الجنرال ديفيد بيتراوس مكان الجنرال جورج كايسي
قائد قوات الاحتلال في العراق. كما عُيِّن وليام فالون،
وهو أكبر قائد عسكري
اميركي في المحيط الهادئ، خلفاً للجنرال جون إبي زيد على رأس القيادة الوسطى، على اعتبار أن كايسي سيعين قائداً للجيش
الأميركي. وقد استقال
وليم فالون، قائد المنطقة الوسطى، أو أقيل، في أوائل العام 2008، نتيجة افتراقه عن
إدارة جورج بوش، ومعارضته لاستخدام القوة العسكرية الأميركية في العالم.
ز-سقوط فريق المفكرين
وتحميل الخطأ بالوسائل وزر الفشل:
-فرانسيس فوكوياما:
تلقى المحافظون الجدد ضربة
قاسية بانسحاب فوكوياما، الإيديولوجي المفضل لدى الجمهوريين، إذ تراجع عن أفكاره
ونظرياته السابقة في كتابه «أميركا على مفترق
الطرق». فظهر في
كتابه الجديد وكأنه يجري جردة حساب بعد فشل وهزيمة نظريته
في العراق. ومع ظهور كتابه الأخير، بات المحافظون الجدد «تحت مرمى النيران الصديقة».
وعلى الرغم من أنه بشر بنهاية مرحلة المحافظين الجدد بعد العام 2008، فقد أشار إلى
أنهم سيتواجدون دوماً، وسيبقى لهم أنصار في الادارة ونفوذ فيها على نحو ما.
- زبغنيو بريجينسكي:
إن النموذج الأمريكي البراق
قد فقد لمعانه. هذا ما توصَّل إليه بريجينسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي
السابق، في كتابه «فرصة ثانية: ثلاثة رؤساء وأزمة القوة العظمى الأمريكية». ومن أهم ما قاله: «منذ انتصار الولايات المتحدة
في الحرب الباردة، صار الرئيس الأمريكي أهم لاعب على الساحة الدولية في أكثر قضايا
العالم أهمية، ومع ذلك لم يكن هناك رؤية استراتيجية واحدة». فيما جورج بوش الابن،
يتسم بالشجاعة ورباطة الجأش ولكنه يفتقد فهم ومعرفة تعقيدات السياسة الخارجية،
فضلاً عن سيطرة الأفكار العقائدية على طريقة تفكيره.
وقد عبَّر بريجنسكي عن
استيائه بوضوح، وعن افتراقه عن إدارة جورج بوش، قائلاً: لقد أضحى البيت الأبيض
قلعة مظلمة مهووسة بالأمن والسيطرة، ومصابة برهاب الارتياب، وقاربت من حدود
النزعات العنصرية التي تلقي بظلالها السوداء المخيفة على العالم من حولها. لذا لا
عجب في أن تهوى صورة أمريكا حول العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق