الظاهرة الدينية بين العمق الروحي والسطحية البدائية
اعتبر الفلاسفة الماديون، على الرغم من اختلاف مدارسهم، أن
القوى القاهرة في الطبيعة كانت سبباً للظاهرة الدينية. فتلك القوى لأنها تملك قدرة
تفوق مخيلة التصور عند الإنسان، وقف عاجزاً عن ابتكار وسائل ناجعة في مواجهتها.
ولكي يدرأ خطرها عنه، ابتكر الإنسان وسائل التقرُّب منها والزلفى لها لكسب رضاها،
فعبدها، وقدَّم فروض الطاعة لها. ومن تلك الوسائل كانت العبادات التي وضعها
الإنسان البدائي لنيل رضى تلك الظواهر، درءاً لمخاطرها عليه.
وعلى الرغم من الدعوة إلى وحدانية الآلهة المتعددة في إله واحد،
كما تعارفت عليه الأديان السماوية، استمرت تلك الأديان باستخدام وسيلة العبادات
ذاتها التي استخدمها الإنسان البدائي منذ عشرات الآلاف من السنين. وإن كانت قد
أضافت على تلك العبادات الكثير من الطقوس وقامت بتهذيبها، فإن جوهر أهداف العبادات
لم تتغيَّر. وإذا كانت الاعتقادات والعبادات قد مارسها السحرة في العصر البدائي، فلأنهم
يمتلكون مقدرة على التخيل تفوق مقدرة الإنسان العادي. فلذلك زعموا أنهم يستطيعون
استجلاب السعادة ودرء الخطر عن الإنسان وتخليص روحه من مخاطر الأرواح الشريرة بعد الموت؛ وبهذا لعب السحرة
دور الوسيط بين الإنسان والقوى الخارقة.
وأما الآن فإن الطقوس التي تمارسها المؤسسات الدينية تختلف معها
بالشكل وتتوافق معها في الجوهر. هذا علماً أن ما تقوم به مؤسسات الأديان السماوية
من عبادات وصلوات وأدعية لتوفير فرص سعادة الإنسان في الحياة الدنيا، وما توفره من
فرص لخلاص الأنفس في الحياة الأخرى، له فعل السحر على النفوس المؤمنة، وقلما تجد
فرداً يتجرأ على نقدها، والتمرد عليها. وبذلك أصبح رجل الدين في زمن الأديان
السماوية يمثل الرابط بين الإنسان والله.
وما نود أن نشير إليه هنا، هو أن الظاهرة الدينية على قدمها
ومعاصرتها لشتى المراحل التاريخية، منذ بدء الخليقة حتى الآن، لم تتغيَّر بالجوهر
وإن تغيَّرت بالشكل؛ وهو السبب الذي يدفعنا إلى الدعوة للارتقاء بالظاهرة الدينية
من مستوى السطحية البدائية إلى مستوى العمق الروحي.
كانت المدارك العقلية للإنسان البدائية متخلفة، ولا تستطيع أن
ترتقي فوق المنظور والمحسوس، وإن ارتقت إلى المسائل الغيبية فإنها كانت عاجزة عن
الإجابة على أسئلة الحيرة والخوف التي تنتاب الإنسان مما لا يستطيع أن يرد غوائله
عنه. لذلك كان الإنسان خاضعاً لمن لديه المقدرة على التخيل وابتكار الأفكار، وكان
السحرة هم الذين يمتلكونها، ولذلك أقنعوا المحيط البشري أنهم قادرون على السيطرة
على الأمور الغيبية، بفك السحر والطلاسم وإمكانية الوصول إلى استرضاء القوى
الغيبية. فكان الإنسان البدائي يسلس القيادة لهم، ويخضع لمشيئتهم ونصائحهم وتحذيراتهم
وتوجيهاتهم. وكان السحرة يشكلون صلة الوصل بين القوى الغيبية والبشر.
وحتى عندما ارتقت الظاهرة الدينية من السطحية والتبسيط إلى
مستوى محدود من الإدارك العقلي، وذلك بالاعتقاد بوجود إله واحد، ظلَّت فئة محدودة
من البشر، وهم رجال الدين، يشكلون تلك الواسطة بين الإله الواحد وعامة البشر. وقد
أخذ دورهم يتضخَّم إلى الحدود التي اعتبروا أنفسهم أنهم الناطقون باسم الإله
الواحد. وأنهم يستطيعون تخليص أنفس البشر بعد الموت، واختلقوا وظيفة الشفاعة عند
الله للمذنبين. واشتطَّ الكثيرون منهم إلى الزعم بأنهم يعلمون خارطة الطريق للموتى،
فوصفوا بوابات العبور إلى حياة ما بعد الموت بدقة متناهية. ووصفوا طرائق التفتيش
على بوابات العبور، وصولاً إلى مرحلة الحساب، واعتبروا أن من يحمل (جواز الشفاعة)
سيدخله جهاز التفتيش على حواجز العبور إلى الجنة. ألم تصدر صكوك الغفران للدخول
إلى الجنة التي كان يبيعها رجال الدين؟ وإضافة إلى ذلك وصفوا بدقة متناهية رغد
العيش فيها. واعتبروا أن من لا يحمل ذلك الجواز، أو من لا يحمل (سجِّلاً عدلياً) أو
كشفاً بما قام به من أعمال الخير، ستدخلهم (شرطة المرور) إلى جهنم، ووصفوا بدقة
أهوال العيش الأبدي فيها.
طالما ظلَّت الغيبيات بعيدة عن العيان، قديماً وحديثاً ومعاصرة،
سيبقى الإنسان مُلِحَّاً على معرفتها، حتى ولو دغدغت التفسيرات مهما بلغت من
السطحية أحلامه. وسيبقى من يقدم تلك التفسيرات يحتل موقعاً مؤثراً في النفوس
العطشى لمعرفة مصير الإنسان الشديد الغموض. ولأنه بانتشار المعرفة العقلية عند
المجتمع البشري، يزداد الرفض لكل إجابة ما لم تكن قريبة من الإدراك العقلي
منتشراً، ويزداد انتشاراً كلما توسعت رقعة تأثير العقل.
لقد تحوَّلت مهمة رجل الدين إلى وظيفة، من وسائلها بيع صكوك
الغفران، حتى ولو بشكل غير مباشر. ففي الصلاة على جثمانه، وممارسة وسائل كثيرة من
الأدعية قبل دفنه وبعد دفنه. وقبض الأموال من أهل الميت، بحجة أو بأخرى، يعرفها
المتدينون، تأكيداً من رجل الدين أنها ستكون (كفَّارة) عن ذنوبه. وفي كل ذلك، تؤكد
أن ما يقوم به رجل الدين بمثابة ابتزاز للرشى من أهل الميت يدفعونها ثمناً لخلاص
نفس فقيدهم في الآخرة. ولكن السؤال المثير: لمن يدفع رجل الدين تلك الرشى التي
يقبضها من أهل الميت؟ ومن هي الجهة التي تتوسط مع الله لنيل صك الغفران؟ وهل الله
يستفيد من تلك الرشى؟
لقد حصرت المؤسسات الدينية وظيفة تخليص الأنفس والحصول على صك
براءة الميت إلى رجل الدين، والحصول على عفو من الله. وبذلك حصرت مهمتها في قضايا
غاية في الغيبية، فنزلت بمفهوم العفو الإلهي إلى مدارك قلَّما تقبل بها المؤسسات
المدنية حينما تحاكم إنساناً على فعل جرمي قام به؛ لأنها تترك العقاب للقضاة الذين
عليهم أن يطبقوا القوانين بشكل متساو بين كل أبناء البشر، وقلَّما تجد صنفاً من
القضاة البشريين من يقبل الرشوة لتخفيف الحكم على من يرتكب جرماً ما. وبذلك، ندرك
بأن المؤسسات الدينية شبَّهت المحاكم الإلهية ببعض الشواذ من القضاة المدنيين.
فعلت ذلك من دون أن تدري هي، أو ندرك نحن، أننا عندما نرفض رشوة القاضي المدني في
الحياة الدنيا، فإن رجال الدين يجيزونها لـ(المحاكم الإلهية) التي يفترضون وجودها
بعد موت الإنسان.
وبناء عليه، أليس الأجدى بالملايين من رجال الدين، الذين أصبحوا
بمثابة موظفين، تشرف عليهم العناية الإلهية، كما يزعمون، أن يهتموا بشؤون البشر
الدنيوية الملموسة والمحسوسة من أجل نشر الوعي بكيفية اكتساب وسائل كسب العيش أمام
مليارات البشر؟ والتي بها وحدها يتم خلاص مئات الملايين من الجياع من الفقر
والجوع؟
أليس الأجدى لسعادة البشر أن تحوِّل المؤسسات الدينية الملايين
من رجال الدين، إلى معلمين في المدارس الفنية، والمعاهد العلمية، لتأهيل مئات
الملايين من الجياع إلى عاملين ينتجون قوت يومهم، ويدرأون غائلة الجوع عن أنفسهم
وعن أطفالهم، وعن مجتمعهم الذي هو بحاجة إلى كدح زنودهم، أكثر من عباداتهم التي
يمارسونها ظناً منهم أنها وسيلة (رشوة) تستدر عطف الله ورحمته؟
وإذا كان يؤخذ علينا أننا نبشر بكل ما هو مادي، فإننا ندعو إلى
نشر الوعي الأخلاقي بين بني البشر؛ على أن يكون في صلبها طرائق العلاقات
الاجتماعية بين إنسان وآخر، وطرائق تحويل الإنسان من محبة منفعته الذاتية، إلى
اعتبار التعاون بين أفراد المجتمع هو الذي يوفِّر المنفعة الذاتية له، ولكل أفراد
المجتمع.
أن يشتغل رجل الدين بخلاص أنفس البشر بعد الموت لهي مهمة شاقة
وليست يقينية، خاصة أن ما تفترضه المؤسسات الدينية مهمة إلهية انتدبهم الله لها.
عليهم أن يعملوا على خلاص البشر في الحياة الدنيا التي هي أكثر يسراً وسهولة. ألا
يدرك البشر، المؤسسات الدينية منها وعامة البشر أيضاً، أنه من الأجدر بهم أن يتولوا
وظيفة دنيوية، فيعملون على خلاص النفس في الحياة الدنيا، ويتركوا لله شأن خلاص
أنفس البشر بعد الموت؟
ولأننا، في هذه المرحلة، نشهد انفراجات أوسع أمام الذين
يستخدمون العقل في محاكمة القضايا؛ المرحلة التي قلَّت فيها فتاوى التكفير، وإن لم
تنته، فإنها فرصة ثمينة أمام العاقلين أن يعملوا، بالإضافة إلى إعمال عقلهم في
تقديم تفسيرات أقرب إلى الإدراك العقلي وموازينه اليقينية، أن ينقدوا بجرأة كل ما
هو سطحي أو مبالغ فيه في المؤسسات الدينية.
إعمال العقل يعني استخدام ملكة من أهم الملكات التي حباها خالق
الكون للإنسان. العقل الذي يستطيع أن يوفر للإنسان مقدرتين: مقدرة تحسين ظروف
الحياة المادية، ومقدرة تحسين ظروف الحياة الروحية. وتأتي في مقدمة تلك المهمات
الروحية مساعدة البشرية على الارتقاء بالظاهرة الدينية من قعر التبسيط والسطحية،
إلى سمو العمق الروحي.
إن الخوف من عقاب الله ليس إيماناً، كمثل الخوف من الحاكم
الظالم، أو الخوف من ظاهرة قاهرة لإرادة الإنسان، لأن الله ليس كالبشر يخيف وينتقم
ويتشفى بالخطأة، بل هو خالق للكون يجب أن يغرس في النفس طمأنينة وسكينة. فعبادة
الله ليست كعبادة الأصنام أو الحكام اتقاء لغضبهم وزلفى يستدرجون بها عطفهم
وعطاءهم وعفوهم. والله ليس سيداً على عبيد، بل هو خالق للبشر، له القدرة أن يكون
أباً لهم، وأماً لهم، ومرشداً لهم. فهو خلق غريزة الأبوة والأمومة الممتلئة حباً
وعطفاً على أبنائهم تأنف من اعتبار أولئك الأبناء عبيداً، فكيف يسمح الله أن يكون
خلقه عبيداً له؟
لم يصدر عن أب طلباً من ابنه أن يكون عبداً له، ولم يصدر عن أم
طلباً أن يكون أبناؤها عبيداً لها. يقدمون المعونة لهم ويرفضون أن يقابلهم أبناؤهم
بتقديم العبادة لهم. ويرفضون الانتقام منهم ثمناً لخطأ ارتكبوه. وإنما الثمن
المقابل لما يبذله الوالدان أن يقدموا الاحترام لهم، ويسلكوا مع أبنائهم كما سلك
آباؤهم تجاههم.
وإذا كان الله قد خلق غريزة المحبة للأبناء، وخلق فيهم خصال
الامتناع عن قبض ثمن مقابل، فهل البشر أكثر عطفاً ووعياً من الله؟
إن الزلفى ليست طريقاً لكسب مرضاة الله، وتطبيق القيم العليا
ليس لكسب تلك المرضاة؛ بل في تطبيق ما غرسه الله من مبادئ وعوامل ووسائل للمحافظة
على حياة جسدية سليمة، وللمحافظة على حياة روحية نفسية اجتماعية سليمة، لا يضر
الله ولا ينفعه بشيء، بل المستفيد الأوحد أو المتضرر الأوحد هو الإنسان فقط. فثواب
الإنسان في تطبيقها، وعقابه في الامتناع عن التطبيق.
إن ما يحسبونه طقوساً للعبادات مرضاة لله، ظناً أنه ما خلقهم
إلاَّ ليعبدون، لهو انتقاص من سمو الخالق. وإن ما يحسبون أنها أوامر إلهية، نحسبها
نحن أنها استمرار لتقليد سارت عليه البشرية منذ راح الإنسان يبحث عن أجوبة لغموض
يلفُّ مصير الإنسان بعد الموت، وعن أجوبة لكيفية درء مخاوف الإنسان من ظواهر
طبيعية وبشرية يعجز عن مواجهتها. أليس تقديم الأضاحي للأوثان كان كسباً لمرضاتها.
وأليست بعض وسائل الرقص والغناء كانت تعبداً لتلك الظواهر، وتحوَّلت إلى مظاهر
للتزلف أمام الأقوياء في المجتمع، كالملوك والفراعنة؟ وأليس الركوع عادة من عادات
الخضوع للملك والفرعون؟
إن الله ليس حاكماً يحيط نفسه بجيوش جرارة لكي تحمي عرشه، وتنصره،
كما يتصوره الإنسان البدائي، وكما نقلت صورته الأديان السماوية؛ بل هو إله ليس
بحاجة إلى من ينصره، لما في هذا الزعم من تشكيك في قدرة الله، وما لم تعيد
المؤسسات الدينية النظر في هذه الهفوة الكبيرة، ستبقى فكرة العبودية لله تشوه
المعنى الحقيقي لفكرة الألوهية، وستبقى طرائق العبادات، على شتى أنواعها من صلوات
وأدعية، عوامل تشويه للثقافة الدينية، ولن يتحرر الإنسان من موقع الخضوع البدائي
ويرتفع بها إلى سمو الإيمان بإله قادر عطوف ورؤوف بمن خلقهم من البشر. ومن أهم
أخطائها أنها تجعل الإنسان أسيراً لفكرة العبودية التي تنعكس على علاقته مع الحاكم
الزمني، وتنظر إليه وكأنه إله على الأرض يمثل الإله في السماء. وفي هذا ما فيه من
تشويه للمعنى السامي لخلق الإنسان الذي عليه أن يفعل كل ما يتنافى مع القيم
السامية التي غرسها الله فيه غريزة، وترك له الحرية في تطبيق كل ما يؤدي إلى ترجمة
تلك القيم إلى أفعال تحول الإنسان من مستوى البساطة إلى مستوى الرفعة والسمو في
فهمه لفكرة الألوهية.
ما زالت ذاكرتنا تختزن طقوس الاحتفالات التي كانت تجري في ظواهر
الخسوف والكسوف، حيث تطوف المسيرات في الدساكر والقرى، وفيها يهتف الجميع (إترك
قمرنا يا حوت،،،) ظناً من تلك الجماعات أن الحوت يبتلع القمر. وألا نتذكر صلاة
الاستسقاء عندما يُحجب المطر فترة من الزمن؟ وألا.....
ولأن الإيمان بوجود العلة الأولى،
ولأن الإيمان بأن الله خلق الكون الذي نعرفه، من أجل الإنسان
وسعادته الجسدية والروحية.
ولأن الله لا يبغي ربحاً من وراء خلقه هذا، إذ لا يضره شيئاً
مما يختاره الإنسان من عمل أو سلوك، أو لا يجني منفعة ذاتية من هذا الخلق.
نعتبر معيار
الخير أو الشر، كل ما يعود بالنفع أو الضر على الإنسان وحده.
وكما يشعر
الإنسان بسعادة عندما يحصل على أسباب تلبية حاجاته المادية، يشعر كذلك بسعادة
روحية عندما يستطيع توفير ما يضمن راحة النفس وسعادتها أيضاً.
ولأن الله خلق
في الإنسان العوامل التي تؤدي لسعادته الروحية والجسدية، فكل فعل من الإنسان يؤدي
إلى الغرض من خلقه، هو عبادة لله. لأن فيه ما يُرضي الله بتحقيق الغاية من خلقه
لهذا الكون الواسع، الذي يعتبر الفضاء الأرضي جزءاً يسيراً جداً منه.
ما نفع تأدية
فروض العبادة لله من قبل من لا يحسن توفير العوامل المادية التي توفر له السعادة
الجسدية. وما نفعها لمن لا يحسن التفكير بما يوفر له حياته العقلية والروحية
والنفسية السوية والسليمة؟
وإذا كانت
العبادات مما يخفف الضغوط النفسية على البشر، لكنها ليست الوسيلة التي توفر
للإنسان حياة سعيدة. وأما المراهنة على أنها تدر الرزق فهي نوع من الاتكالية التي
تزرعها التربية الدينية السطحية في نفوس أتباعها من شتى الأديان. لأن الله لن يرزق
من يشاء بدون حساب. وإن التخصيص الإلهي لمن يشاء نوع من الإيثار التي يمارسها
البشر، ولكن الله لن يمارسها لأنه اعتبر العدالة والمساواة من أهم مبادئه الإلهية،
وهو حريص من دون أي جدال أو تفسير أو تأويل أو فتوى، أن لا يقع في محظورراتها.
لقد بدأت
العبادات عند الإنسان البدائي، ومنها التمائم والصلاة، تبغي منفعة مادية، استدراراً
للرزق، وشفاء من مرض، أو درءاً لخطر، أو غيرها... ولم تتغير أهداف الإنسان في
الأديان السماوية من إقامة الصلوات وممارسة العبادات، فهي ظلَّت هي ذاتها التي كان
الإنسان البدائي ينشدها. وبذلك ارتبطت عبادة الله الواحد بالمنفعة الذاتية. وما
الأدعية التي تطلب الرزق والصحة والسلامة والرحمة سوى أهم مظاهر النفعية. وأصبح
الله في نظر هؤلاء مصدراً لتلك المنافع سواءٌ أكانت الدنيوية منها، أم كانت
الأخروية. وتحوَّل الله بسمو وجوده، إلى حاكم بشري، يرزق من يشاء، ويهدي من يشاء،
ويرضى عمن يشاء، ويغضب ممن يشاء؛ يخلق في الإنسان قدره وأفعاله، ويحاسبه على ما لم
يفعله بإرادته. ولم تعمل الأديان السماوية إلى الارتقاء بفكرة الله إلى مستوى
التجريد عن النفعية.
وإذا كان الله
يحب العبودية، كما يؤول عتاة المتدينين، فعلى من لا يوافقنا الرأي، أن يذكر لنا
اسم راهب، أو متعبد، ممن يقضون الليل والنهار في التعبد لله، إذا ما كان أي واحد
منهم عبر التاريخ قد رزقه الله قرشاً واحداً يشتري به ما يوازي ثمناً لفطور أو
غداء أو عشاء، باستثناء ما يتصدق عليه إنسان يجني رزقه بيديه ببضع لقيمات تسد
جوعه. وأما الذين يجدون ما يقتاتون به، باستثناء الصغار بالعمر من بني البشر، فهم
الذين يأكلون بعرق جبينهم. ولا يتمتع بصحة جيدة سوى من يسعى لمكافحة الأمراض عند
طبيب أو في مستشفى أو ما اعتاد عليه من نظام غذائي تتوفر فيه مقومات تغذية خلاياه
الجسدية.
وإذا كان الله
يحب المقلدين لغيرهم في شؤون الآخرة، لكان قد خلق فيهم نقص في تركيب أدمغتهم، ولما
كان تركيب دماغ الإنسان متساوياً ومتطابقاً عند البشر أجمعين. لا بل خلقهم متساوين
في التركيب الفيزيولوجي من دون تمييز بعضهم بخصيصة قيد أنملة.
وإذا كان
الله،،،،
لقاء كل ذلك،
وإلى من يزعمون أنهم يمثلون الله، ويعظون باسمه، أن يعملوا على مساعدة البشر في اكتساب
وسائل كسب العيش؛ وحضِّهم على الابتعاد عن الاتكالية والتواكلية والتسليم، لأن
الله خلق في البشر ملكة العناية بجسده وروحه، وذلك بعد أن خلق الظروف المؤاتية
للحياة وراحة الأنفس. وكل من يعتبر نفسه وكيلاً عن الله، ومخلِّصاً لأنفس الآخرين،
عليه أن يحضهم على تأهيلهم من قبل المجتمع، وعلى تأهيل أنفسهم لكسب وسائل خلاص
الجسد في هذه الدنيا، وكسب وسائل خلاص نفسه في الآخرة من دون واسطة.
فعبادة الله،
كما نعتقد، تبدأ من تنمية الملكات الجسدية والروحية الفردية منها والجماعية. وإنهم
بذلك إنما يرتقون بالبشر من مستوى العبودية التي لن تنفع الإنسان ولن تضره، كما
أنها لن تنفع الله ولن تضره أيضاً. هنا، لن يفوتنا على أن المرشد الروحي الذي
يتحكم بوسائل خلاص النفس البشرية بعد الموت، عليه أولاً أن يتحكم بوسائل الوصول
إلى السعادة الدنيوية. فمن لم يستطع أن يوفر كوخاً لإنسان، أو وسيلة للحصول على
لقمة خبز، فكيف يستطيع أن يوفر له قصوراً في الجنة، وأنهاراً من الخمر، وأكداساً
من الثمرات؟!
وبذلك، وليس
بغيره، يكون المرشدون الروحيون، رجال دين على شتى أشكالهم وألوانهم، واعتقاداتهم
ومعتقداتهم، قد بدأوا الخطوة الأولى على طريق الارتقاء من سطحية الظاهرة الدينية
إلى أهدافها العميقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق