ماذا لو كانت إيران وتركيا جاراً حسناً للعرب؟
استدراكاً لسؤ
فهم قد نواجهه من قارئ يرى القضايا من زاوية واحدة، نوضح أن تركيزنا على النظام
الإيراني، في هذا المقال، لا يعني أن نظام الإخوان في تركيا هو البديل.
الجوار الحسن
يصب في مصلحة المتجاورين من دون شك. وأما الجار السيئ فيشكل عبئاً على نفسه قبل أن
يشكل عبئاً على جاره. وهذا ما ينطبق على علاقة إيران بجيرانها العرب.
لقد مرَّت
العلاقات العربية – الإيرانية، منذ أواسط القرن العشرين، بعهدين
اثنين:
-عهد الشاه الذي حكم إيران بنظام علماني، ولكنه كان
متواطئاً مع الاستعمار والصهيونية، وشكَّل أحد الأعمدة الرئيسية للوجود
الاستعماري.
-عهد ولاية الفقيه الذي يحكم إيران اليوم بنظام
ثيوقراطي، ولكن بشكل أكثر تخلفاً من الأنظمة الثيوقراطية، لأنه قائم على عقيدة
مذهبية غيبية لم يُجمع عليها حتى فقهاء المذهب الواحد.
وفي العهدين
معاً لم يكن النظام الإيراني على علاقة جوار حسن مع العرب، فالأول كان يريد
استعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية عن طريق نظام علماني يحاكي لغة العصر. أما
الثاني، فيعمل على استعادة تلك الإمبراطورية عن طريق نظام ديني مذهبي غيبي لا
علاقة له بمتغيرات العصر. وهما وإن افترقا بالوسيلة، فقد اتفقا على الهدف. هذا مع
العلم أن أي نظام يحمل النزعة الإمبراطورية، علمانياً كان أم ثيوقراطياً، فهو يقوم
على نزعة التوسع على حساب الشعوب بالقوة، من أجل الاستيلاء على ثرواتها وأراضيها،
واستعباد شعوبها.
يجمع النظامين
علاقتهما مع الاستعمار، وإن اختلفا بالوسيلة فقد جمعتهما العلاقة معه. الأول وقَّع
حلفاً صريحاً مع أميركا، ولعلَّ حلف بغداد الذي تأسس في الخمسينيات من القرن
العشرين هو الأبرز في تاريخ تحالفهما، وبهذا كانت علاقته صريحة واضحة. وأما
الثاني، فقد شكَّل حاجة لازمة للاستعمار والصهيونية عندما وضعا اللمسات الأخيرة
على مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يقضي بتفتيت الأقطار العربية إلى دويلات
طائفية. ولأن المشروع الأميركي – الصهيوني يستجيب لمصلحة
نظام ولاية الفقيه، فقد حضَّر النظام الإيراني نفسه لعلاقة مع أصحاب المشروع، ولكن
تحت جنح ظلام مبدأ التقية، حيث رُفع شعاران شهيران، وهما (اميركا الشيطان الأكبر)،
و(إسرائيل غدة سرطانية). وهذا ما يفسره التواطؤ الأميركي بإسقاط نظام الشاه،
وتسليم العراق لإيران في العام 2011.
وعن ذلك، وكما
أن المشروع لحظ دوراً لتركيا السنية، فقد لحظ دوراً لإيران الشيعية. وتاريخية
تنفيذ مشروع الشرق الأوسط، منذ العام 2011، شاهد واضح على ذلك.
لقد أثبتت كل
الوقائع التاريخية أن الصراع العربي – الفارسي، منذ أكثر من
ألفي عام مضت. وتعود بدايته إلى مرحلة بناء الإمبراطوريات الكبرى في التاريخ، وفي
بداياتها استولى النظام الفارسي على أكثر المناطق العربية، وجعلوا أرض العراق عاصمة
لإمبراطوريتهم. وظلوا كذلك إلى أن استعاد العرب تلك الأرض منذ ألف وأربعماية سنة
في معركة القادسية الأولى. ومنذ ذلك التاريخ حقد الفرس على العرب، ولم يغب هدف
استعادة النفوذ الفارسي عن الاستراتيجية الإيرانية ودامت إلى المرحلة المعاصرة، وذلك
على الرغم من أن المتغيرات الدولية في العصر الحديث قد ألغت مفاهيم التوسع
الإمبراطوري. وفي مقابل الإلغاء أحلَّت مبادئ حق الشعوب في تقرير مصيرها؛ التي على
الرغم من غياب تطبيقها وصعوبته وضعت تشريعات وقوانين دولية تحمي تلك المبادئ.
تجمَّدت مفاهيم
النظام الإيراني الحالي، أي نظام ولاية الفقيه، عند حدود وقائع ما قبل الألفي سنة،
واعتبرت أن التاريخ بلغ نهايته عند مفاهيم الإمبراطورية الفارسية من جهة،
واستغَّلت مفاهيم الإسلام في بناء دولة دينية تعود أصولها إلى ما قبل الألف
وأربعماية سنة من جهة أخرى. وبهذا فقد هذا النظام رؤيته للمتغيرات العالمية
باستخدام سلاح الدين في الوقت الذي فقدت الأيديولوجيا الدينية السياسية شرعيتها
العالمية، وكذلك في الوقت الذي فقدت فيه النزعة الإمبراطورية في التوسع بالقوة
شرعيتها الدولية أيضاً. وبمثل هذا الإصرار أصبح النظام الإيراني يسبح ضد التيار
الدولي. ولكنه بإصراره وعناده فهو، مع شبيهه مشروع الإخوان المسلمين، يقلِّد أحلام
الولايات المتحدة الأميركية بالتمدد الإمبراطوري. ولكن أثبتت وقائع التاريخ
المعاصر أن أميركا فشلت فشلاً ذريعاً في بناء إمبراطوريتها؛ وهذا هو مصير الحركتين
الإسلاميتين الأكثر تطرفاً في التاريخ. وهو يقلِّد أيضاً الصهيونية العالمية في
بناء دولة دينية يهودية على أرض فلسطين بوسائل الاغتصاب. وبينما يبقى الكيان
الصهيوني غارقاً في أوهامه التلمودية، تراه معزولاً عن روح العصر وهو يهدد السلم
العالمي بأضغاث أحلام مصيرها الفشل. ولم يبق من يقدم له أسباب الدعم سوى أميركا
التي ترى فيه مصلحة لاستمرار استيلائها على المنطقة العربية ومحيطها الجغرافي.
وأما على الصعيد العربي، فقد ظلَّت أحلامه محاصرة في أبراج بعض الأنظمة العربية
الرسمية، ولكنه ظلِّ معزولاً شعبياً، ولم يجد له بيئة شعبية حاضنة.
كانت أحلام
حركة الولي الفقيه، وأحلام حركة الإخوان المسلمين، مطية لأهداف الاستعمار، فقد
مهَّدا الطريق أمامه لغزو الوطن العربي، بحيث شكلا جسراً لعبوره ظناً ساذجاً منهما
أنهما سيحققان أحلامهما الغيبية عبر تحالفهما مع الاستعمار. ولم يدركا أن
الاستعمار، بما يملك من أسباب المال والقوة العسكرية، لن يسمح لأي منهما أن يقطفا
من تعاونهما معه أكثر مما يريد هو أن يتنازل لهما عنه. أما إذا حلما بأكثر من ذلك،
فواقع الحال الآن في الصراع الدائر بين أميركا والنظام الإيراني لهو أكبر دليل على
ذلك، إذ أن ما يحصل هو حرب تقودها أميركا لإعادة النظام الإيراني إلى حظيرة
التطبيع.
وهنا يرتفع
السؤال الذي يفرض نفسه على الجميع، وعلى النظام الإيراني أن يدركه إذا عاد إلى
رشده، هل ما حصل عليه من مكاسب من تحالفه مع الاستعمار، يمكن أن يكون أكثر مما
يحصل عليه فيما لو أثبت جيرته الحسنة للعرب؟
حاول النظام
الإيراني، منذ العام 1980 وقبل أن يُرسِّخ أقدامه على كراسي الحكم، أن يبدأ بتصدير
ما يزعم أنها ثورة إسلامية ابتداء من العراق، ففرض حرب السنوات الثماني التي
استنزفت إمكانيات البلدين الجارين. ذلك الاستنزاف الذي لو تم توظيفه في حقول
التنمية للبلدين، لأصبحا من الدول المتقدمة.
ولكن بدلاً عن
سلوك طرق حسن الجوار، ركب النظام الإيراني موجة العداء الأميركي ضد العراق، فتحالف
معه، ويسِّر له كل التسهيلات التي لولاها لما استطاعت أميركا أن تحتله. ولو قيل
أنه استفاد كثيراً من إسقاط النظام الوطني، سياسياً ومالياً، فالرد على ذلك بالقول
أن تلك الاستفادة كانت موسومة بالعار الذي يكلل جبين جار غدر بجاره، وعمل على سرقة
ثرواته بشكل كبير. وفي الحرب الأميركية ضد العراق، وتواطوء الجار الإيراني، دفع
العراق الكثير الكثير إلى الحد الذي تحول العراق فيه إلى مصاف الدول الأكثر فقراً
وفساداً. فكان فيه النظام الإيراني الأكثر خساسة من بين الأنظمة التي تزعم أنها
إسلامية، حيث استولى على ثروات شعب مسلم من دون وجه حق.
وأما الآن، فتسير
الأمور على غير ما اشتهى النظام الإيراني. ففي الوقت الذي راهن فيه على تحقيق حلمه
بتحالفه مع أميركا، فقد قلبت له الإدارة الأميركية ظهر المجن، وبدأ في دفع
الفواتير واحدة تلو الأخرى. ولن تكون خسائره بأقل مما سلبه من العراق. وفي المقابل
لم يستفد الشعب الإيراني شيئاً مما سلبه نظامه من ثروات العراق لأن النظام بدَّدها
في مغامراته في أكثر من دولة عربية، في الوقت الذي يعاني فيه شعبه من العوز
والفاقة والكثير من المشاكل الاجتماعية والمعيشية. وأما المستفيد الأكبر فكانت
طبقة الملالي ومن يحيط بها من النخب السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية.
وهنا، نستعيد
التساؤل الذي بدأنا به مقالنا: ماذا لو كانت إيران جاراً صديقاً للعرب؟
لأي شعب من
شعوب العالم حرية اختيار نظامه السياسي، ومن هؤلاء الشعب الإيراني. وإنه ليس من حق
شعب آخر يأتي من الخارج أن يفرض منهجه في الحكم على شعب آخر، حتى ولو كان بزعم
أوامر إلهية. لأن إشكالية الأوامر الإلهية التي تزعم طائفة أنها سُلِّمت مفاتيحها
من دون الطوائف الأخرى، فإن المزاعم تلك ليست أكثر من أكاذيب تنطلي على عقول من
أصابتهم لوثة الجهل والعنجهية والنرجسية.
وكما أشرنا إلى
هذه الحقيقة في مقدمة المقال، فإننا ننهي بها مقالنا لنؤكد بأن مزاعم
الأيديولوجيات الطائفية السياسية بأنها مزاعم لا أساس أخلاقي لها أو قانوني خاصة
في عصرنا هذا الذي أطلق حرية حق الشعوب بتقرير مصائرها. وغير ذلك، فإن المتغيرات
الحقوقية المعاصرة لا يمكن أن تتراجع إلى الوراء بل هي في حالة تصاعد مستمر حتى
ولو سارت ببطء، ولكنها ستصل إلى اليوم الذي ستنقرض فيه مع انقراض الأنظمة التي
تزعم أنها نالت توكيلاً إلهياً بتطبيق الشرائع الإلهية على الأرض. وإن التغيير
قادم لا محالة، وعلى النظام الإيراني المستفيد من نظام ولاية الفقيه، كما على
النظام التركي المستفيد من الدعوة الإخوانية، أن يتراجعا عن دعوات ليس لها حظ من
النجاح في رسم مستقبل شعوب المنطقة، خاصة أن الدعوة الإخوانية فشلت فشلاً ذريعاً
في كل من تونس ومصر، وهي تحتضر في ليبيا والسودان، وعجزت عن الحصول على موطئ قدم
في الجزائر، ولم تستطع أن تحقق أحلامها في سورية، وأصبحت عارية من حاضنتها الشعبية
في كل الساحات التي نشطت فيها خلال عشرات السنين. وفي المقابل ينتظر ولاية الفقيه
الفشل الذريع، ليس في مواجهة (الشيطان الأكبر) كما يزعمون، بل في حالة العداء
الواسعة التي ولَّدتها في العواصم العربية الأربع فحسب، بل في كل أنحاء الوطن
العربي أيضاً، وأصبحت أسيرة ومحاصرة بين عملاء النظام الإيراني أنفسهم، وأصبحت
عاجزة عن التمدد في أوساط ما عداهم، وفي مخيلة النظام نفسه.
إن فشل
الدعوتين معاً من تحقيق أحلامهما الوردية، والموبوءة بالنرجسية، وأحلامها
السرابية، يجب أن تدفعهما معاً إلى العودة لأصول سياسة حسن الجوار مع العرب، وإلى
الاعتراف بحق الشعوب في تقرير مصيرها. وما عليهما إلا الاعتماد على بناء نظام
إقليمي مجاور للعرب تحكمه علاقات التعاون في مواجهة أية موجة من موجات النزعات
الإمبراطوية القادمة من خارج المنطقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق