عندما تتناقض المواقف
حول تفسير للفكر القومي، بين من يرى أنه يجب أن يستجيب لمصالح الأكثرية الدينية أو
القومية، وبين من يرى أنه يستجيب لمصالح كل المكونات الدينية والعرقية، على
الطرفين المتناقضين أن يعودا إلى تحكيم ثوابت الفكر القومي وذلك بالعودة إلى جذوره
ومفاهيمه.
فإذا كان التناقض بين الموقفين عائداً إلى مفهوم
الفكر القومي، فهذا خلل فيه يوجب إعادة النظر في أسسه وقواعده. وإذا كان عائداً
إلى اجتهادات وتأويلات اختلف الطرفان حولها، فيتوجَّب إعادة النظر في الزاوية التي
ينظران منها إلى تفسير ثوابت الفكر ومفاهيمه، وعليهما أن يحتكما إلى جذور تكوينه.
لقد دفعتنا مظاهر التناقض بين الموقفين
المذكورين أعلاه، إلى الإدلاء برأي لعلَّه يعيد اللحمة بينهما، بل يجب أن يعيدها،
ويضع مفهوم الفكر القومي على السكة الفكرية الصحيحة.
وإذا كانت الديموقراطية، بمفهومها السياسي
العام، تعني الاعتراف للأكثرية بحقها في إلزام الأقلية برأيها، فهذا يجب أن لا
يعني أيضاً أن قرار الأكثرية الدينية أو العرقية هو الذي يحدد مفهوم الفكر القومي.
وإذا جرى ذلك، فسوف يقود بالتالي إلى نظام ديكتاتوري ديني، أو إلى نظام ديكتاتوري
عرقي. وفي هذا ما فيه من عوامل تفتيت لوحدة المجتمع الوطني بين أكثرية دينية
وأقلية دينية، وبين أكثرية عرقية وأقلية عرقية.
وإذا كان الفكر القومي يعبِّر عن وحدة المجتمع
الوطني، فهذا يعني القضاء على كل عامل يؤدي إلى حالة تفتيته وشرذمته، فهذا يعني
إلغاء لحق الأكثرية الدينية أو الأكثرية العرقية في تحديد مسارات المفهوم السياسي
القومي. وبالتالي اعتبار مفهوم الأكثرية والأقلية يستند إلى مفهوم المواطنة وليس
إلى مفاهيم الأكثرية الطائفية الدينية، أو مفاهيم الأكثرية العرقية، مهما بلغت
نسبتها العددية، سواءٌ أكان الأمر يتعلَّق بالقطر الواحد، أم كان يتعلَّق بمجموع
الأقطار العربية مجتمعة. وكذلك، لا يجوز اعتبار حقوق المواطن، المنتسب إلى أقلية أو أكثرية، هو المقياس
الذي عليه نقيس مفهوم الأكثرية أو الأقلية في المجتمع الوطني الواحد.
من المعروف والثابت، أن جذور الفكر القومي
النظري، الذي وُضعت أسسه في الفكر الأوروبي، إنما جاء بداية كرد فعل ضد المفاهيم
الكنسية في التشريع لدولة دينية، تفرض فيه سلطتها على أكثر من قومية من القوميات،
وعلى أكثر من مذهب من المذاهب المسيحية، التي كانت معروفة في أوروبا في تلك
العصور. واستطراداً، فعندما وُضعت أسس للفكر القومي، في ألمانيا أو فرنسا، أو
غيرهما من القوميات الأوروبية، تحاشى واضعو تلك الأسس أن يشيروا إلى المذهب الديني
الأكثري، أو الانتماء العرقي الأكثري، للنظام السياسي القومي داخل الحدود
الجغرافية لهذه القومية أو تلك. ولكنهم قاموا بوضع أسس لمفاهيم سياسية جديدة تقوم
على الإخاء والعدالة والمساواة بين مواطني الدولة القومية، بغض النظر عن عدد هذه
القومية أو تلك، وبغض النظر عن عدد المنتسبين إلى هذا المذهب المسيحي أم ذاك. ولكن
وُضعت المفاهيم القومية بحيث يتساوى المواطنون من شتى المكونات الدينية
والعرقية أمام القانون، وكذلك في الحقوق أو الواجبات. وأما انتماءاتهم الدينية فهي
ليست من مسؤولية الدولة القومية. وإنما حفظت الدولة حق جميع المواطنين بالاعتقاد،
من دون مساءلة أحد منهم على خياره الديني. ووقفت بالضد من استخدام حرية الاعتقاد
الديني بالمطالبة بحقوق سياسية واجتماعية مميَّزة للأكثرية الدينية حتى لو بلغ
تعدادها الـ(99، 99 %).
وبناء عليه، فقد أصبح المفهوم القومي واحداً
موحداً يفصل بين الديني والسياسي، ويوحِّد بين واجبات وحقوق أقلية عرقية وأكثرية
عرقية، ومهما بلغ عدد الأكثرية والأقلية العرقية. كما يوحِّد بين واجبات وحقوق
أقلية دينية وأقلية دينية. ولم يكن العدد هو المقياس على الإطلاق.
ومن أجل إعادة الحوار بين التيارين المتناقضين،
نتساءل عن ثوابت المفهوم القومي السياسي الذي أصبح سائداً ومتعارفاً عليه في كل
أرجاء العالم بشكل عام، وعلى الصعيد القومي العربي بشكل خاص؟
للمفهوم القومي ثوابت نظرية أيديولوجية: اللغة
والثقافة المشتركة والأرض الواحدة والمصير المشترك، وهذه من الثوابت التي تربط كل
المواطنين برباط وطني واحد. وله أيضاً أسساً سياسية. فالمفهوم القومي العربي
سياسياً، يعني أنه يمنح (حقوق المواطنين كاملة لكل مواطن أخلص للوطن العربي).
وكذلك يعتبر المواطنين (جميعاً متساوين بالقيمة الإنسانية)، وثقافتهم واحدة:
(قومية، عربية، حرة، تقدمية، شاملة، عميقة، وإنسانية في مراميها)، تربط بين حرية
الفرد وبين المصلحة القومية واعتراف المبدأ القومي بأن (حرية الاعتقاد مقدسة).
ولكنه لا يعتبر تلك الحرية مقياساً لتقدير قيمة المواطن في المجتمع، بل تُقدَّر
قيمته بحسب العمل الذي يقوم به (في سبيل تقدم الأمة العربية وازدهارها دون النظر
إلى أي اعتبار آخر).
واستناداً إلى هذا التعريف، يُعتبر المواطنون
سواسية في الحقوق والواجبات، وتقدَّر قيمتهم بحسب العمل وليس لأي اعتبار آخر، ديني
أو عرقي. ولهذا يعترف المبدأ القومي، للمواطنين بحريتهم في الاعتقاد على أن لا
تتناقض مع المصلحة القومية.
ولكل هذا يُطبق المفهوم السياسي القومي على جميع
المواطنين، وما يُطبَّق في قطر من أقطار الوطن العربي يُطبَّق في كل الأقطار.
ولذلك فلن يكون المفهوم صالحاً هنا أو مرفوضاً هناك. سواءٌ أقبلت به أكثرية هنا أو
رفضته هناك. وعن ذلك، فالمفهوم السياسي القومي ليست له ألوان مختلفة، بل هو ثابت
يجب تطبيقه ليس بناء على الألوان القطرية بل بناء على صلاحيته الشاملة التي تعبِّر
عن مصالح المواطنين العرب جميعهم على طول مساحة الوطن العربي وعرضها. وأما إذا
قسنا مدى صلاحيته لهذه البيئة القطرية أو تلك، فسوف يفقد صفاته المبدأية، ويتحول
إلى مجموعة من الألوان تتناقض مع مفهومه الشامل. وإذا رُفض هنا، وقُبل هناك، فهذا
يعني أن في المفهوم خلل يجب إعادة صياغته لإعادته إلى حظيرته الشمولية. وأما إذا
كان الخلل في تأويله أو تفسيره فعلى المؤولين والمفسرين أن يحتكموا إلى أسس الحوار
الموضوعي.
وأما القول بأن تفسيره يجب أن يُبنى على مراعاة
الحاضنة الثقافية الشعبية في قطر ما لأنها تعبِّر عن رأي الأكثرية فيه ففي التفسير
قصور واضح، لأن الحاضنة الثقافية الشعبية، ما قبل ظهور النظرية القومية، ليست هي المقياس
التي على أساس مزاجها يتم تطبيق الثوابت النظرية. بل على الحركة الثقافية أن ترتقي
بتلك الحاضنة إلى مستوى الثوابت النظرية للفكر القومي، فالنظرية في هذا الإطار
جديدة بلا شك وسوف تصدم حراس ثقافة ما قبل الظهور. وإن النزول إلى ما دون الثوابت
يعني التخلي طوعاً عنها، والانجرار وراء النزعات الثقافية القديمة، وتصبح المناداة
بالتغيير والتجديد باتجاه المبادئ القومية نوع من العبث وتضييع للوقت.
ولكن، على الرغم من ذلك، وللحقيقة الواقعية التي
تبرهن على أن أية ثقافة قديمة لديها نزعة مقاومة أية ثقافة جديدة، وليس من السهولة
بمكان أن تتم عملية التغيير الثقافي بسرعة وسهولة، بل يجب أن تمر عبر مراحل تحتاج
إلى أجيال، عبر عمليات تأهيل ثقافي شعبي تقوم بها المجاميع المثقفة، وتستخدم وسائل
التصاعد اللولبي تبدأ بالأقرب استعداداً لقبول التغيير الثقافي، بالأقل قرباً،
فالأبعد بحيث تنتشر الجهود كالإشعاع الدائري المحيط بالمجاميع الثقافية التي
استطاعت أن تستوعب ضرورة التغيير.
ولعلَّ اختلاف الأساليب في تعميم الثقافة
القومية الجديدة تتدرَّج حسب الاستعداد الشعبي لاستيعابها، تبدأ بالوسائل الأكثر
تبسيطاً في أمثلة يستلها المثقف من الحياة العادية للشعب، وتنتهي بالأكثر تعقيداً
نظرياً. وكل هذا لا بدَّ لحركات التغيير والأحزاب العقيدية من أن تقوم بتأهيل
الكوادر المثقفة على شتى المستويات، وتبدأ خاصة بتلك التي تعيش في الحواضن
الشعبية، والتي هي الأقرب منها في حياتها اليومية. ولعلَّ مسألة المقارنة بين الدولة
الدينية والدولة المدنية هي من أهم المداخل التي على المثقفين أن يبدأوا بها، من
دون خوف أو تردد، خاصة أن حراس الثقافة الدينية جاهزون باستمرار للتخريب في مواجهة
الثقافة القومية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق