في
المرحلة الانتقالية الرمادية إلى عالم دولي جديد
أين هو
موقع العرب؟
إذا
كان التاريخ يسجل لسقوط الاتحاد السوفياتي بداية لصعود النزعة الأميركية في بناء
قرن أميركي جديد تستفرد الولايات المتحدة الأميركية بحكم العالم، فإن عرقلة تطبيق
مشروع الشرق الأوسط الجديد يشكل البداية لإعادة بناء نظام دولي متعدد الأقطاب.
بين
تلك البداية القديمة، وهذه البداية الجديدة، كان الوطن العربي في القلب من أطماع
أميركا عندما ابتدأت بتنفيذ مشروعها، كما ظلَّ في القلب من الاهتمام الاستراتيجي
في مناظير القوى الدولية الأخرى التي أطلَّت برأسها بعد إلحاق الهزيمة بالمشروع
الأميركي. ولهذا السبب الواضح، لا يمكن مراقبة متغيرات الوضع الدولي من دون
الاهتمام بتحديد موقع العرب، أنظمة رسمية وشعبية، في مواجهة المرحلة؟
أعلن
بعض مفكري الإدارة الأميركية (نهاية التاريخ) بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وصعود
ما أطلقوا عليه بـ(إحلال الديموقراطية الرأسمالية)، بدأ تنفيذ مشروع الاستيلاء الأميركي
على العالم في تفكيك الأنظمة التي كانت ملتحقة بالاتحاد السوفياتي في أوروبا، وتلاها
احتلال أفغانستان، وكان من أهم حلقات المشروع هو السيطرة على الوطن العربي، بداية
من العراق، الذي اعتبره رامسفيلد وزير دفاع إدارة جورج بوش الإبن، المحور المركزي
في دائرة إذا ما أُسقِط، تنهار ما تحيط به من دول كأحجار الدومينو، حسب تعبيره.
ولذلك
اتخذت الإدارة الأميركية قرار الحرب ضد العراق على الرغم من إسقاط مشروع القرار
الذي ضغطت أميركا وبريطانيا على مجلس الأمن لإصداره، وكان إسقاطه بفعل استخدام كل
من فرنسا وألمانيا وروسيا حق النقض. ونعيد التذكير بهذه الحقيقة لعلاقتها بما يحصل
من تطورات حالية ومتغيرات دولية.
استطراداً،
أحتلت أميركا وبريطانيا العراق، والتحقت بهما أربعون دولة، راحت تتهاوى واحدة تلو
الأخرى تحت تأثير ضربات المقاومة الوطنية العراقية، ولم يبق صامداً منها سوى
القوات الأميركية، التي تأخرت في إعلان هزيمتها حتى أواخر العام 2011، وذلك لأنها
كانت تحضر لتوليد عملية سياسية في العراق وإعطائها شرعية مزيفة أولاً، وثانياً
الاتفاق على احتلال بديل يرعى تلك العملية، ولأن أميركا كانت تثق بحليفها نظام
الآيات في إيران، فقد سلَّمته إدارة عملية الاحتلال.
كان
أوباما، الرئيس الأميركي في تلك المرحلة، يراهن على استكمال خطة جورج بوش الإبن،
وحسبما صرَّح رامسفيلد، وزير دفاعه قبل حتلال العراق. وكما صرح بول وولفويتز، أحد أهم
أركان مشروع اليمين الأميركي المتطرف مباشرة بعد احتلال بغداد، بأن يتوسع المشروع
الأميركي، كما كان منصوصاً عليه بالأصل، أن يتم توسيع دائرة الاحتلال الأميركي إلى
دول الجوار، فكان مشروع (الشرق الأوسط الجديد)، أو (مشروع حدود الدم) هو المشروع
الذي بدأ تنفيذه في أوائل العام 2011، مترافقاً مع الإعداد الأميركي للانسحاب من
العراق على قاعدة الحرب بالواسطة، أو تفكيك دول الوطن العربي من دون تدخل أميركي عسكري
مباشر، أي ما أصبح يُعرف بـ(التكلفة الصفرية للحرب). فبدأت في تونس ومن بعدها في
مصر، وتلتهما ليبيا، ولحقت بهما الساحة السورية.
كان
من الواضح أن الإدارة الأميركية تراهن على الدورين الإقليميين، الإيراني والتركي،
بسبب أطماعهما بكسب حصة من مشروع تقسيم الوطن العربي. ولذلك كان لكل من النظامين
الإقليميين دور مؤثر في كل ما حصل في الأقطار العربية التي التهبت ساحاتها.
وعلى
خط مواز لتلك التطورات والوقائع، شعرت بعض دول الخليج العربي بوطأة وخطورة ما
يجري، خاصة من إعطاء دور كبير لجماعة الإخوان المسلمين باحتضان تركي شملت كل من
تونس ومصر وليبيا وسورية ليشكل (الهلال السني). وإعطاء دور كبير للنظام الإيراني
الذي أخذ بالتوسع بالإضافة للعراق، الذي يحتله احتلالاً فعلياً، طال سورية ولبنان،
مستكملاً ما أطلق عليه آياته (الهلال الشيعي)، إضافة إلى تدخله السافر في اليمن،
ليسيطر حسب تصريحات مسؤوليه على أربع عواصم عربية.
إن
الواقع الجديد، بعد الهزيمة الأميركية في العراق، ولَّد الشعور بالخوف عند معظم
دول الخليج العربي، وفي المقدمة منهم المملكة العربية السعودية التي وجدت أمنها
مكشوفاً أمام الزحف الإيراني بعد الانسحاب الأميركي، الأمر الذي أدى إلى صدام معلن
مع إدارة أوباما. وبسببه ساءت العلاقات الأميركية – السعودية.
إن
الصدام المذكور كان ماثلاً للدراسة عند الحزب الجمهوري. وكذلك استفراد إيران بسرقة
ثروات العراق ومصادرتها لـ(العملية السياسية)، وتمهيد الساحة العراقية سياسياً
وأمنياً وعسكرياً للابتلاع كلياً في مشروع احتلال استيطاني واسع. وكانت مثار إعادة
تقييم عند الحزب المذكور، الذي رشَّح دونالد ترامب لتنفيذ الاستراتيجية الجديدة،
وذلك لسد الثغرات التي وقع فيها الرئيس أوباما. فكانت تصريحاته المثيرة، والملغومة،
في آن معاً. وهي باختصار، تصعيد حالة التهديد للنظام الإيراني من جهة، والمطالبة
بحق الشعب الأميركي بثروات العراق من جهة أخرى، الأمر الذي هدَّأ روع الدول
الخليجية في فتح صفحة صداقة جديدة مع إدارة ترامب.
تلك
هي صورة الواقع في السنة الأولى لولاية ترامب. ونتساءل عما إذا كانت قد حصلت
متغيرات بالمواقف الأميركية؟ وكذلك نتساءل عما أنجزه من وعوده التي أغدقها على دول
الخليج العربي؟
من
دون إغفال دور الجماهير العربية في تقديم الغالي والنفيس من أجل إسقاط الأنظمة الديكتاتورية
في الدول العربية، وإثبات حقها في التظاهر والتعبير السلمي، فقد اجتاح (الربيع
العربي) المساحات الخضراء في بنية الدول وعمل على إسقاط مفهوم وحدة الدولة
والمجتمع. وراح يعبث بها ويقوم بتهديمها وتفسيخ أواصرها وتفتيت وحدة مجتماعاتها.
كان كل ذلك يحصل في ظل غياب عربي رسمي وحزبي، فأصبحا الغائبين الوحيدين عن تقرير
مصير الوطن العربي، أقطاراً منفردة، ومصيراً مشتركاً.
من
المؤسف جداً، أنه رغم زلزال التخريب الذي طال كل شيء حيثما حلَّ (الربيع العربي)، في
الواقع وحيثما سيحل في المستقبل، ما زالت مواقف الأنظمة الرسمية ملتحقة بمواقف
الخارج، وهي ما زالت عاجزة عن استعادة دور لها تستطيع أن تلعبه. ويظهر أنها
استسلمت لمنطق تبادل المنافع بينها وبين إدارة ترامب، أي الحصول على الحماية مقابل
أجور مرتفعة. وفي المقابل تجاهلت عوامل القوة التي تملكها الأمة العربية، أنظمة
رسمية وجماهير شعبية، وقوى وأحزاب وحركات وطنية، ومقدرة شعبية واسعة على مقاومة
مشاريع إلحاق الوطن العربي بدول عظمى، أو بدول إقليمية.
وإذا
عددنا عوامل القوة بإيجاز لظهر أمامنا بوضوح أن العرب يستطيعون أن يفرضوا شروطهم
على كل الدول الخارجية، كما يمكن لتلك العوامل أن تدفع كل هؤلاء للتدافع أمام
أبواب العرب طلباً لضمان مصالحها، وهو البديل لوسيلة العمل على إلحاقهم خانعين
بهذا المؤتمر التسووي أم ذاك.
صمود
الشعب الفلسطيني منع ابتلاع فلسطين. ومقاومة الشعب العراقي أوقع الهزيمة بأميركا
والأربعين دولة. والغضب الخليجي على إدارة أوباما أرغم إدارة الحزب الجمهوري على
مراجعة مواقفهم المتحالفة مع النظام الإيراني. ومع كل ذلك، نرى الآن أن عوامل
القوة تلك غائبة، ولم يوظفها العرب لمصلحتهم، وعاد الخارج وفي المقدمة منهم
أميركا، إلى تكرار القيام بالخداع والكذب. فهل يمكنهم الآن أن يضيئوا الإشارة
الحمراء في هذه المرحلة؟
الرساميل
العربية قوة لا تضاهيها قوة رأسمالية أخرى في العالم، الجميع يتكالبون على
الاحتيال باقتناصها.
وفعالية
المقاومة العربية لا تضاهيها مقاومة أخرى في العالم. ألم يجمد حجر الطفل الفلسطيني
أعتى قوة في المنطقة؟ ألم يصرِّح طوني بلير، رئيس وزراء بريطانيا المهزوم بفعل قوة
المقاومة العراقية، قائلاً: (لقد فُتحت علينا أبواب جهنم في العراق)؟
هنا،
وعلى الرغم من مرور أكثر من خمسة عشر عاماً على الفيتو الألماني – الفرنسي –
الروسي، الذي منع أميركا من احتلال العراق بشرعية دولية، فإن هذه مسألة علينا أن
لا نغفلها، والتي تؤكد أن كل القوى الدولية، روسيا والصين، وحتى الدول الأوروبية،
جاهزة للتفاوض مع العرب من أجل ضمان مصالحها، التي إذا ضمنتها فإنها لن تقف
مستسلمة أمام الأمر الواقع الذي يفرضه عليها الإمبراطور الأميركي.
ولنا
مثال سريع عن هذه الحقيقة، مؤتمر وارشو، الذي تسلَّم فيه العرب أوراق جلب أميركية لحضوره
من أجل مقايضة القضية الفلسطينية بحمايتهم من الخطر الإيراني. ومؤتمر شرم الشيخ
الذي عُقد تحت خيمة عربية جاء فيه الأوروبيون طالبين تبادل المصالح من دون إملاءات.
فهل
للعرب، في مرحلة المتغيرات الرمادية الآن، أن يضيئوا الإشارة الحمراء لمنع استهتار
أميركا بالقرار العربي ومصادرته، وأن يرفعوا البطاقة الحمراء بإيقاف اللاعب
الأميركي حتى يصحِّح أخطاءه؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق