للخروج من متاهة اللاءات
المتناقضة
يبقى المشروع السياسي الاقتصادي معياراً سليماً
في هذه اللحظة،
وبعد إنجاز مرحلة تكليف رئيس للحكومة اللبنانية، وبعد أن تباينت المواقف حولها،
انقسم تحالف أحزاب السلطة إلى فريقين متنازعين بشكل جلي، بعد أن كان انقساماً
مستتراً في ظل ما زعموا أنها حكومة الوحدة الوطنية. وكان سبب هذا الانكشاف يعود
إلى التباين بين المصالح الدولية والإقليمية الذي برز بشكل ظاهر على سطح هذه
المرحلة. وترافق هذا الانكشاف مع حدة الاشتباك بين الإدارة الأميركية كطرف أول
والنظام الإيراني كطرف ثاني. وكانت الساحة اللبنانية ميداناً ظاهراً لذلك
الاشتباك. بحيث يعمل الطرفان على كسب الورقة اللبنانية، بعد الاشتباك على الورقة
العراقية، لامتلاك أوراق قوة في التحضير لأي مرحلة تفاوضية يعد لها الطرفان معاً
من أجل إعادة رسم حدود المصالح بينهما على ساحات الوطن العربي.
لقد سبق
الاشتباك بين الخصمين – الصديقين أي مظهر من
مظاهر الثورة في العراق، والانتفاضة في لبنان. وفتح حصولهما شهية إدارة ترامب،
وإدارة خامنئي، لتحويل نتائجهما لمصلحتيهما. فالفائز بينهما يمكنه لاحقاً فرض
شروطه على الآخر. ولذلك، وقفت إدارة خامنئي بشدة وقسوة لمنع حصول أي تغيير في
العراق، وحاول أصدقاؤها ومؤيدوها لإحباطها في لبنان. وعلى العكس من ذلك، عملت
إدارة ترامب، بمساعدة حلفائها وأصدقائها فيهما، على ركوب موجتي الظاهرتين من أجل
تحقيق مكاسب لها لاستخدامها ورقة ضغط في مواجهة حليفها الإيراني. وذلك من أجل
إعادة قواعد الاتفاق بينهما قبل أن يخلَّ بها النظام الإيراني، تلك القواعد التي
وقَّعها الطرفان قبل احتلال العراق في العام 2003، وبعد تسليمه للنظام الإيراني في
العام 2011.
يعرف الشارع
اللبناني المنتفض، والشارع الثائر في العراق، قبل غيرهما، أن أحزاب السلطة في
القطرين العربيين، لا تكترث بمصالح الشعب، سواءٌ أكانوا متفقين أم كانوا مختلفين.
وسواءٌ أكانت الحكومة (حكومة وحدة وطنية)، أم كانت (حكومة اللون الواحد).
من هذه
المعادلة، يمكننا الاستناد إليها لتفسير ما يحصل في لبنان بعد مرحلة تكليف الدكتور
حسان ذياب بتشكيل الحكومة اللبنانية. وما يمكننا من اقتراح بعض المبادئ والوسائل
من أجل استمرار الانتفاضة بشكل مؤثر وسليم.
كان انضمام بعض
أحزاب السلطة إلى الانتفاضة الشعبية انضماماً يُراد منها باطل، وهو ركوب موجة
الانتفاضة من أجل أجندات خارجية. وكذلك وقفت بعض أحزاب السلطة الأخرى ضدها من أجل
أجندات خارجية أخرى. ولذلك لم تكن المصلحة الشعبية تشكل هاجس كل من الصديقين
اللدودين. الأول يناصرها ويشارك فيها لتقوية مواقعه التفاوضية في اقتسام الجبنة،
والثاني يقف ضدها لأنها ستسلب منه أوراقاً سياسية كسبها في مراحل سابقة.
فقبل التكليف
استخدم الطرف المعارض للانتفاضة وسائل التخويف من فتنة طائفية، بوسائل طائفية،
ولكنه فشل في إخمادها. وأما بعد التكليف فقد أخذ الطرف المقابل يمارس وسائل طائفية
في معارضة التكليف، ولكنه فشل أيضاً في اختراق ثوابت الانتفاضة اللاطائفية. ورداً
على ذلك، تبقى المحافظة على سلمية الانتفاضة، ولا طائفيتها، ضمانة لإبقائها نظيفة
وبمنأى عن الاختراق والانحراف. ولما كانت وسائلها وشعاراتها سليمة ونظيفة فقد أثبتت
نجاعتها، وأثبتت استمراريتها، فليس لنا ما نقوله أكثر من الحثِّ على المحافظة
عليها.
وأما الأمر
الذي يمكننا التركيز عليه، فهو التالي: بعد إسقاط حكومة الأحزاب، كيف يمكن للانتفاضة
إحراز المزيد من النتائج الإيجابية؟
بداية نقول: إن
بداية الغيث قطرة. وتلك القطرة الأولى إسقاط حكومة أحزاب السلطة، وإرغامها على الاعتراف
الواضح والصريح بأحقية مطالبها. تلك المطالب شكلت محوراً أساسياً في الخطاب
السياسي لتلك الأحزاب، المؤيد ظاهراً للانتفاضة، أم الرافض لها والعامل على
إجهاضها. وعندما أنجزت بعض الأحزاب مهمة التكليف، وعلى الرغم من الأخطاء الكثيرة
التي شابتها، تعددت الوعود بتحقيق مطالب الانتفاضة. وهذا يعني أن أصوات المنتفضين
في ساحات الاعتصام، استطاعت أن تفتح آذانهم التي كانت مصابة بالصمم. ولهذا لن
يستطيع أحد منهم أن يتجاهلها بعد الآن.
لقد أغدقوا الوعود،
ورفعوا العهود، بأن أهداف الانتفاضة أصبحت أهدافاً لأحزاب السلطة. حتى ولو كان
إعلانهم كاذباً، وهو كذلك، فإنهم لن يجرأوا بعد الآن أن يتجاهلوها. وخوفهم ليس من
الذين نزلوا إلى الشوارع والساحات فحسب، بل خوفاً من أنصارهم أيضاً. لأن أولئك الأنصار
يعانون ما تعاني منه كل الجماهير التي نزلت إلى ساحات الاعتصام. لكنهم كبتوا صراخهم
وامتنعوا عن النزول إلى الشوارع حساباً منهم أنهم سيضعفون مواقع أحزابهم، فلاذوا
بالصمت. وأما في المستقبل، وفي الحالة التي سيتراجع فيها زعماؤهم عن وعودهم
وعهودهم، سيكونون أول المنتفضين، وإن من لم ينزل منهم إلى الشارع اليوم، فسوف يكون
أول النازلين غداً.
إن مشكلة
الجماهير المنتفضة هي مع القيادات في أحزاب السلطة ومن المستفيدين منها. وأما
الآخرون فإنما سبب انتمائهم إليها، فلتعصب طائفي أو مذهبي، أو قنص مساعدة هزيلة لا
تسمن ولا تغني من جوع. وإنهم واصلون بلا شك إلى مرحلة يدركون فيها أن التعصب
الطائفي لن يصرفه أحد برغيف من الخبز. وأما السكوت من أجل مساعدة فسوف تنتهي عندما
يجف المال السياسي الخارجي عن أمراء طوائفهم. وحينئذٍ سيبدأ العد العكسي في النكوص
على مرحلة السكوت، وستبدأ الأصوات بالارتفاع لمحاسبة قيادات أحزابهم.
إن هذا الجانب،
يقتضي الاستمرار بالحك على مواضع الألم التي تعاني منها جماهير أحزاب السلطة. وذلك
بالإصرار على تثبيت أهداف الانتفاضة المطلبية التي تعبر عن أهدافهم. وهذا بالطبع لن
يحصل سوى بالصمود في ساحات الاعتصام، لتبقى أهداف الانتفاضة سلاحاً مشهوراً في وجه
الفاسدين والمستأثرين بسمن السلطة وعسلها.
وإذا كان كل
فريق سلطوي يستقوي بالخارج، من أجل بقائه في السلطة لأنها تدر له اللبن والعسل
أولاً؛ وتعطي الخارج أوراقاً من القوة في مرحلة التفاوض على تقسيم الحصص في الوطن
العربي ثانياً. يعني أن مصالح الناس ستبقى غائبة عن أهدافهم.
ولذلك، فإن
التواطؤ المشترك على مصالح الجماهير اللبنانية بدا واضحاً، علناً أو باطناً، في
المواقف من نتائج مرحلة التكليف. وفيها أخذ يشعر البعض من أحزاب السلطة أنه منتصر،
والبعض الآخر شعر أنه من الخاسرين. ولكن الجميع لم يشعروا أن الخاسر الأكبر إنما
هي الشرائح الشعبية الواسعة، ومنها تلك الشرائح التي أغوتها قياداتها الطائفية
بشعارات فارغة تحت أهداف مزاعم (حماية الطائفة).
ولذلك، وإنه في
معرض استخدام قسم من فقراء لبنان ضد الانتفاضة وأهدافها، تارة تحت شعارات طائفية،
وتارة أخرى تحت شعارات ميثاقية، يجب أن لا يُنسي المنتفضين أن فقراء أحزاب السلطة
أقران لهم في الفقر والعوز. وهذا ما يفرض عليهم تسديد سهامهم إلى قياداتهم الفاسدة
والمتخمة، وأن يعطوهم المثال في أن الحل يقبع في وحدة صفوف فقراء لبنان كلهم، في
مواجهة أمراء الطوائف والفساد كلهم. والعمل من أجل لبنان وشعب لبنان، وليس العمل
من أجل مصالح الخارج وشعوب ذلك الخارج.
وردَّاً على
اتهام الانتفاضة بالفراغ القيادي، وقبول التمويل من الخارج. وحرصاً على منع
الشرذمة بين شتى مجاميع الانتفاضة. نتوجه إليهم ببضع من الأفكار التي تُسهم في
استمرارها، ومن أهمها ما يلي:
-دعوة أحزاب
السلطة إلى الخروج من عباءة القوى الدولية والإقليمية، لأنها تريد تقسيم لبنان
حصصاً لتوظيفها في خدمة مصالحهم، غير آبهين بمصلحة الشعب اللبناني.
-أن تكون أهداف
المنتفضين واضحة، وسقفها يجمع بين المبدئية والواقعية. إذ أنه لا مبدئية مطلقة لخطة
مستحيلة التنفيذ.
-ردم الهوة
البارزة في الفراغ القيادي، وذلك بإبقاء ساحات الاعتصام مفتوحة لكل الآراء ومنفتحة
عليها، بالحوار والنقاش. ومن أجل ذلك، ولأن الكثيرين من المثقفين الأكاديميين، من
علماء في الاقتصاد والسياسة والقانون، والإعلاميين والفنانين، ومن صفوة السياسيين
الوطنيين الذين أثبتوا بمواقفهم مصداقية حملهم لآلام الناس و.. و.. وهم من الذين
اصطفوا في ساحات الاعتصام، وجعلوا منها منبراً لهم، وأعلنوا ثقتهم بأهداف
الانتفاضة، التي هي بالأساس كانت هدفاً لهم. إن هذه الوقائع والحقائق ترتِّب على
المنتفضين الاستعانة بهم من أجل صياغة مشروع سياسي واقتصادي واضح المعالم، ويلبي
مطالب اللبنانيين ويعبِّر عنها.
إن المشروع
السياسي الاقتصادي سيكون ممثل الانتفاضة الشرعي والوحيد، وهو الجامع فيما بين
مختلف مجاميعها، وهو ممثلها في التفاوض مع من يريد أن يفاوضها. فالانتفاضة ليست
بحاجة لانتخاب أشخاص تستدعيهم أية سلطة ليتفاوضوا باسمها. لأنه يكفي أن يقرأ
الرئيس المكلف ذلك المشروع، وأن يشكل دليلاً له في صياغة بيان حكومته الوزاري من
جهة، وأن يشكل حكومة أعضاؤها مطابقون لمواصفات مشروع الانتفاضة من جهة ثانية.
وأخيراً، ولكي
لا تضيع جماهير الانتفاضة في متاهات تسمية أشخاص كفوئين وصادقين لتمثيلهم في
الحكومة، وتغرق في بؤرة اللآءات المتناقضة. فليأت إلى كراسي السلطة ممن يتَّسمون بالكفاءة
والمهنية والمصداقية والحيادية، وعلى أن تكون المشاركة في الحكومة مبنية على قناعة
بالمشروع السياسي الاقتصادي أولاً، والحصانة في رفض أية وصاية عليه من أي حزب من أحزاب
السلطة ثانياً.
وأما عن دور
المنتفضين، فهو أن يجمع بين مبدئية الأهداف وواقعية الوسائل، وأن تكون ساحاتهم كالعين
الساهرة الجاهزة لتشكيل محاكم مهمتها مساءلة كل مقصِّر في واجباته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق