الخطاب السياسي وثوابته
الفكرية
ننشر هذا المقال بالتزامن مع نشره في
مجلة (ألق البعث) الألكترونية
طالما تكررت الحوارات، في ظل أجواء ساخنة،
حول أولوية من يسبق من؟ هل هو الخطاب والموقف السياسي أم ثوابت الفكر؟
نعالج هذه الإشكالية في الأحزاب العقائدية،
لأنها قلَّما تحصل في الأحزاب السياسية التي توجهها أغراض مؤسسيها وأهدافهم
الخاصة، وهذه عادة ما تُسمى الأحزاب المرحلية. ففي الأولى يبني المنتسبون إليها
مواقفهم وخطبهم وأخبارهم على مقاييس الفكر الذي على أساسه انتموا إليه، وهذا الفكر
يهتم بالمجتمع الذي من أجل السير به نحو تحقيق أهدافه قامت بتأسيسه طليعة من
المثقفين الملتزمين بقضاياه. وأما الثانية فيبقى الموقف والتحليل والخبر مرتبطان
ببنية مرحلية، لا يهمها أن تُقاس على فكر إنساني عام، أو فكر وطني أو قومي، أو على
أساس مصالح المجتمع بأكمله، لأنها بالأساس لم تنطلق من أفكار يعملون على النضال من
أجلها، وتنفيذها، بل تأسست على قواعد تحقيق أهداف وأغراض يستفيد منها مؤسسوها.
وعادة من يقوم بمهام صياغة الخطاب السياسي أو المضامين الفكرية مثقفون يمتلكون
إمكانيات التفكير والصياغة.
هذا الأمر يطرح تساؤلاً حول تعريفنا لهوية
المثقف.
بين الثقافة والمستوى التعليمي مسافة شاسعة.
فإذا كانت الثقافة تصب في مصلحة أفراد أو مؤسسات نفعية، فسوف تفتقد إلى بعدها
الاجتماعي الأشمل، لأنها تنحصر في الترويج لمصلحة دوائر ضيقة من مؤسسيها. وإذا
كانت تصب في تيارات أو أحزاب تولي اهتمامها قضايا المجتمع، فهي تؤدي إلى منفعة
جماعية وليس إلى منفعة جزئية. ولذلك يُعتبر المثقف من النوع الأول موظفاً يعمل على
توفير منفعة أفراد أو قلة من الأفراد. وأما المثقف من النوع الثاني فيعمل لمصلحة
المجتمع ككل، لأن العمل من أجل مصلحة المجتمع، وليس شريحة منه، هو أعلى درجات
الالتزام الثقافي. إذن فهو المثقف الثوري الحقيقي. فالهدف من الثقافة إذن أن تصب
في مصلحة المجموع وليس في مصلحة القلة.
وارتباطاً بهذا التعريف، ينطلق حزب البعث
العربي الاشتراكي من قاعدة فكرية أساسها قومي، وأهدافها بناء مجتمع عربي يمتلك
قاعدة التحرر من الاستعمار، ويعمل من أجل إرساء أسس التنمية البشرية والاقتصادية
والسياسية، على أن يقوم بتطبيقها نظام حكم، يطبق مبدأ حكم الشعب لنفسه، ويحمل هموم المجتمع ومشاكله، يُشخِّصها ويضع
الحلول لها، ويكون حريصاً على تطبيقها. ولأنه جاء ليحكم باسم الشعب، فلن يكون
الحكم صحيحاً ما لم يضمن الحرية لكل مواطن في اختيار الحاكمين أولاً، وفي نقدهم
وإعطاء الرأي في تصويب مساراتهم ثانياً.
ولأن القاعدة الفكرية للبعث مبنية على أساس
قومي عربي، فيكون فكر البعثيين ونشاطهم ونضالهم واسعاً، ويكون حجمها بحجم مساحة الوطن
العربي. والبعثيون عندما يوسِّعون قاعدة النضال القومي فهم يَسمُون بتلك القاعدة فوق
مساحات المشاريع القطرية، وتحت سقف المشاريع الأممية. فالمشاريع القطرية تعتبر مرحلة
من مراحل النضال العربي. وأما المشاريع الأممية فهي حلم سياسي تحول دون الوصول
إليه استحالات كبيرة. ولكن هذا لا يعني إهمال بعدها الإنساني، بل اعتباره الحلم الثابت
الأسمى في التعبير عن جمع الشعوب في وحدة قيمية أخلاقية إنسانية. وهذا الجانب هو
ما يميِّز مبادئ الحزب عندما يؤمن بأن للقومية العربية أبعاداً إنسانية أهدافها
جسر الهوة بين القوميات، ومحاربة التعصب والشوفينية. وإن مبادئ البعث في بناء
قومية عربية ذات الأبعاد الإنسانية، وذلك بالاعتراف بحق الشعوب في تقرير المصير. وإن
نضاله من أجل نشرها والتبشير بها، فلكي تواجه لا إنسانية المشاريع الإمبراطورية القائمة
على قهر الشعوب واستعبادها.
وبناء على ذلك، يمثل البعثيون أهداف المجتمع
الوطني في القطر الواحد، على العكس من أهداف النخب التي تبني أحزابها على قواعد
أقليات طبقية وطائفية وعرقية.
وكذلك يمثل البعثيون أهداف المجتمع القومي
العربي، على العكس من أهداف من يبنون أحزاباً على مقاييس القطر الواحد، ويضعون
حواجز بين مجتمع قطري ومجتمع قطري آخر. وعلى العكس من أهداف من يبنون أحزاباً على
مقاييس وحدة عالمية سياسية مستحيلة التنفيذ.
ضمن هذه المعايير، وفي الوقت الذي تخوض فيه
الأمة العربية صراعاً دموياً. صراع تتحكم في مجرياته كل عوامل التفرقة والتفتيت،
تقودها مشاريع إمبراطورية توسعية استيطانية، ومشاريع قطرية ضيقة، ومشاريع طائفية
تحمل شعارات التعصب والتكفير، ومشاريع عرقية انفصالية، يبقى المضمون الفكري لحزب البعث
بوصلة يهتدي بها المنتمون إليه. وإذا أضاع البعثيون البوصلة فسوف يضيعون بين
متاهات المشاريع التي قمنا بتعدادها أعلاه، ولن يبقى من ثقافتهم الثورية شيئاً
يقيهم آفة التيه والضياع.
وبالعودة إلى الإشكالية التي قمنا بعرضها في
مقدمة المقال، ما هو الذي له الأولوية في اهتمام البعثيين في هذه المرحلة الساخنة،
أو في أي مرحلة أخرى، أهو الثابت الفكري، أم الخطاب السياسي؟ سنحاول العمل من أجل
الإسهام في الإجابة علىها.
إن أمتنا العربية في هذه المرحلة، بأقطارها
كافة، تواجه كل أنواع العدوان عليها من الخارج، يشارك فيه عربٌ، أشخاص وتجمعات
وتيارات وأحزاب، ممن ليس لديهم عمقاً فكرياً قومياً إنسانياً. وهذا يرتِّب على
الذين يمتلكونه، وهم القوميون بشكل عام، والبعثيون بشكل خاص، مسؤوليات كبرى، ومن
أهمها استخدام الخطاب السياسي الموضوعي، والعلمي، من أجل إظهار الحقائق أمام الرأي
العام على شتى مستوياته. وهنا، قد يشتط الخطاب السياسي ويتوه إذا لم يكن متحصناً
بمواصفات تحمل عامل الإقناع. وأولها أن يبتعد عن التعصب والانفعالية. ولكن كيف
يمكن للخطاب السياسي أن يتحلى بتلك المواصفات، وأن يبتعد عن ردود الفعل التي قد
تسيء أكثر مما تنفع؟
في معظم الأحيان يقود خطاب الانفعال إلى
ردود انفعالية، وهذا ما تعمل الأجهزة الإعلامية المعادية إلى جرِّ الحركات الثورية
إليها، أي أن تعمل على إبعادها عن دائرة الأدلة العلمية الهادئة. وهي تخطط من أجل
افتعال اشتباك بين خطابات سياسية انفعالية بين تلك الحركات والحركات المناوئة لها.
ولعلاج هذه الآفة، على الحركات الثورية، كما على الأشخاص الثوريين أن يعوا خطورة
أن يقودها الإعلام المعادي إلى ساحات ومواقف إعلامية على أرضية أخرى غير ساحاتها.
خاصة أن المواقف المتشنجة تخلق أعداء وقد تخسر أصدقاء. فيكون خطاب الانفعال على
حساب الحقائق الموضوعية والعلمية. كمثل أن تنفتح شهية الإعلام المعادي على جر
الخطاب الثوري إلى إطلاق السباب والشتائم كعامل يحيد بالموقف الثوري عن هدوئه
ورزانته. فيغرق الخطاب بالانفعال على حساب المبدئية والموضوعية وعوامل الإقناع.
وهذا ما يُعرف بالمتاهات التي تضيِّع الموقف الثوري، وتحوله إلى موقف مبتذل يستثير
غرائز الآخرين، ولا يترك على الأقل في أذهان الكثيرين أسئلة تلزمهم بالتفتيش عن
أجوبة لها.
فالرد مثلاً على الخطاب الطائفي بآليات
طائفية، سيقود إلى خطاب طائفي آخر. والرد على الخطاب الانفصالي بآليات انفصالية
سيقود إلى خطاب انفصالي. فالطائفيون أقدر على الرد بخطاب طائفي. والعنصري أقدر على
الرد بخطاب عنصري. فالأولى في مثل هذه الحالة أن نقود الآخرين إلى النقاش على
أرضية مواقفنا المبدئية، وليس على أرضية خطابهم ومواقفهم. وهنا، نتساءل عن مصدر
تلك المواقف، والتعريف بماهيتها.
وإذا كان الخطاب وسيلة إعلامية لتظهير
المواقف المبدئية، يبدأ دورنا في الكلام عن الفكر، والنظريات الفكرية.
وعود على بدء ما افتتحنا به مقالنا، في
التمييز بين موقف المثقف الموظَّف، والمثقف الثوري، نعيد التساؤل عن العلاقة بين
الخطاب السياسي والنظرية الثورية. من منهما يصوِّب مسار الآخر؟
من المعروف أن الفكر الطائفي يمثل قاعدة
للخطاب الطائفي. والفكر القطري يمثل قاعدة للخطاب القطري. والفكر القومي يمثل
قاعدة للخطاب القومي. وكل خطاب يستند إلى الفكر الذي ينطلق من أرضيته. وفي كل حالة
من هذه الحالات تُعد الحركات والأحزب المنتسبة إلى نوعها أرضية فكرية تُشبع بها
عقول مثقفيها لكي يستطيعوا أن يُنتجوا خطاباً يتناسب مع ثوابتها. ولهذا السبب لا
تتوقف حركة عن الاعتناء بالجانب الفكري النظري، خاصة في الأجواء الملتهبة وساحات
الصراع الساخنة. لأنه إذا استرخت العقول، وأسرت نفسها في دوائر متابعة الخبر،
وصياغة الخطاب المرحلي، من دون الكشف عن وسائل نظرية جديدة لتحصين الثوابت الفكرية
ستدفع بالثوابت إلى تكليس نفسها بعيداً عن وقائع الصراع والمواجهة مع القوى
الأخرى. وبذلك يفتقد الخطاب المرحلي إلى الآليات الفكرية النظرية، فيحصل الارتباك
في إظهار الخطاب إذا لم يتم تزويده بآليات نظرية أخرى تحتاجها الحركات الثورية في
ظل متغيرات جديدة تتطلب آليات جديدة في الخطاب السياسي. ولهذا يتبين عامل الضرورة
في إبقاء الحركة الفكرية النظرية حيَّة منتجة، لكي يبقى عامل الترابط وثيقاً
وموضوعياً وعلمياً وواقعياً بين الخطاب المرحلي والثوابت الفكرية الاستراتيجية.
والنتيجة النهائية من هذا العرض، هو أن جمود الحركة الفكرية النظرية يعني جموداً
في الخطاب السياسي المرحلي، وعجزاً واضحاً في إنتاج خطاب يجيب على متغيرات
المرحلة.
واستناداً إلى ما ورد أعلاه، ولأن الثابت
القومي العربي يُميِّز فكر حزب البعث العربي الاشتراكي، فعلى الخطاب القومي في هذه
المرحلة أن يستند إلى آليات قومية وبراهين من فكر الحزب القومي، وأن لا يغرق في
استلال آليات أخرى تتلوَّن بالآليات الطائفية والمذهبية والثقافية التقليدية التي
قد يعود بعضها إلى مئات السنين. فمعين الفكر القومي البعثي غني بها، وهي الأقدر
على الوصول إلى عقول الناس العاديين وكذلك إلى عقول المثقفين الذين يفتشون بصدق عن
أجوبة تقنعهم في مواجهة الإشكاليات الراهنة، وما أكثرها.
قد تجد في روايات التاريخ ما تعزز به
دفاعاتك، ولكن الآخرين قد يطعنون بها ويخالفونها بروايات أخرى، فتضيع الحقائق في
لجة التسابق على التفتيش في روايات التراث. لهذا، نعتبر الأفضل أن يتميَّز الخطاب
السياسي بنصوص ووقائع من تاريخنا المعاصر أو الحديث التي استندت إليها النصوص
الفكرية لحزب البعث العربي الاشتراكي. وعن هذا اعتبر صدام حسين (أن فكر البعث فكر
جديد كلياً). ولن يكون جديداً إلاَّ بناء على أسباب ووقائع. وإذا لم يستند الخطاب
البعثي إلى تلك الأسباب والوقائع، فستضيع الفرصة أمام البعثيين من الترويج لفكرهم
مدعماً بالبراهين الجديدة. وهذا ليس فحسب بل كأنهم يروِّجون للبراهين التي يستند
إليها فكر الآخرين ومشاريعهم السياسية. ومن أجل تثقيف البعثيين بفكرهم الجديد،
ووعي أسباب جِدَّته، في كل الظروف والأوقات، كان لا بُدَّ من مواكبة فكرية دائمة
لمضامين البراهين والأدلة التي تدعم مبادئنا القومية. كما ومن أجل مواكبة
المتغيرات التي تحصل من مرحلة إلى أخرى، على شتى الصعد والأشكال، انطلاقاً من أصغر
قاعدة شعبية وصولاً إلى أعلى قاعدة على مستوى العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق