رحل نعمة جمعة لكن لن ننسى ما ترك من مآثر
رحل أبو وضاح
الأب والأم لعائلته
رحل نعمة جمعة
المحامي الإنسان،
رحل محامي
الفقراء والمقهوين ممن لا محام لهم. وممن لا صوت لهم.
رحل المناضل في
سبيل أمته ومبادئه،
رحل الرجل
الصديق ورفيق النضال
كنت أبا وضاح
إنساناً يرعى أسرة كبيرة، فخلفك من كنت تعتز بهم، ومن ساروا على دروب العصامية
التي شققتها لهم. فكانوا نعم الأبناء الخلف، وكنت لهم نعم الأب السلف.
كما كنت تكن
لأسرتك الشعور الإنساني النبيل، كنت الإنسان أيضاً الذي يرعى من يعتبرهم منسيين من
قبل الأنظمة السياسية، ومقهورين من إجحاف الأنظمة الاجتماعية. فقارعت من اضطهدهم،
ووقفت إلى جانبهم، مدافعاً ومنافحاً أمام المحاكم وفي الشارع والمنتديات وحلقات
السياسة والمحافل الإنسانية. وكانت من أهم القضايا التي تطوعت فيها للدفاع عنهم
قضية بلدة حانين. واستأنفت عملك بالاستمرار في الانتساب إلى جمعيات حقوق الإنسان
في لبنان كما على المستوى القومي العربي.
لم تكن قضايا
المقهورين اللبنانيين قضيتك الوحيدة التي تحتل الصدارة في اهتمامك، بل كنت من
الأصوات التي ترفع قضايا الوطن العربي، تلك التي دفعت بك للالتزام بحزب البعث
العربي الاشتراكي، فأصبحت قضية فلسطين من أهم القضايا التي رهنت لها كل اهتمامك،
فدافعت عنها في المحافل اللبنانية والعربية، وتطوَّعت للنزول في خنادق المقاومة
الفلسطينية، تارة لمشاركتها في تحرير الوطن السليب، وتارة أخرى للدفاع عنها ضد
تصفيتها واقتلاعها من لبنان.
ولما احتُّل
العراق، شكل عندك الهاجس والهم والقضية، فكانت المقاومة الوطنية العراقية قبلتك
التي تأنس لنضالاتها، وتتابع أخبارها، ويثلج صدرك لانتصاراتها.
في حركتك
النضالية، منذ انتسابك إلى حزب البعث في الخمسينيات من القرن العشرين، ما تلكأت
أبداً عن ترجمة أفكار حزبك إلى وقائع نضالية مشهودة، ولم يُثنك عن ذلك، لا تهديد
ولا وعيد. وترجمت إيمانك إلى واقع مشهود، فدفعت، من ضمن ما دفعت، ثمن الاعتقال في
أنصار الذي أسَّسه العدو الصهيوني بعد احتلاله لبنان في حزيران من العام 1982،
فكنت الصوت الذي يعمل على حماية حقوق الأسرى من لبنانيين وفلسطينيين ومن الرعايا
العرب الذي كان العدو يمارس ضدهم كل أنواع القهر الجسدي والنفسي. ومن تجربتك وُلد
كتاب (وادي جهنم)، الذي سجَّلت فيه قضايا صمود الأسرى، والذي سيبقى معلماً من
معالم الحفاظ على التجربة الباهرة، وكان سفراً من أسفار مقاومة العدو حتى من خلف
أسلاكه.
ما تلكأت يوماً،
يأ أبا وضاح، عن مواجهة القمع والظلم وخفافيش الليل ممن أرادوا أن يطفئوا الشعلة
التي يحملها المناضلون أمثالك دفاعاً عن الحرية والقمع، فدفعت الثمن مرة أخرى في
سجون المخابرات السورية، فعملت من داخل السجن على تصليب عود المعتقلين لأسباب
سياسية. وكنت من الصامدين المكابرين في وجه خفافيش المخابرات والأجهوة الأمنية
المعادية لتطلعات شعبنا، فتعرَّضت للمطاردة، ولمحاولة الاغتيال التي استهدفت حياتك
لاقتلاع روح التحدي وصلابة المواجهة، ولكنك كما قهرت السجن فقد قهرت محاولة
الاغتيال التي استهدفت حياتك. وتابعت وثابرت، كما فعل رفاق لك حين تحدوا وصمدوا في
موجات الاعتقال والاغتيال.
ولكن أيها
الرفيق والصديق، لقد قهرك الموت، ولكن لم يقهرك الاعتقال، ولم تُرهبك محاولات
اغتيالك. ولكن لم يقهر فيك الثورة والعنفوان كلما وضعنا تجربتك على محك التقييم
والتحكيم.
رحلت أبا وضاح
أيها الرفيق والصديق، رحلت وبقيت ودوداً في غضبك تماماً كما كنت ودوداً في هدوئك.
طوال رفقتي لك خاصة وقد جمعتنا الصداقة الحميمة التي امتدت عشرات السنين، عرفت فيك
الإنسان الودود الذي يؤنس في مجالسه عندما ينطلق على سجيته فيحوِّل المأساة التي
لفَّت مجتمعنا إلى أقاصيص وحكايات تعمل على تنفيس الاحتقان الذي ملأ قلبك وعقلك، فتنفجر
أحياناً وتهدأ أحياناً أخرى. ولا ضير في أن يتحوَّل الاحتقان إلى غضب، ولكنك تعود
إلى هدوء المحامي الذي ينظر إلى تلك المشاكل بعين الرصانة ولهدوء، فتتحول ساعتئذِ
إلى التحليل والاستنتاج واستنباط الحلول.
تلك المزية
كانت تجمع ما بين الالتزام بقضايا الناس وتسخير إمكانياتك في الدفاع عنهم، وبين
الغضب الذي لا بُدَّ منه إذا ما استمرت معاناتهم من دون أن يلتفت إليهم من يجب
عليهم أن يلتفتوا. ولذلك كنت ودوداً في غضبك، كما كنت ودوداً في هدوئك. تدافع عنهم
وأنت تشعر بمأساتهم، ومن الخطأ أن لا يغضب من ينال منه القهر الشيء الكثير، ومن
الخطأ أن تعالج المأساة بغير الصبر والهدوء.
وداعاً أبا
وضاح، وإلى اللقاء من جديد باستلهام تجربتك الغنية بالدروس والعبر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق