المشروع
القومي العربي
تعريف ومفهوم
إن
المتغيرات التاريخية التي حصلت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، والتي جاءت بعد
انهيار الإمبراطورية العثمانية، أسهمت في ظهور العديد من المشاريع التي ترسم
مستقبل الجزء العربي منها، خاصة أنه كان يمثل الجزء الأكبر من مساحتها الجغرافية،
وكذلك من تعداد سكانها، ومن ثرواتها الطبيعية. ويكفي أن نعرف بأن هذا الجزء كان ممراً
ومستقراً لكل الغزوات العسكرية القادمة من الشرق ومن الغرب. كما يكفي أن نعرف أنه
لم تُبن إمبراطورية في التاريخ القديم من دون أن يكون هذا الجزء قابعاً في القلب
منها.
تلك
مقدمات تساعد من دون أدنى شك على تحديد مفهوم (المشروع القومي العربي)، وهو المسمى
الذي أطلقه الرواد القوميون العرب منذ مرحلة ما بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى،
لا بل نعتبر أن تلك الحرب لم تكن لتحصل لولا وجود الأطماع الغربية في المنطقة
العربية والتي خططت لها دول الاستعمار القديم، والذي كانت تمثله الدول الأوروبية
قاطبة.
هنا،
ومن أجل توضيح الأسباب التي خططت لها الدول الأوروبية حينذاك، سنتخذ من وثيقة
كامبل بانرمان التي وُضعت ما بين العامين (1905 – 1907)، والتي
شاركت فيها الصهيونية العالمية جنباً إلى جنب مع الدول الأوروبية وفي المقدمة منها
بريطانيا وفرنسا. وأما لماذا كانت الصهيونية شريكاً في المؤتمر، فلأنها تمثِّل
أعلى هرم في النظام الرأسمالي – الاستعماري أولاً، ولأنها
ثانياً خططت من أجل استعادة ما تسميه (أرض المعاد) في فلسطين، التي زعموا أن الله
وهبها لهم كونهم (شعب لله المختار).
تنص
وثيقة كامبل بانرمان بالنسبة للمنطقة العربية ما يلي:
لقد
أوصى (مؤتمر كامبل بنرمان (من أجل ضمان مصالح الغرب في المنطقة العربية بعد إسقاط الدولة
العثمانية، بما يلي:
آ-
على
الدول ذات المصالح المشتركة أن تعمل على استمرار تجزئة هذه المنطقة
وتأخرها، وإبقاء شعبها على ما هو عليه من تفكك وتأخر وجهل.
بـ
-
ضرورة العمل على فصل الجزء الأفريقي في هذه المنطقة عن الجزء الآسيوي، وذلك بإقامة
حاجز بشري، قوي وغريب، يحتل الجسر البري الذي يربط أوروبا بالعالم
القديم ويربطهما معاً بالبحر الأبيض المتوسط، بحيث يشكل، في هذه
المنطقة، وعلى مقربة من قناة السويس، قوة صديقة للاستعمار، وعدوة لسكان المنطقة).
وبالفعل،
بعد إسقاط الإمبراطورية العثمانية، أُعلنت أخطر مذكرتين تنفيذيتين، وهما (اتفاقية
سايكس – بيكو، ووعد
بلفور. الأولى تختص بتقسيم المنطقة العربية، والثانية إقامة (وطن قومي يهودي) على
أرض فلسطين.
بعد
إسقاط الإمبراطورية العثمانية تكاثرت مشاريع تفصيل مستقبل المنطقة، وتضاربت
وتباينت وتصارعت فيما بينها، وتأسست أحزاب وحركات لكل منها مشروعها، وهي تنقسم إلى
التيارات التالية:
-مشروع
التيارات القطرية، وهي التي اتخذت من اتفاقية سايكس – بيكو أباً
روحياً لها. وعملت على تكريس الواقع، باعتبار كل قطر من أقطار اتفاقية سايكس – بيكو قومية
ووطناً أخيراً لها. وهي باختصار استرخت أمام إغراءات الحكم لدول صغيرة وُضعت في
مواجهة مشروع توحيد الأمة العربية. وبهذا
جمَّدت أهدافها بدولة دون القومية.
-مشروع
التيارات الأممية، وهي التي اتخذت من سايكس – بيكو سقفاً
لها، ولكن على أساس أنها تعتبر تلك الأقطار مرحلة أولى باتجاه جرِّها إلى دولة
أممية، ووضعتها فوق المشاريع القومية. وانقسمت بين تيارين، وهما:
-الأول: بناء
دولة إسلامية عالمية، قادتها (حركة الإخوان المسلمين) منذ العام 1929.
واعتبرت الحركة، ومشتقاتها فيما بعد (أن القومية ما وُجدت إلا لمحاربة الإسلام).
واستقطب المشروع ذاته، في العام 1980، حركة أخرى في إيران تحت مسمى (ولاية
الفقيه)، يحمل الأهداف ذاتها، وأعلن العداء للقومية العربية.
-والثاني، بناء
دولة اشتراكية – شيوعية، بحيث قادت
الماركسية هذا المشروع انطلاقاً من الاتحاد السوفياتي، وفي حينها تأسست الأحزاب
الشيوعية العربية منذ العام 1924، وكانت ملتحقة بالحزب الشيوعي السوفياتي. وكانت
تعتبر أن القومية شوفينية المنطلقات والأهداف. ولذلك تخطت الوحدة القومية العربية،
ونادت بدولة ما فوق القومية.
-مشروع
التيارات القومية. أو المشروع القومي العربي:
بداية
كشف المشروع القومي العربي عن مخاوف الاستعمار والصهيونية من قيام دولة عربية
واحدة، واللذين أدركا مبكرين مدى خطورة قيامها على مصالحهم. ولذلك عملا معاً من
أجل محاربة هذا الهدف. ولكن للأسف لم تدرك التيارات القطرية والأممية تلك المخاطر،
الأمر الذي أدى إلى تشرذم المواقف العربية، خاصة المتنورة منها، وبالتالي إضعافها
في مواجهة المشاريع الاستعمارية والصهيونية.
وباختصار
وعبر عشرات السنين، استطاع المشروع القومي العربي، وبناء على ثوابت فكرية وسياسية
وتاريخية، كما بناء على نقد للتيارات القطرية والأممية، أن يضع أسساً له، وقد كانت
ثلاثيتها: (الوحدة والحرية والاشتراكية) هي الثوابت. وليس من المستغرب أن يلتقي
حزب البعث مع الحركة الناصرية على إشهارها وإعلانها شعارات للحركة القومية
العربية. حصل ذلك على الرغم من الاختلاف في تحديد الأولويات فيها. ولا يضرها ذلك
طالما أن الشعارات الثلاثة مترابطة ترابطاً جدلياً.
-على
صعيد النظرية القومية: تجمع المساحات الجغرافية، التي نعتبرها عربية،
أكثر شروط الانتماء القومي، وهي: وحدة التاريخ – وحدة اللغة – وحدة الثقافة – وحدة
المصير.... ولقد أدرك التحاف الاستعماري الصهيوني تلك العوامل، وتأثيرها في اندفاع
العرب إلى تشكيل وحدة سياسية بينها، فاتخذوا ضربة استباقية في تفتيتها جغرافياً
حسب اتفاقية سايكس - بيكو. ولأن التيارات القومية اعتبرت أن العرب تجمعهم أكثر
الشروط والعوامل الضرورية في تعريف القومية، فقد اعتبروها أساسأ لرفع شعار الوحدة
العربية والعمل من أجلها.
-على
صعيد هدف الوحدة العربية: رفض التيار القومي كل الدعوات القطرية لأنها تدعو
إلى التفتيت والتجزئة كما أرادتها اتفاقية سايكس – بيكو
الاستعمارية الصهيونية. كما رفض الدعوات الأممية التي تتنكر للعامل القومي، لا بل
تعلن عداءها له.
وأما
عن رفضه للتيارات القطرية، أو الإقليمية، فلأنها نوع من التفتيت لقدرات الأمة،
وتنكراً للعوامل القومية التي تجمعها. ففي تفتيتها ضعف في مواجهة المشاريع
الخارجية، كما فيها تشتيت لمواردها وثرواتها الطبيعية. فمجموع ثروات الأمة
ومواردها يشكل قوة اقتصادية كبيرة تكاد تضاهي أكثر الدول الكبرى قوة اقتصادية على
الصعيد العالمي.
وأما
عن رفضه للدعوات الأممية، بصنفيها الديني والمادي:
-يرفض
المشروع القومي بناء دولة دينية تقوم على الولاء للدين بديلاً للولاء
للوطن، لأنها أثبتت فشلها، لا بل خطورتها عبر التاريخ القديم، سواءٌ أكانت التجربة
قد حصلت في الغرب المسيحي، أم كانت قد حصلت في الشرق الإسلامي. ولذلك دعا إلى بناء
دولة مدنية تتساوى فيها كل مكونات المجتمع الدينية بالحقوق والواجبات. وكذلك رفض
قيام دولة أممية على قواعد الفلسفة الماركسية، لأنها على الرغم من أن تحمل أبعاداً
إنسانية سامية، إلاَّ أنها صعبة التحقيق إذا لم تكن مستحيلة، وهي تعمل على بناء
مجتمع أممي إنساني حارقة مرحلة البناء القومي السليم، وهو يكاد يرقى إلى مرتبة
(الحلم الرومانسي).
-الحرية:
على صعيد بناء الإنسان الحر: غني عن القول إن المسألة الديموقراطية أصبحت حاجة
للبشرية في هذا العصر. وهذا يعود إلى خطورة مبادئ التواكلية والتقليد والإلزام
التي واكبت عصور الإمبراطوريات الكبرى في التاريخ، سواء منها تلك التي كانت تغزو
الشعوب الأخرى واستعبادها لأسباب اقتصادية، أم تلك التي كانت تنشر نفسها بين شعوب
العالم لأهداف التبشير الديني. وللحرية الإنسانية، وطرقها التنفيذية في المبادئ
الديموقراطية، أبحاث واسعة لدى تيارات المشروع القومي، تستند إلى أرقى ما توصلت
إليه أحدث النظريات، وما أنتجته أرقى التجارب السياسية.
-الاشتراكية: ويطلق عليها
البعض مصطلح (العدالة الاجتماعية)، وهي التخطيط لاقتصاد يعود ريعه لمصلحة كل شرائح
المجتمع القومي، والذي يمنع استغلال جهد الطبقات العاملة على الصعيدين الزراعي
والصناعي والفكري. فهي المبدأ الكلي النقيض لمبادئ الرأسمالية التي تعني العمل من
أجل مصلحة الرأسماليين وحدهم.
ما
قمنا بالإضاءة عليه أعلاه، بشكل مكثَّف، يُعتبر مدخلاً لدراسات أوسع وأكثر وضوحاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق