القادسية الثالثة بوسائل سلمية
وبعد
أن وعى أخيراً جزء من الشعب العراقي أن ذلك المبدأ كان غطاء إيرانياً ظاهرياً من
أجل التعتيم على أهدافه الحقيقية في بناء إمبراطورية فارسية يحكمها ديكتاتور بلباس
ديني.
أخذ
المشهد على الساحة العراقية يتغيَّر وينقلب من النقيض إلى النقيض.
فبعد
أن شعر العراقي بالذل وهو يغسل أقدام الزوار الإيرانيين ويتبارك بها، كان الشعار الثوري
الأول الذي رفعه الشعب العراقي في ثورة تشرين الأول: (إيران برا برا، والعراق تبقى
حرة)، فكان شعاراً قومياً ووطنياً بامتياز. ومن بعدها كرَّت سبحة الشعارات
السياسية الأخرى، التي تواصلت بعدها الشعارات المطلبية، وما أكثرها.
إن
تراتبية الشعارات وأولوياتها، والتي كان الشعار السياسي مقدمة لها، ينفي ما أخذ يروِج
له الإعلام الإيراني، وكذلك الإعلام العراقي المتواطئ مع إيران وذيولها من أقطاب
(العملية السياسية). وفيه وصف الإعلام المذكور بأن الثوار هم شلل شكت من الجوع،
وراحت تطالب برغيف الخيز، وسيخرجون من الشوارع لقاء بعض إصلاحات تحسِّن حياتهم
المعيشية. واتهم قياداتهم بأنهم انتفضوا بتعليمات من الخارج وأوامر منه. وإنهم
يستهدفون الاستقرار في العراق، وزرع الفتنة لتمزيق وحدة الشعبين الإيراني
والعراقي.
بمزاعمهم،
وأكاذيبهم تلك، ما دروا يوماً أن الشعب العراقي يرفض لقمة الخبز المغمَّسة بالذل،
لذلك رفع في الساحات ومن على الجسور شعار (هيهات منا الذُلَّة). ومفهوم الذُلَّة
في قاموس الثوار مفهوم وطني وقومي، وليس مفهوماً مذهبياً كما غرسه نظام الملالي
الطائفي الديكتاتوري، في عقول البسطاء من العراقيين. ذلك أن النظام المذكور بذل كل
أحابيله وخدعه من أجل غسل أدمغة شريحة من العراقيين من كل ما يمت إلى الوطنية
والقومية بصلة، وعمل على حشوها بكل ما هو طائفي مملوء بالتعصب والجهل.
وعندما
استراح نظام ولاية الفقيه، بعد ستة عشر عاماً من عمليات الغسل والحقن، واعتقد أن
الشعب العراقي صار مدجَّناً وخاضعاً لإملاءاته، استفاق على أن مبيداته التي
استخدمها في عمليات غسل الأدمغة، أصبحت فاسدة، إذ كشفت نيران الثورة عن فسادها.
وأخيراً، وبدخول الشباب في الثورة، مزَّقوا كل أسس معرفة التواكل والتقليد
والاستسلام، وكشفوا عن فساد مبدأ (نصرة المذهب)، ورفضوا الطائفية، وأعلنوا مبدأ
(نصرة الوطن). كما أنهم كشفوا عن فساد فتاوي المعممين الذين أرهبوا الناس بدخول
نار جهنم إذا لم يلتزموا بـ(تكليفاتهم الشرعية). ولذلك ثاروا وحطَّموا القيود
الخبيثة، ولاحقوا العمائم التي كانت تروِّج لها، وتغلِّفها بالنصوص الدينية،
وبالأخص منها النصوص المذهبية.
ومن
أجل نصرة الوطن، أحرق الثوار مراكز القنصليات الإيرانية لأنها أوكار لمخابرات
وجواسيس نظام الملالي. ومن أجل الكشف عن ضلالة (نصرة المذهب)، وأمام قبضات الثوار أخذت
العمائم تتدحرج في الساحات والجسور وحتى في الأزقَّة الضيقة. وهذا ما يُفسِّر غياب
تلك العمائم بشكل شبه كامل عن أرض الثورة سوى قلَّة من العمائم التي لم تتلوَّث
فتاوها بتمجيد وتقديس أصنام الملتحقين ببلاط كسرى الجديد الذي ظهر بلباس مزركش
بخيوط واهية من النصوص الدينية.
كانت
أولوية شعار الأمر بطرد كسرى الجديد، ووضع الشعارات المطلبية في المقام الثاني،
بداية للثورة، وشكَّلا مبدأً غطى على كل ما عداه. وهذا ما يذكِّرنا بالمبادئ التي
كانت الهادية المرشدة للقادسية الأولى والثانية، وهي اقتلاع الوجود الفارسي من
الأرض العربية في القادسية الأولى، وصدِّ مبدأ (تصدير الثورة) الفارسي في القادسية
الثانية ومنعه من اجتياز حدود العراق الجغرافية وحدود إيمانه بالوطنية. وهذه
القادسية الثالثة تسلك الصراط التحرري الجديد برفع شعار (إيران برا برا...).
القادسيات
الثلاث توحَّدت بالهدف، ولكنها اختلفت بالوسائل. فكان الهدف من الأولى طرد الفرس
من الأرض العربية، فاستخدم العرب الأوائل السيف كوسيلة لتحقيقه. وفي الثانية كان
الهدف صد هجمة (تصدير الثورة) الفارسية عبر اختراق الحدود البرية للعراق، فكانت
الطائرة والدبابة والصاروخ هو الوسيلة التي استخدمها نظام ثورة 17-30 تموز من
العام 1968. وأما الهدف في الثالثة فهو تحرير العراق من الاحتلال الفارسي. وفي هذه
استخدم الثوار وسيلة (الثورة السلمية). فلماذا كانت السلمية سلاحاً في قادسية
العراقيين الثالثة؟ وهل يمكنها أن تحقق أهدافها؟
في
القادستين الأولى والثانية، كانت المواجهة عسكرية لأنها كانت مواجهة حدود بين
العرب والفرس، معروفة فيها مواقع العدو القادم القابع عليها في الأولى، والقادم من
ورائها في الثانية. وأما في الثالثة فهي حرب متداخلة لا حدود واضحة لها. طرفاها
عراقيان: أحدهما يعمل على التحرير والآخر عميل للاحتلال يقاتل من أجل بقائه. والأخطر
ما فيها أن الطرفين عراقيان، وإن أية مواجهة عسكرية بينهما، لها مخاطرها وخسائرها.
وإذا
عرفنا أن خبث نظام الملالي كان يعمل جاهداً من أجل اشتعال حرب أهلية فلكي يقتل
فيها العراقي أخاه.
وإذا
عرفنا أيضاً أن الحرب الأهلية لا تصل إلى نتائج حاسمة، بل تتكاثر فيها الخسائر بين
الطرفين وتتعمق الجروح، وتتكاثر الثارات خاصة في المجتمع العشائري.
علينا
أن نعرف مدى الوعي الذي تتميَّز به قيادات تنسيقيات الثورة، التي كانت شديدة
الحرص بالمحافظة على سلمية الوسائل، بكل
ما تتطلبه من جهد لمنع دخول الثورة في الفعل وردود الفعل. وكان يحدوها بذلك المحافظة
على الدم العراقي، والحرص على وحدة الثوار. لقد أدركت تنسيقيات الثورة أن الثوار
هم من الشريحة الفقيرة والمحتاجة، وإن أفراد الميلشيات التي يستخدمها نظام الملالي
هم من الشريحة الطبقية ذاتها للثوار، ولكن ما يربطهم مع الرؤوس العميلة راتب
يتلقونه منهم، ولكنه لا يُسمن ولا يغني من جوع، أو يدرأ عنهم غائلة المرض والعتمة،
وسوف تصحو ضمائرهم في لحظة من اللحظات وينضموا إلى أبناء طبقتهم آجلاً أم عاجلاً.
ففي
ضبط الأعصاب التي كانت تحض عليها تنسيقيات الثورة، كانوا يراهنون على يأس مخابرات
نظام الملالي بعد الصمود المذهل للثوار خاصة بعد أن اجتازوا حدود الخوف من الموت
من جهة، ومن جهة أخرى المراهنة على صحوة ضمير أفراد الميليشيات التي لا بدَّ من أن
تظهر عندما يجد هؤلاء أنهم يقتلون جاراً لهم أو أخاً أو قريباً لقاء حفنة من راتب
هزيل.
لكل
هذا،
نعتقد
جازمين بأن القادسية الثالثة في العراق ضد النظام الفارسي قد بدأت منذ الأول من
تشرين الأول من العام 2019، ولكن هذه المرة بوسائل سلمية أثبتت حتى الآن مصداقيتها،
واستمراريتها وتصاعد لهيبها واتساع رقعتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق