تأصيل تاريخي لوعد بلفور
في الثاني
من تشرين الثاني من كل عام، يحيي القوميون الذكرى المشؤومة التي بها أعطى الغرب
الأوروبي أرض فلسطين للصهيونية العالمية، كخطوة من خطوات السيطرة على مقدرات الأمة
العربية، وإبقائها خاضعة للنفوذ الرأسمالي الغربي. ولهذا كان وعد بلفور نتيجية
تخطيط مسبق لمشروع متكامل شاركت فيه الدول الأوروربية جميعها من دون استثناء.
وللكشف عن أصوله التاريخية، نعيد نشر مقطع من (الفصل الفصل
الخامس: الثورة العربية الثانية قومية الاتجاهات).
الفصل
الخامس جزء من كتاب جديد لحسن خليل غريب، يحمل اسم (القومية العربية من التكوين
إلى الثورة)، وصدر عن دار الطليعة في شهر تشرين الأول من العام 2018. وفيه يكشف
المؤلف عن أهم الوثائق التي تبرهن على أن الوطن العربي يقع في قلب المؤامرة
الغربية التي تمَّ التخطيط لها منذ ما قبل إسقاط الدولة العثمانية. وهذا نص
المقطع:
1-المنطقة العربية في صلب الأهداف الاستعمارية
قال هنري
كيسنجر في أوائل السبعينيات من القرن العشرين: (إن ازمة الشرق الاوسط ولدت مع الله
وتموت معه). فالأرض
العربية، استناداً إلى ما قاله كيسنجر وإلى ما أكدته كل مراحل التاريخ السابقة
واللاحقة، مزروعة دائماً بألغام التآمر الخارجي. وعن
ذلك تتميز الثورة العربية بوجود عاملين:
-الأول: عامل التغيير في الداخل ومن الداخل وبإمكانيات داخلية.
-الثاني: عامل التدخل الخارجي الذي كان ثابتاً من ثوابت التاريخ العربي في كل
مراحله السابقة وسيبقى العامل الأهم في المستقبل.
فالثورة
العربية، محاطة باستمرار بعامل المؤامرة القادمة من الخارج. وهذا ما أكدته وقائع
التاريخ القديم، والتاريخ الحديث والمعاصر. ولذلك لا نستطيع بحث أي جانب من
جوانبها من دون ربطه بالأطماع الدولية والإقليمية.
وعن
ذلك، كانت المنطقة العربية محطة دائمة للغزوات القادمة من الخارج، الآتية من
الغرب، (من اليونان وروما) ومن الشرق (الفرس) في التاريخ القديم. و(الغزوات
الصليبية) القادمة من الغرب، ومن الشرق غزوات الفرس والمغول (في مرحلة
الإمبراطورية الإسلامية). وفي التاريخ الحديث والمعاصر غزوات الأوروبيين (في الحرب
العالمية الأولى)، وغزوات الأميركيين (بعد الحرب العالمية الثانية) وما تزال
المرحلة مستمرة حتى الآن. وفي كل مرة كان الغزو القادم من الخارج يجد له مساعدين
وعملاء في الداخل.
ولكل
هذا، لا يمكننا الإحاطة بمسار الثورة العربية في هذه المرحلة، كما كان الأمر في
المراحل السابقة، من دون الإحاطة بالعوامل الخارجية الدولية والإقليمية. ولكي تبقى
الصورة واضحة عندما نعالج قضايا الثورة العربية أن نأخذ بعين الاعتبار ترابط العاملين الداخلي والخارجي.
2-انتقال
المنطقة العربية من إمبراطورية عثمانية إلى إمبراطوريات غربية:
قبل انهيار الإمبرطورية
كانت بعض الدول الأوروبية وعلى رأسها (بريطانيا، فرنسا) تخطط لإسقاطها من جهة،
ولكنها كانت أيضاً تعدُّ للبديل من جهة أخرى. وما إن شارفت الحرب العالمية الأولى
(1914 – 1918) على الانتهاء،
بانتصار تلك الدول، حتى راحت النوايا تتوضَّح، خاصة عندما راحت القرارات التنفيذية،
التي اتخذتها تلك الدول، تظهر واحداً تلو الآخر. وما إن اكتملت في خلال سنوات
قليلة، أي بعد انتهاء الحرب بخسارة الإمبرطورية العثمانية، كحليف لبعض الدول
الأوروبية، وفي المقدمة منها ألمانيا، حصل أول زلزال في التاريخ، بإعادة رسم
الخرائط من جديد، حيث كانت الإمبراطورية العثمانية هي أكثر من نالتها خطط التقسيم
الجديد. وبانهيارها تبيَّن أن الهدف الأول من بين أهداف الحرب كان الاستيلاء على
المنطقة العربية. ولأنها مرحلة مفصلية شكَّلت تغييراً جذرياً في تاريخ المنطقة،
سنقوم بإلقاء ضوء سريع على شتى جوانبها، بما لها من تأثير على مستقبل الوطن
العربي، وعلى مستقبل الثورة العربية التي تفاعلت معها.
أ-الغرب
الأوروبي يرث تركة الرجل العثماني المريض:
أصبح من الثابت أن الدول
الأوروبية كانت تضمر الاستيلاء على المنطقة العربية، فلأنها تحتل موقعاً
استراتيجياً في المثلث الأوروبي – الأفريقي – الآسيوي. فمنها كانت تمر قوافل التجارة بين
أوروبا والشرق الآسيوي، ناهيك عن أنها كانت تعتبر الممر الاستراتيجي الأقصر بين
الإمبراطوريات الأوروبية، والشرق الآسيوي بما فيها الصين والهند الأكثر أهمية في
أطماع الدول الأوروبية، وكانت أطماع بريطانيا تأتي في الأولوية منها، حيث كانت في
تلك المرحلة تسمى بـ(الإمبراطورية التي لا تغيب عن ممتلكاتها الشمس).
وكانت الأرض العربية، منذ
فجر التاريخ، قبلة لأطماع الشعوب الأخرى من كل الجهات. وإذا كانت الأرض العربية
ملتقى الأديان السماوية، وخاصة المسيحية واليهودية، فإنها كانت تشكل الحلم لدى
الأصوليات الدينية في أوروبا. وما الحروب الصليبية، التي شنَّتها الدول الأوروبية،
ما بين العامين (1096 – 1291)، سوى
المظهر الأبرز لذلك الحلم. ولأهميتها الدينية فقد جذبت إليها مئات الآلاف من
المقاتلين الذين اعتبروها حروباً مقدسة. وتحت جاذبية هذا الشعار ركبت النخب
الاقتصادية في أوروبا تلك الموجة من أجل تحقيق أهداف إقتصادية، كالحصول على ممر
استراتيجي، لاستيراد المواد الخام من الشرق الآسيوي. فكانت للحروب المقدسة أهداف
اقتصادية. ومن الطبيعي أن تكون تلك الحروب امتداداً واستئنافاً للغزوات الأوروبية
القادمة من اليونان وروما في عصور ما قبل الإسلام، وكانت حلقة من حلقات الحروب
التي جاءت بعدها، كحملة نابوليون بونابرت التي أعد لها منذ العام 1798، من أجل
تشييد إمبراطورية فرنسية في المنطقة.
وهكذا كان التاريخ يجري.
يشهد صعوداً لتلك المشاريع تارة، وهبوطاً تارة أخرى، ولكن المصالح كانت دائماً
تشكل عاملاً ثابتاً في خطط الطامعين من الخارج، وخاصة الدول الأوروبية
وإمبراطورياتها. وشاركهما اليهود في العالم لأن أنظارهم التلمودية كانت تحثهم على
إعادة بناء هيكل داوود كواجب ديني يهودي مقدس.
كانت أهداف الحرب الأساسية
واحدة عند الإيديولوجيتين المسيحية الأوروبية، واليهودية في العالم، والرأسمالية
الأوروبية. وهذه الحقيقة كشفتها فيما بعد الوثائق التي تم إعدادها قبل البدء
بالحرب. وتلك الوثائق هي مؤتمر بانرمان واتفاقية سايكس – بيكو، ووعد بلفور، وكانت كلها مرتَّبة من أجل إعادة
رسم خرائط المنطقة من جديد. هذا ناهيك عن أن الدول الأوروبية قد استغلت حاجة العرب
للاستقلال السياسي فاعتبروه طعماً يجذبهم ويغريهم بالوقوف معهم في الحرب ضد الدولة
العثمانية. ولكن كانت وعودهم للعرب شيئاً، وما أضمروه لهم شيئاً آخر. فقد كان
المخطط ينص على إعطاء العرب استقلالاً ذاتياً بإدارة التحالف. من أجل منع قيام
وحدة عربية.
بـ-الحرب
العالمية الأولى وإعادة رسم خرائط الشرق الأوسط:
منذ أن اتخذت الدول
الأوروبية قرارها بإسقاط الإمبراطورية العثمانية كانت تُعِدُّ مشاريعها وخططها من
أجل رسم الخرائط الجديدة على قواعد تتيح لها بالإمساك بكل مفاصل التركة. وكان من
الملفت للنظر أن تلك الدول أولت اهتمامها لمسألتين أساسيتين، وهما: فصل المغرب
العربي عن مشرقه، وبالتالي العمل للحؤول دون قيام وحدة بين أقطار المشرق العربي.
ولذلك نعتبر أن مراجعة تلك الوثائق حاجة أساسية من أجل إيضاح المشهد التاريخي الذي
ستؤول إليه المناطق العربية في ظل المتغيرات الجديدة. وعن ذلك، نبدأ باستعراض
مكثَّف للوثائق الثلاث التالية: مؤتمر بانرمان، واتفاقية سايكس – بيكو، ووعد بلفور.
-مؤتمر هنري
كامبل بانرمان انعقد في لندن من العام 1905 – 1907. وشاركت فيه
بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا وإيطاليا وإسبانبا والبرتغال. وخرجوا في نهاية
المؤتمر بوثيقة سرية اعتبرت أن مصدر الخطر الحقيقي على الدول الاستعمارية، إنما
يكمن في المناطق العربية من الدولة العثمانية.كما اعتبرت أن خطورة الشعب العربي تأتي من
عوامل عدّة يملكها: وحدة التاريخ واللغة والثقافة والهدف والآمال وتزايد السكان...
ورأى المؤتمر ضرورة العمل على استمرار إبقاء وضع المنطقة العربية متأخراً، كما
الإبقاء على عوامل التفكك والتجزئة والانقسام وإنشاء دويلات مصطنعة تابعة للدول
الأوروبية وخاضعة لسيطرتها. ولذا أكدوا فصل الجزء الأفريقي من المنطقة العربية عن
جزئها الآسيوي، وضرورة إقامة الدولة العازلة، على أن تكون عدوة لشعب المنطقة
وصديقة للدول الأوروبية.وعن ذلك لم يجدوا غير الشعب اليهودي الذي يؤدي هذا الغرض،
لذلك نصَّت اتفاقية سايكس – بيكو على تقسيم
المنطقة العربية إلى دويلات، وجاء وعد بلفور ترجمة عملية لقرارات المؤتمر. ومن سياق
الأحداث فقد كان الوعد نتيجة لمقررات المؤتمر الصهيوني الذي عُقد في بازل – سويسرا من العام 1897.
-اتفاقية سايكس – بيكو: تم الوصول إلى
هذه الاتفاقية بين تشرين الثاني من العام 1915 وأيار من العام 1916، وتم التأكيد
عليها مجدداًفي مؤتمر سان ريمو 1920. وفي تلك الاتفاقية تم تقسيم المشرق العربي
إلى حصص بين الدولتين العظميين، فرنسا وبريطانيا.
-وعد بلفور: وهو عبارة عن
رسالة وجهها وزيرة خارجية بريطانيا، بتاريخ 2 تشرين الثاني من العام 1917، إلى
اللورد روتشيلد، يشير فيها إلى تأييد الحكومة البريطانية قيام وطن قومي لليهود في
فلسطين، وكان ذلك بمثابة قرارات تنفيذية لمقررات مؤتمر بانرمان، واتفاقية سايكس – بيكو. واستناداً إليهما وُضعت فلسطين تحت إدارة
دولية يتم التشاور حولها بين فرنسا وبريطانيا وروسيا. وبعد انتهاء مفعول صك انتداب
هيئة الأمم على فلسطين في 14 أيار من العام 1948، جرت مسرحية حرب التقسيم التي انتهت
ببناء دولة يهودية على أرض فلسطين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق