السبت، مارس 21، 2020

أموال المؤسسات الدينية ملك للفقراء


أموال المؤسسات الدينية ملك للفقراء



إن أموال المؤسسات الدينية هي أكثر القضايا غموضاً خاصة في أنظمة الطائفية السياسية، ووصل الغموض فيها درجة التابو المقدَّس الذي لا يجرؤ أحد أن يشير إليه من قريب أو بعيد إلاَّ وتطاله اتهامات لا تقف عند حد، خاصة منها مباشرة، أو من أتباعها. ويعيدون السبب إلى أن رجال الدين هم خط أحمر لا يجوز المساس به. وتتقبَّل محاكم الدولة في تلك الأنظمة أية شكوى، ولكنها تنأى بنفسها عن قبول أية شكوى لها علاقة بتلك المؤسسات. ولكننا سنغامر بالإضاءة عليها على الرغم من تلك المحاذير. وكان دافعنا إلى ذلك، هو وباء الكورونا الذي أرغم عشرات الآلاف من العمال على الحجر الرسمي عليهم، أو الحجر الذاتي. ومن المعلوم أن العمال هم من طبقة الفقراء الذين لا رصيد لهم يوفر لهم مصدراً للرزق، فإذا انقطعوا عن العمل، ينقطع عنهم رغيف الخبز. ولكن لم تُعلن أية مؤسسة دينية مبادرة جدِّية لإغاثة تلك الطبقة، سواءٌ أكان في العراق أم كان في لبنان. ورحنا نفتش عن السبب، لعلَّنا نجده. فكانت نتيجة التفتيش في التحليل التالي:
أصبح من الواضح أن تبادل المصالح ، قائم على قدم وساق، بين أطراف السلطات الحاكمة: أهل السياسة والاقتصاد، بتغطية من المؤسسات الدينية، التي جرت العادة منذ القدم، أن هؤلاء يستفيئون بظلالها، ويتملَّقون لها تغطية على مفاسدهم وجرائمهم. وإذا كان تقاسم السلطات من أجل توزيع المسؤوليات ووضعها في خدمة الشعب، بحيث تشكل المؤسسات الدينية الضمير المراقب لمنع انحراف السلطة عن وظائفها، فنرى في تجاربنا المعيوشة غير ذلك تماماً. ولو حصل فإنه لم يتجاوز الأفراد ممن خرجوا عن المسار العام الشاذ، وهؤلاء ممن غرَّدوا خارج سربهم واجهتهم الأكثرية الساحقة من أترابهم بالعزل والتأنيب والاجتثاث، هذا ناهيك بالخروج عن إجماع الطائفة.
وأصبح من الواضح أيضاَ أن الفقر ينهش في جلود الفقراء من كل الطوائف، ممن يدينون بالولاء لمنظومة أطراف السلطة أم ممن يرفضونه. وفي المقابل ظهرت علامات الترف ترفرف على مقرات وقصور أطراف التحالف الشاذ، بمن فيهم الذين عليهم أن يدافعوا عن قوت الفقراء. وكأن القِدر لا تركب إلاَّ على ثلاثة قوائم، إذا فقدت قائمة منها، تنهار القِدر وتتهاوى.
في هذا المشهد الذي يعمُّ العراق ولبنان في هذه المرحلة، نرى من الغريب، والأكثر غرابة، أن يتحالف الشيطان مع الملاك. أن يتحالف الضمير الساهر الذي عليه أن يقف إلى جانب الفقراء مع ضمائر الشياطيين التي ملأت الأرض جوراً وفساداً، ولم تترك للفقراء ما يشبع جوعهم، وما يدفئ أجسادهم. وإذا كان الشيطان قابعاً في جيوب أهل السياسة والاقتصاد لأن نهمهم لا يرتوي طالما ظلَّ قرش يسرح في الأرض ويمرح؛ فما بال من أمرتهم أديانهم بمكافحة من يكتنزون الذهب والفضة. أتناسوا أن التاريخ سجل هارون وقارون وفرعون رموزاً للجشع والنهم؟ ولذلك نستغرب أن يقف ورثة الأنبياء والرسل إلى جانب هارون وقارون وفرعون عصرهم.
إن ورثة الأنبياء هم الملائكة الذين يجب أن يكون مأواهم في بيوت المؤسسات الدينية كون تلك المؤسسات انتدبت نفسها لتمثيل إرادة الله على الأرض. وهم يعرفون أن إرادة الله تقضي بتوزيع الثروات، التي خلقها الله، بالعدل والمساواة بين كل من له فم يأكل، ومعدة يجب أن ترتوي.
والغرابة في دخول تلك المؤسسات إلى تحالف مع أهل السياسة والاقتصاد، خلافاً لإرادة الله، إذ كيف يتحالف من يخالف إرادة الله مع من جاء ليبشِّر بتنفيذ إرادته؟
وإذا كنا قد قمنا بتكرار أسباب عقد هذا التحالف في نظام يقوم على المحاصصة الطائفية، وهي أسباب تدين أكثر مما تُبرِّئ، لن تكون صرختنا افتئاتاً على أحد وتثريباً له، ولأن لنا حق في ثروات المؤسسات الدينية، التي تمَّ تسجيلها باسم طوائفنا، من حقنا أن نسأل: أين ضاعت أموال الله؟ وهل من حق مؤسسة أن تحتكرها لنفسها، تتصرف بها تصرف المالك بملكه؟ وهل ليس من حق أبناء الطوائف أن يعرفوا مصادرها وطرق إنفاقها؟
لكل تلك الأسئلة، وانتظاراً لتوضيح الأجوبة عنها. وبعد أن انطلقت ثورة الشباب في العراق في تشرين الأول من العام 2019، وتلتها ثورة الشباب في لبنان في الشهر نفسه، حصلت متغيرات عديدة، والتي كان من أهم معالمها إحداث ثورة معرفية عند شباب العراق ولبنان ضد المناهج المعرفية لشُيَّابها. وكان من بينها وأكثرها إثارة هو الكشف عن دور المؤسسات الدينية في لعبة أهل السياسة والاقتصاد وأدوارهم ليس في التغطية على جرائمهم، بل عن دورهم في اصطياد الأرباح وتكديس الثروات.
 وعن ذلك، وعلى الرغم أن ما يحصل لم يتجاوز الوعود الكلامية، في لبنان من أجل البدء بمحاسبة أهل السياسة تعالت الدعوات للكشف عن أموالهم المنقولة والثابتة. ومن أجل البدء بمحاسبة تجار الاقتصاد تعالت الدعوات لتطبيق ما يُسمَّى بـ(الكابيتال كونترول)، و(الهير كات). وأما عن المؤسسات الدينية التي أُحيط الكلام عن ممتلكاتها بالخطوط الحمر، وخاصة ما يتعلَّق بالأوقاف الدينية؛ فبدأت الأصوات باختراق تلك الخطوط، وهي وإن كانت خجولة حتى الآن، فهي ستتصاعد حتماً وستتهاوى كل الأسوار المقدسة التي تحميها.
وأما اختراقنا لتلك الخطوط، فلحق لنا، مهما بلغ حجمه، نطالب المسؤولين عن تلك الأوقاف والأملاك باستخدام الشفافية المطلقة بالكشف عن تلك الكنوز المسكوت عن وسائل استثمارها، ومصير أرباحها، وطرق إنفاقها.
وكما يطالب الشباب في العراق، بمساءلة كل من شارك باحتلال العراق ونهبه من تجار السياسة والاقتصاد. فقد طالبوا أيضاً بالكشف عن دور رجال الدين، ودور المؤسسات الدينية، في السرقة والنهب والتزوير. وهو الدور الذي يتساوى مع دور غيرهم من رجال السياسة والاقتصاد، والذي قد يفوقها بارتفاعات أكثر. هذا ويجب الإشارة إلى أن حجم فساد المؤسسات الدينية في العراق يفوق حجمها في لبنان آلاف الأضعاف، سواءٌ أكان لحجم ثرواته الطبيعية، أم كان لحجم عائدات ما يُسمى بـ(السياحة الدينية). تلك السياحة تدر مبالغ هائلة من النذور والهبات والخمس، التي يفوق حجمها عشرات المليارات.
لقد كان من أهم متغيرات الثورة المعرفية في العراق وفي لبنان أنها تجاوزت الخطوط الحمراء التي أُحيطت بها المؤسسات الدينية، والتي أصبح من غير الجائز القفز فوقها، بل أصبح من الواجب ضرورة محاسبتها ومراقبتها ومحاكمتها.
وإلى أن تتَّسع دائرة اختراق الخطوط الحمر، وهي ستتوسع من دون أدنى شك، يمكننا التأشير على عناوينها الرئيسية أو بعض عناوينها إلى أن تكتمل دائرة الضوء عليها كلها:
1-لمصلحة من تحتكر تلك المؤسسات الأملاك العقارية من أراض وأبنية، خاصة أن بعضها قديم العهد جداً، وقد درَّ استثمارها على المؤسسات الدينية أرباحاً طائلة. والبعض الآخر يتجدد باستثمارات لا شك بأنها لم تتوقف منذ عشرات السنين؟
2-لمصلحة من يتم تكديس الذهب والفضة والثروات المنقولة، سواءٌ أكانت في صناديق المؤسسات الدينية، أم كانت في المصارف، أو ما تمَّ تهريبه إلى الخارج لاستثماره في التجارة والمقاولات، وغيرها، وغيرها الكثير؟
3-لمصلحة من تُجمع أموال النذور والحسنات والصدقات والتبرعات من المحسنين، والهبات من الداخل والخارج؟
4-لمصلحة من تُجبى عائدات الزكاة والخمس والرسوم المفروضة على الأحياء منهم والأموات؟
5-أين تذهب عائدات الرواتب والمساعدات الاجتماعية المصروفة من مالية الدولة؟
6-لماذا يتم إعفاء المؤسسات الدينية من الضرائب تحت ذريعة أنها ليست مؤسسات ربحية، بل ويزعمون أنها (جمعيات وهيئات خيرية). ولكن صفتها الخيرية لا يجيز لها أن تبقى بعيدة عن قوانين المحاسبة في الدولة. ولأنها خيرية يعني أنها سوف تُصرف لمصلحة الفقراء. وهذا يُرتِّب على الدولة المحافظة عليها، وإلزام المشرفين على تلك الأموال بصرفها للمصدر الذي أُوقِفَت لأجله. ولذلك يصبح من الواجب أن تخضع للمراقبة المالية، سواءٌ أكان منها ما يطول حجم العائدات، أم كان بمعرفة جهات إنفاقها.
ومن أجل كل ذلك، ولأنه على الدولة أن تفرض الرقابة على رؤوس أموال أهل السياسة والاقتصاد ممن يتولون مسؤوليات عامة، بما يُسمى بـ(الكابيتال كونترول). وكما تساوت أطراف التحالف الحاكم بالغنم، يجب أن تتساوى بالغرم أيضاً. وكما تعد الحكومة اللبنانية بالكلام حتى الآن بتطبيق قواعد ملاحقة السياسيين وتجار الاقتصاد كمثل قانون (الكابيتال كونترول)، و(الهير كات)، عليها أن تعمل على تطبيق قواعد شفافة تطال (كابيتال) المؤسسات الدينية لأنها أموال عامة. بل هي أملاك عامة تديرها مؤسسات مُرخَّصة من قبل الدولة، وعليها أن تخضع لمراقبتها. وأما وضع قوانين خاصة بالمساءلة والمراقبة فنترك تفاصيلها لأصحاب الاختصاص.
وما ينطبق على لبنان من ضرورة في إصدار التشريعات لحفظ أموال فقرائه التي تحتكرها المؤسسات الدينية، ينطبق بشكل أكثر تشديداً على العراق لضخامة الثروات التي تصب في خزائن تلك المؤسسات من دون حسيب أو رقيب.
وأخيراً، ولأن الأمل معقود بنواصي رجال الدين ممن حافظوا على ضمائرهم، ولأنهم الأدرى والأعلم بما يجري داخل المؤسسات، أن يكشفوا عن الوثائق التي تكشف خفايا ما هو مستور منها، خاصة أن علامات الاستفهام تتصاعد بالاتهام من هنا أو هناك.
ولا يسعنا أكثر من مناشدة المؤسسات التي تكدِّس الثروات الهائلة أن تعطي في مرحلة الحياة ما للفقراء للفقراء. وتترك لله رسالة خلاص أنفسهم بعد الموت، لأنه وحده يمتلك جنات عدن، ولن يعجزه توزيعها على من يستحقونها بالعدل والمساواة من دون واسطة أحدأو شفاعته. 




ليست هناك تعليقات: