لا طاعة لرجل
دين لا يُشهر سيفه بوجه الفاسدين
من يقول من رجال الدين بما لا يفعل هو من المدلِّسين على الدين.
كما هو من الذين يتاجرون به. ومن واجباته أن يدافع عن حقوق الفقراء، وأن يرفع صوته
في وجه من يسطو علىها. فالدفاع عن الفقراء وكلمة الحق في وجه الظالم مترابطان. إذ
لا يستقيم الوضع إذا حضَّ على الأولى، وتناسى الثانية. وهو شبيه بمن يقول كلمة (لا
إله) من دون أن يستكملها بكلمة (إلاَّ الله). فالفقر ليس قدراً من الله كما يفهمها
بعض رجال الدين، بل هو فعل بشري خالص، إذ أنه لا يوجد فقير من دون وجود غني فاسد
يُفقره. فحماية الفقير والتنديد بسارقه وجهان لعملة واحدة. ولأن القيم الإنسانية ذات
مصدر إلهي، تصبح (كلمة حق في وجه ظالم)، فرض عين على رجل الدين. وغير هذا، فالظالم
والذي لا يكشف سوأته، وجهان لعملة واحدة.
دعانا إلى كتابة هذا المقال، انتشار أعداد كبيرة من رجال الدين
الذين يغطُّون الفاسدين للاستفادة من عطاياهم وهداياهم، مموِّهين سكوتهم عنهم
بنصوص دينية قاموا بتأويلها على هواهم، ومن أهمها (إن الله يرزق من يشاء)، من جهة،
ودعوة الفقراء إلى الصبر على فقرهم مقابل تعويضهم بجنات من الخلد من جهة أخرى.
ونقداً لهذه الظاهرة القديمة الجديدة، وبرهاناً على تهافتها،
نبدأ بنقل وقائع لعظماء في تاريخ الأديان، والتي يردد رجال الدين أقوالهم، ولكنهم
لا يفعلون أفعالهم.
-جاء في
نقد للقديس أوغسطين لرجال الدين في القرون الوسطى: (أمركم الرب أن تقودوا
الخراف إلى المرعى، لا أن تجزُّوا صوفها). وسبب قوله المشهور هذا كان تنديداً
بالمؤسسات الكنسية التي انشغلت طوال قرون بجزَّ صوف رعاياها.
-وجاء في
خطبة للإمام علي بن أبي طالب: (لو كان الفقر رجلاً لقتلته). وقد شوَّهها
بعض من رجال الدين بحيث اعتبروا الفقر
نوعاً من القدر الذي يخفي في طياته اختباراً لإيمان البشر، أو حتى اعتباره قصاصاً
على ارتكاب مفترض للمعاصي. بينما حقيقة الأمر تعني أن «قتل الفقر» رفض
قطعي له، ودعوة للثورة في وجه الذي كان سبباً في حصوله أولاً، واستنكاراً لموقف
المتقاعسين عن الدعوة لتلك الثورة ثانياً.
-وقال
الخليفة عمر بن الخطاب: (والذي بعث محمداً
بالحق، لو أن دابة هلكت بأقصى أرض المسلمين لأُخِذَ بها عمر يوم القيامة). وشوَّه
البعض ممن يعتبرونه من السلف الصالح، أن الإيمان بقدر الله خيره وشره من أركان
الإسلام، وإن الفقر هو بعض من هذا القدر. ولم يدروا أن تقاعس المسؤول عن رعيته يؤدي
بصاحبه، وبالساكت عنه إلى التهلكة.
-وقال بوذا في إنجيله: (العمل الحق … بالبعد عن العمل السيء مثل التزييف وتناول السلع المسروقة وعدم اغتصاب المرء
لما ليس له) .وهذا ما يطبِّقه النظام الصيني الحاكم،
والدليل هو المستوى الحضاري المبهر الذي وصلت إليه الصين في هذه المرحلة. فهو قد
اعتنى بتوفير السعادة لمليارين من البشر، تاركاً مسألة حساب الأنفس في الآخرة لله.
من
مقاربة بين مستويين من الإيمان، ومستويين من التأهيل الثقافي للمجتمعات، نجد فجوة
كبيرة بين ما فعلته بنا الأنظمة الطائفية والأنظمة الطائفية السياسية، مقارنة بما
تفعله بعض الأنظمة العلمانية التي تطبِّق مبادئ العدالة الاجتماعية.
في
الغرب المسيحي اجتاز النظام السياسي مسافة واسعة قفز بها فوق الطوائف، وترك لها
حرية الاعتقاد، على أساس أن حرية الفرد به لا يجوز أن تتجاوز حرية الآخرين. وفصل
بين حرية الاعتقاد الديني وإلزامية الانتماء الوطني، ودعا المؤمنين به والداعين
إليه إلى حصر رسالتهم بإرشاد من يريد أن يُخلِّص نفسه في الآخرة، من دون تعصب
طائفي يؤدي إلى شرذمة المجتمع الوطني الواحد. على أن يتركوا ترتيب البيت الدنيوي
للمؤسسات السياسية. ولذلك اختفت الصراعات الدينية في المجتمعات الغربية.
وفي
الشرق البوذي، حصرت الأنظمة كل شؤون الحياة الدنيوية بنفسها، وتركت لرجال الدين
منهم مهمة الإرشاد الديني، بحيث غابت عن الواقع أية صراعات دينية، كما غاب أي مظهر
من مظاهر تدخل رجال الدين بشؤون الدولة.
إن
فصل الدين عن السياسة في الغرب المسيحي، والشرق البوذي، بمعزل عن موقفنا من سلامة
أنظمتهم السياسية، لم يؤدِ إلى إلغاء الإيمان الديني؛ وفي المقابل تتصاعد في كل
منها، وإن كان بحدودها الدنيا، مستويات الحضارة والتقدم في شتى مجالات الحياة التي
تُعنى بتوفير أفضل الشروط لسعادة مجتمعاتها في الحياة الدنيا.
لم
يستفد أمراء الدين في مشرقنا العربي والإسلامي من تجربة الشعوب الأخرى. لا بل
منعوا الاستفادة منها تحت ذريعة أنها (ما وُجدت إلاَّ لمحاربة الإسلام). وهذا ما
زعموا أنه انتشار للخواء الروحي عند تلك المجتمعات لأنها ابتعدت عن الدين. ليصل
أمراء الدين في عدد كبير من الأنظمة السياسية، وحلفاؤهم من المؤسسات الدينية،
مستخدمين خطاب تضخيم للذات، اعتبروا فيه أن المجتمعات الإسلامية ممتلئة روحياً
لأنها لم تهمل الدين.
وإذا
قمنا بمقارنة بين (الخواء الروحي) للآخرين، و(الامتلاء الروحي) للمسلمين، لوجدنا
أن مجتمعاتنا، وكما تؤكد الوقائع، خسرت الامتلاء الروحي، ولكنها لم نكسب الامتلاء
المادي. والدليل على ذلك، هو أن مجتمعاتنا من أكثر المجتمعات تخلفاً حضارياً. بينما
الامتلاء الروحي الذي تزعمه تلك المؤسسات يقود إلى حروب التكفير المتواصلة،
الممتلئة بالقتل وإراقة الدماء.
وإذا
قاربنا وضع الغرب مع وضع المشرق، لوجدنا أن المشاكل عندنا ليس لها حد، سواءٌ أكان
في الجانب الروحي الذي نزعم أننا ممتلئون به، أم كان في الجانب المادي الذي نفتقر
فيه الحد الأدنى من مقومات سعادة الإنسان الدنيوية. ونعيش على وهم خلاص أنفسنا في
الآخرة.فماذا جرَّت علينا تلك الأوهام من ويلات؟
في
المشرق العربي – الإسلامي، تعاني
المجتمعات من آفات ومشاكل كثيرة تتحمل الوزر الأكبر منها المؤسسات الدينية. كيف
ولماذا؟
لو
عقلنت المؤسسات الدينية وعودها الغيبية، وحوَّلتها إلى تربية روحية راقية بأسبابها
وطرق عرضها، لهان الأمر وكان شيئاً معقولاً ومقبولاً. ولكن أن تحصر عنايتها بمصير
الروح بعد الموت، وتسكت عن مصير الإنسان قبله، فهذا مما لا يتقبله عاقل. فلو
أعطينا ما لله لله، أي تقرير مصير الإنسان بعد الموت. ولو أعطينا ما لقيصر لقيصر،
أي تقرير مصير الإنسان قبل الموت، مع مراقبته ومساءلته، لاستوت الأمور وصلحت. ولو وقفت
المؤسسات الدينية عند هذه الحدود، لكان عليها أن تضغط على قيصر لكي يوفي المكاييل
لأصحابها، ولكي يقوم بواجباته تجاه من يقود ويحكم ويسوس. وهذا ما لم تبادر
المؤسسات الدينية للقيام به. بل وعدت الفقير بالجنة، وسكتت عن قيصر سكوت أهل الكهف
لينهب ما يشاء وكيفما يشاء ومتى يشاء. هذا هو إذن الواقع المؤلم الذي تعاني منه مجتمعاتنا في الشرق
الإسلامي بشكل عام، وفي مشرقنا ومغربنا العربي بشكل خاص.
ومن
أجل هذا الواقع كان لا بُدَّ من أن يصرخ الفقراء في وجه ناهبيه واللصوص منهم. ويعلنونها
بوضوح وجرأة، من دون تثريب أو ترهيب، ليقولوا: إن مهمة المؤسسات الدينية، أن ترعى
شؤون الفقراء، ولكن ليس بالوسائل التالية:
-ليس بزعم جمع الصدقات
والهبات والحسنات باسمهم من دون أن يستفيد منها الفقراء بشيء، بل على العكس من ذلك،
فإنها تذهب إلى إهراءات المؤسسات الدينية من دون حسيب عن كيفية جمعها، ومن دون
رقيب على كيفية صرفها.
-وليس بالمواعظ التي لا
توفِّر لهم رغيفاً من الخبز، ويدعون الفقراء إلى الصبر على فقرهم. بل بأن تتخلى
المؤسسات الدينية عن امتيازاتها بالأموال التي تجمعها. وأن تكون شفَّافة بجمع وصرف
تلك الأموال.
-وبل بالوقوف في وجه قيصر
الذي يسرق أموال اليتامى، والضغط عليه والصراخ في وجهه، كما فعلها مؤسسو الأديان
منذ مئات السنين بل من آلافها، وهم أدرى بما حثُّوا عليه، وما دفعوه من أثمان
لأنهم كشفوا عوراته وجرائمه بحق الفقراء. فهل نجد من بينهم من يتوه في الصحراء
هرباً من فرعون؟ ومن يحمل الصليب رفضاً للركوع أمام القيصر؟ ومن يهاجر إلى المدينة
هرباً من تعسف قريش؟
كل
ذلك، يلزم الفقراء أن يصرخوا بالفم الملآن: (لا طاعة لرجل دين لا يُشهر سيفه لانتزاع
حقوق الفقراء من جيوب الفاسدين وخزائنهم وعقاراتهم وحساباتهم البنكية). وليقولوا
لهم إن (ما كسبوه ليس مما رزقهم الله، بل
مما سلبوه من حقوق الفقراء والمعوزين). ولا طاعة لرجل دين يجمع الفضة والذهب باسم
الفقراء ويستخدمها لمنفعة شخصية من دون حسيب أو رقيب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق