الجمعة، ديسمبر 15، 2017

(إعلام الشجار) أم (إعلام الحوار)

(إعلام الشجار) أم (إعلام الحوار)


عندما يتحول الإعلام من رسالة تنقل الحقيقة إلى الجماهير إلى أداة تعبِّر عن مصالح فئة محدودة، فيعني ذلك أنه ابتعد عن رسالته الإنسانية في تطوير أوضاع المجتمعات نحو الأفضل. تلك الرسالة التي من أجلها تبوَّأ الإعلام أهميته وهو الكشف عن الحقيقة.  فهل يعبِّر الإعلام في هذه المرحلة عن مصالح أوسع الشرائح الاجتماعية؟ وهل يعبِّر عن حق الشعوب في تقرير مصيرها؟ وهل يعترف للمغبون بحقه، ويعلن كلمة الحق في وجه ظالم؟ وإلى غيرها من الأسئلة التي تحضُّ الإعلاميين على ممارسة رسالتهم الإنسانية. فمن أجل الإجابة عن هذه الأسئلة سنعمل على نقل صورة الإعلام في هذه المرحلة.
تطورت وسائل الإعلام بشكل متسارع، واتسعت وسائله بشكل كبير، حتى لا يكاد المرء أن يستوعب الجديد فيها حتى يأتي جديد آخر. وبالترافق مع التطور الهائل في وسائله، فقد تعددت وظائفه، وتنوعت أهدافه، وتحول عن رسالته الإنسانية وأخذ يصب في مصالح الشرائح الاجتماعية الأكثر غنى، وفي مصالح الدول الأكثر رأسمالية. ولكثرة وسائله، خاصة المرئية منها، فقد دخل إلى كل بيت وبقعة في العالم، مستقطباً اهتمام أوسع الجماهير الشعبية. ولأن الجماهير تلك، بأوسع شرائحها، تفتقد الحس النقدي، فقد وقعت ضحية للإعلام الراهن الذي فقد نزاهته ورسالته.
نحن نعرف أن الإعلام لكي يقوم برسالته عليه أن ينقل حقائق الواقع كما هي، لكي يتم توظيفه من قبل المثقفين الثوريين في نصرة الحقائق، وتعميم القيم العليا، وفي الدفاع عن حقوق الشعب، وانتقاد كل هيئة أو منظمة، أو نظام رسمي، لحضِّهم على القيام بواجباتهم تجاه المجتمع الإنساني عامة والمجتمعات الوطنية خاصة. أولئك المثقفون هم الذين نذروا أنفسهم للدفاع عن مصالح أوسع الجماهير على المستوى العام والخاص. ولأن تفسير الوقائع، حتى من قبل المثقفين الثوريين في هذه المرحلة لا يخضع لمنهج واحد، أو قد لا يصلون إلى نتائج واحدة، يترتب على وسائل الإعلام أن تعطي الفرص المتساوية لكل منهم كي يعرض النتائج التي توصل إليها، وليدافع عنها. وإن الإعلام عندما يشرِّع بواباته على أسس الحوار الهادف إلى الوصول للحقيقة يبدأ بالخطوة الأولى نحو تحقيق وظائفه الإنسانية.
وإذا كان ما نقوله عن رسالة الإعلام من قبيل (إعلام أفلاطوني) بعيد التحقيق، فهذا قد ينطبق أيضاً على النضال من أجل تحقيق هدف العدالة الاجتماعية والحرية السياسية لأنهما، كما يحسب البعض، (قيم إفلاطونية). ولأن النضال من أجل القيم لم يحقق غاياته، فهذا لا يعني أبداً أن ننفضَّ عنها وعن المطالبة بها، والنضال من أجلها. فليست هناك قيم أفلاطونية مستحيلة التحقيق، وإن كانت بعيدة من حيث التطبيق الميداني، فلعلِّةٍ في قوانين الصراع بين الطبقات، أو التيارات الفكرية الناشئة منه والمتصارعة على تحقيق المصالح.
وهنا نتساءل: هل تعدد المصالح وحصرها في أضيق رقعة من المستفيدين منه، القوى الحاكمة، أو القوى الرأسمالية، أو تلك المجموعات من الموظفين التي تخدم في بلاطاتهم، يدفعهم إلى بناء أسس لـ(إعلام الحوار)؟ لنجيب: إن التاجر الذي يروِّج لسلعته ليس على استعداد لنقاش موضوعي، يصل فيه إلى قناعة بأن سلعة الآخرين قد تتفوق على سلعته بمواصفات أفضل. بل يسود بينهم عامل التنافس غير الشريف القائم على كشف عيوب سلع الآخرين، وإضفاء مواصفات غير حقيقية على سلعته. وما ينطبق على التجار ينطبق أيضاً على (تجار السياسة) عندما تتحول السياسة إلى تجارة. ولهذا لن تتحول وسائل الإعلام المملوكة لأولئك التجار، إلى وسائل للحوار، بل ستبقى منابر للشجار.
ونحن هنا، إذ نولي مبدأ (إعلام الحوار)، وننقد (إعلام الشجار)، فلأننا في حزب بنى مبادئه على قواعد فكرية قيمية ذات أبعاد إنسانية. ولأننا أعضاء في هذا الحزب، لمواصفاته المذكورة، علينا أن لا نُغفل أهمية الإصرار على النضال من أجل تلك القيم التي يعتبر (إعلام الحوار) قيمة تنتسب إلى منظومتها.
نحن نعي أن القوى الدولية الكبرى المتطورة صناعياً أغرقت العالم بصناعتها، وابتكرت وسائل الإعلام للترويج لمنتجاتها. ولأنها تمثل تياراً اقتصادياً رأسمالياً صُمِّم من أجل منفعة الطبقة الصناعية، فكان لا بُدَّ من أن يتم تصميم وسائل الإعلام، آلة وقواعد فكرية وثقافية، من أجل خدمة منفعة تلك الطبقات. ولأنها، أي تلك الطبقات، تحسب أن حضارتها وقيمها أنموذجاً للحضارة العالمية وعليها أن تبتكر وسائل الترويج لها، أما غيرها من الحضارات والقيم الأخرى فهي متخلِّفة وعلى الرأسمالية أن تبتكر وسائل محاربتها، فلا بُدَّ إذن، من وجهة نظر تلك الأوساط، ولكي تنتصر الحضارة الرأسمالية أن يسود مبدأ (صراع الحضارات) وليس تكاملها أو الحوار بينها. وبناء على تلك المعادلة صُمِّمت وسائل الإعلام وآلياته على مقاييس (الصراع)، وليست على مقاييس (الحوار). وهذا ينطبق على الدول التي تستخدم وسيلة الغزو العسكري لاحتلال أراض شعوب أخرى، فهي ليست على استعداد لمناقشة شرعية الحروب التي تشنها، بل توظِّف وسائل إعلامها، والعاملين فيها، والتابعين لها المستفيدين من غنائمها، من أجل الدفاع عن مشروعية ما لا شرعية له.
وأصبح من المعروف لدينا أن مصائرنا حتى مسألة وجودنا كمجتمعات لها حقها بتقرير المصير، محكوم عليه بالموت، على قاعدة مبادئ الصراع الرأسمالية. فقد قُضي على الصحوة القومية العربية التي ميَّزت التاريخ العربي في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. وبالقضاء عليها فقدت الحركة القومية منابرها الإعلامية المستقلة، وما بقي منها مستمراً في نضاله، فهو يسعى إلى هيجاء المواجهة من دون سلاح إعلامي. وإذا وجد فهو أضعفه وأقلُّه تأثيراً. ومنذ ذلك التاريخ فقد عمَّمت قوى الرأسمالية كل قيمها ومبادئها ونظرتها إلى الكون وإلى مصائر الشعوب، ووظَّفت من أجل ذلك كل وسائل الإعلام، حتى المحلية منها، من أجل نشر مبادئها في الصراع. وأما لماذا استطاعت القوى الرأسمالية أن توظف وسائل الإعلام المحلية ووضعها في خدمتها، فلأن القوى المحلية، ولكي تستمر مؤسساتها الإعلامية تبقى بحاجة إلى دعم مالي لتسد نفقاتها الكبيرة وتدر أرباحاً على مؤسسيها والقائمين عليها.
ومن المعروف أن من يوفِّر التمويل للمؤسسات الإعلامية هو الذي يتحكم بوجهتها، وتطبيق تعليماتها. وبهذا فقد الإعلام حياديته، وانحرف عن رسالته، وأصبحت السلطة الرابعة، أي الإعلام في بلادنا رهينة قرار الخارج، ورهينة إرادة الطبقات المحلية التي قامت بتأسيسها. ولهذا تحولت وسائل الإعلام، ليس إلى وسيلة لكشف الحقيقة، بل إلى وسيلة للتعتيم عليها. وغالباً ما ترى على صفحات الجرائد، أو شاشات التلفزيون، قامات الأقطاب السياسية والاقتصادية، أو من قاموا بتوظيفهم من المثقفين أو السياسيين، لينشروا المواقف التي تروِّج لاتجاهاتهم السياسية والاقتصادية، بينما هموم الجماهير وآلامهم تبقى مغيَّبة منسية، بدليل تغييب من يمثلها عن واجهات الإعلام، ومن يمثلها هم من قوى وأحزاب سياسية وطنية أو نقابات عمالية، أو شخصيات عُرفت بنزاهتها، أو انحيازها لمصلحة تلك الجماهير.
وللسببين: التمويل الخارجي للإعلام وتوجيهه من قبل الجهات المموِّلة، وإمساك الطبقات السياسية والاقتصادية المرتبطة بالخارج بوسائل الإعلام. ولأن أهداف إعلام تلك القوى هو التضليل على أهدافها الحقيقية، والتي تتناقض مع مصالح الجماهير الشعبية. ولأن معظم وسائل الإعلام، إن لم تكن كلها، مملوكة أو مسجلة باسمهم، فقد اعتمدت وسائل الإعلام مبدأ (الشجار)، وليس (الحوار) في واجهاتها. فالمتنافسون على المصالح هم من المتفقين ضد مصالح الجماهير، وكل منهم يريد أن يروِّج لبضاعته في مواجهة الترويج لبضائع الآخرين، لذلك فسيكون حوارهم شبيهاً بحوار المتنافسين بين التجار.
وأما القوى التي تمثِّل مصالح الجماهير، ممن ذكرناهم أعلاه، فهي الحلقة الأضعف، والأفقر. فهي لا تستطيع دخول ميادين المنافسة الإعلامية لتكاليفها الباهظة. وإذا كانت قد فُتحت لها منافذ وسائل التواصل الاجتماعي، كبوابة رئيسية عليها أن تستفيد منها إلى أقصى الحدود. ولكن، لكي يتم توظيفها في الإطار الصحيح، على القوى والأحزاب والشخصيات الوطنية أن تعي خطورة الدخول إلى الوسط الجماهيري عبر منهجية الإعلام لـ(لشجار)، بل أن تعتمد منهجية الإعلام (الحوار).
فما هي تلك المنهجية، وعلى ماذا يجب أن تستند؟
ما نكتب عنه ليس مبنياً على اختصاص فني بالإعلام، بل يستند إلى عامل التجربة الميدانية، بعد متابعة ومراقبة يومية لسنوات طويلة، وبناء عليها نضع الملاحظات والأفكار التالية:
إن المواطن العادي توفَّرت له عشرات من شاشات التلفزيون. وأكثر منها عبر التواصل الاجتماعي. وأقلها انتشاراً هي وسائل الإعلام المقرؤة. وإذا كانت وسائل الإعلام المتاحة كثيرة، فإنما تمثِّل نعمة للبشرية عامة، ولمجتمعنا خاصة. ولكن لأن تلك الوسائل أصبحت، في الغالب الأعم، من المشبوهة في أهدافها، لأنها تروِّج لمصالح مؤسييها ومموليها. ولكثرة انتشارها أصبحت بمتناول جميع الناس. فهي بالنسبة للمواطن العادي تملأ فراغه، وتوقه لمعرفة الحقيقة، ولأنها لم تؤسس من أجل الدفاع عن مصالحه، بل عن مصالح الطبقات العليا من سياسيين وقوى اقتصادية. ومن أجل دول خارجية تعمل على الترويج لنفسها ولأهدافها. لذلك تنشط تلك الوسائل لتضليله. ولكثرة تلك الوسائل ولتناقض أهدافها، ولكثرة موادها الإعلامية والتحليلية، والترفيهية والدعائية، وبما تضيفه من برامج التسلية والتشويق، وكثرة مواقفها المتباينة، تؤدي إلى نوع من التشويش في مدارك المشاهد العادي. فتصل به الحالة إلى مستوى من الضياع الذي لا يميز فبه بين الخبر الصادق أو الخبر الكاذب. التحليل الصحيح والموضوعي من التحليل السطحي والموجَّه. تبقى وسائل إعلام الحركات السياسية الملتزمة بقضايا الجماهير هي الملاذ الآمن.
ولكن...
ولأن تلك الحركات تشكل الحلقة الأضعف، وخاصة من حيث انتشارها المحدود في الأوساط الجماهيرية، ولقلة مواردها المالية بحيث تعجز عن إصدار دورية مكتوبة ومطبوعة، لم يبق أمامها وسيلة للترويج لأخبارها وتحليلاتها سوى وسائل التواصل الاجتماعي، لأنها الأقل كلفة. وهي على الرغم من قلة انتشارها لصعوبة وصولها إلى معظم المثقفين تبقى المصدر الوحيد المتاح. ولأنها كذلك، ولأن الحركات الثورية تمتلك أدوات التحليل الموضوعي، على تلك الحركات أن تبتعد في وسائلها الإعلامية عن طرائق (الإعلام للشجار) وتحولها إلى منابر لـ(الحوار). تطرح فيه قضاياها بسلاسة وهدوء، مدعمة ببراهينها المستندة إلى وثائقها الصادقة، وتلك هي وسائلها التي منها ستفرض الثقة بها على قرائها. والابتعاد عن كل قواميس السباب والشتم والتجريح، والامتناع عن الرد على كل كلام لا يحمل هذه المواصفات، وتجنب الغرق معهم باستخدام وسائلهم ومصطلحاتهم. وإذا كنا نعتبر، من خلال مقال مليء بالشتائم والمصطلحات غير الموضوعية، أننا قمنا بإثخان أولئك بالجراح، تنفيساً عن غضب أو عن عصبية. وإذا كان الغرض إيصال الحقيقة إلى من ينشدون الرأي السليم، فإن الغرق بالأسلوب المشار إليه، يشكل عبئاً على الثوريين لأن من ينشد الحقيقة من القراء الذين يقفون في وسط الطريق بين المتحاورين فإنهم سينكفئون عن متابعة (الجدل) لأنه عقيم، وسيذهبون إلى منابر أخرى يفتشون عن أجوبة على أسئلتهم وتساؤلاتهم، والتفتيش عن مصادر أخرى لعلهم يجدون فيها ما يشفي الغليل. فلتكن منابرنا هي المثال، من خلال تطبيق مبادئ (إعلام الحوار)، ومنع تطبيق وسائل منابر (إعلام الشجار).


ليست هناك تعليقات: