لا خلاص لنفس بعد الموت لا تسعى لحياة سعيدة قبله
إن
الله، العقل الفعَّال لإدارة الكون اللامتناهي، خلق الكليَّات العامة التي تمثِّل
المبادئ والقوانين التي يسير عليها كل جزء من جزئياته. والجزئية التي نقصدها ليست
التفاصيل التي يغرق فيها العقل البشري الذي وحده المكلَّف بمراقبتها ومعالجتها.
ولكي
نقرِّب مفهومنا لمصطلح الجزئية، نعتبر الحياة على الكرة الأرضية التي هي بمتناول
تصورنا وإداركنا، هي جزئية صغيرة من جزئيات الكون. وكل مظهر من مظاهر الحياة أو
الجماد على الكرة الأرضية له تفصيلاته. فالله عندما خلق هذه الجزئية فإنما وضع لها
قوانين ومبادئ كلية، التي على أساسها، كلما استطاع الإنسان أن يدركها يمكنه
السيطرة عليها، وتلك وظيفة أوكلها الله له لينوب عنه بالعناية بالتفاصيل.
وحدة
النوع هي من القوانين الكلية التي خلقها الله. وجعل في وحدة النوع تراتبية في
الوظائف إذا قام كل فرد من أفراده بالوظيفة الموكلة إليه تستمر الحياة في هذا
النوع ويضمن له البقاء. وهنا، وكمدخل للتعرف أكثر على القوانين التي تضمن بقاء
النوع البشري، سنقوم بتحليل نماذج تتعلق بصياغة قوانين غيره من الأنواع الحيوانية
والجامدة.
فعن
نوع مجتمع النحل مثلاً، أثبت العلم أن تكوين ووظائف خلية النحل هي ذاتها في كل ركن
من أركان الكرة الأرضية. لكل خلية ملكة، فيها الذكور والإناث. دور الذكور انتخاب
الذكر الذي يلقِّح الملكة. ودور الملكة أن تضع البيوض. ومن بعد تحولِّها إلى أفراد
كاملة التكوين يبدأ توزيع الوظائف، فيقوم كل فرد سليم من أفرادها بالعمل على تكوين
قوالب الشمع وجني رحيق الأزهار وتحويلها إلى عسل يتم تخزينه في القوالب. ولهذا
أثبتت الرؤية أنه لا فرق بين وظائف خلية وخلية، ولا فرق بين إنتاج وإنتاج سوى
بنوعية الرحيق الذي تعود أسباب الاختلاف فيه إلى نوعية الغذاء الذي يجنيه أفراد
الخلية. والعبرة من كل ذلك، أن لخلية النحل رأس مدبِّر واحد، والجميع يعملون على
قدم المساواة، ويتلقون الغذاء في أيام الشتاء بشكل متساوٍ من دون تنافس أو قتال.
وأتصور من خلال هذا العرض أن مجتمع خلية النحل سيكون سعيداً، وسيعرف الاستمرار
والبقاء. وهناك حقيقة أخرى، هي أن الله الذي كوَّن هذا النوع على تلك الفطرة انتهى
دوره عند هذا التكوين، ولكنه ابتعد عن التدخل في التفاصيل اللاحقة، ولهذا لم
يوفِّر للنحل غذاء وحماية للخلية من دون عمل يقوم به أفرادها، لأن الخلية التي لا
تعمل في سبيلهما هي وحدها التي تعرف الموت إذا لم تجنِ رزقها، والفناء إذا لم توفر
الحماية لنفسها.
وهكذا
يمكن القياس على سائر أنواع الحيوانات، كفصيلة الحيوانات المفترسة كالأسود والضباع
والذئاب. وكفصيلة الحيوانات الداجنة التي تحمل جينات الخضوع لأنها أُعدَّت كمصادر
للغذاء. ولذلك توحَّد كل نوع من تلك الأنواع بجينات فطرية وغريزية واحدة أينما
وُجدت على سطح الكرة الأرضية؛ مثلها كمثل النوع البشري أو النباتي، أو الجرثومي،
أو الأنواع الأخرى من الموجودات التي رافقت هذا الجزء من الكون، كالماء والهواء.
وقوانين الطبيعة كالجاذبية، وغيرها...
فالقول: إن (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ
إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)، لا تعني أن الله يعمل من أجل توفير الرزق، بل
خلق في كل نوع فطرة العمل من أجل الحصول على ذلك الرزق، لأنه لم يُطعم، ولن يُطعم
أحداً لا يعمل. فقانون العمل، هو من القوانين الكليَّة الإلهية، وأما تفاصيله
وتطبيق تلك التفاصيل فمتروكة لكل نوع من أنواع الموجودات لتقوم بوظيفتها من أجل
المحافظة على نوعها. فمن لا يعمل سيموت جوعاً، وإذا وجد ما يأكله، فسيكون من جنى
عمل فرد آخر.
من تلك المقدمات، نستنتج أن الله إنما أراد أن
يفطر مبدأ العمل في مخلوقاته الحيَّة لكي يجعل للحياة معنى وقيمة ولذة. وربما
تختلف تلك المعاني وأشكال التعبير عنها من نوع إلى آخر، ولكن تبقى مبادؤها ثابتة
لا تتغيَّر. ولكن ما يعنينا دراسته وتحليله هو مناقشة فرضية أن الحياة الدنيا
للإنسان، كمخلوق حي من أرقى أنواع المخلوقات الحية، هي أولى بعناية الإنسان
واهتمامه. وتسبق بالأهمية فرضية اهتمامه بمصيره بعد الموت.
إن هذه الفرضية تقوم على اعتبار أن الله، العقل
الفعَّال للكون اللامتناهي، قد خلق الحياة للإنسان لكي تكون سعيدة، وخلق له عوامل
فطرية أو غريزية أو عقلية للحصول على السعادة. ولم يسخِّرها لكي تكون وسيلة للوصول
إلى هدف آخر، كمثل تسخيرها لتكون طريقاً للسعادة في عالم غيبي آخر. وهذا ما يتناقض
مع كثير من الدعوات الدينية التي تعتبرها وسيلة لا غاية. وعلى أن تكون الوسيلة
للخلاص عبر ما تعتبره عبادات ترضي الله لكي يوفر للإنسان العابد مكاناً سعيداً بعد
موته. وهي بذلك، تعتبر الله نرجسياً يحب عبودية الناس له، على الرغم من أنه إذا
أراد ذلك يمكنه إخضاع الكون اللامتناهي كله لكي يضج بالعبادة والتسبيح له. ولكنه
ليس بحاجة إلى كل هذا لأنه واثق كل الثقة بموقعه وقدرته وهو غني عن كل أنواع
المديح والتسبيح. لأنها من صفات الحاكمين غير الواثقين من أنفسهم، ومن الذين
تطربهم مدائح الآخرين.
بناء على تلك الفرضية الغيبية، التي نعبِّر
عنها بالقول: إن سعادة الإنسان في حياته هي أقصر الطرق لخلاص نفسه في الآخرة. أي
اعملوا لدنياكم، والله كفيل بالآخرة، بل هي من صلب اهتماماته.
إن احترام القواعد الإلهية الكلية وتطبيقها هي
عبادة لله. فمن يعمل في سبيلها هو أفضل الطرق لرضى الخالق والتقرُّب منه. ولأن
الله خلق الحياة، فقد خلقها لتكون سعيدة. ومن عمل في سبيل إسعاد حياته، والإسهام
في سبيل إسعاد الآخرين يكون كمن يسلك أقصر الطرق لتنفيذ المبادئ الإلهية الكلية،
وسوف يحصل على الخلاص في الحياة الدنيا، لأن للحياة بعد الموت وظائف أخرى لا
يعلمها سوى الخالق. وكل من يزعم غير ذلك، فهو كمن يتقمَّص دور الخالق ويكون بديلاً
عنه.
لأن الرجم بالغيب لا علاقة له بالبرهان يبقى
مفتوحاً على كل احتمالات الخطأ، ومصير الإنسان بعد الموت هو من أكثر أشكاله
غموضاً. وعلى الرغم من أن الأديان زعمت أن الله فتح لأنبيائها بوابات معرفتها،
والتي زعم الكثير من رجال الدين أنهم يعرفون طريقها بالتفصيل، كما ترد في مواعظهم
لطيبي القلوب والسريرة من المؤمنين، إلاَّ أنهم لا يطيقون تطبيق شروط خلاص أنفسهم
في مرحلة بعد الموت، كمثل أن أحداً منهم لا يجرؤ على المشاركة في ما يعتبرونه
جهاداً مسلحاً في سبيل الله الذين يعتبرون الشهداء الذين يسقطون في ساحته سيكون
موقعهم الجنة. أو كمثل أنهم لا يستطيعوا أن يصبروا على جوع أو بلاء، بينما يُبشِّرون
الصابرين بجنات عدن، وما فيها من مكاسب ومزايا.
على الرغم من كل ذلك، ولأن الحياة الدنيا أراد
الله لها أن تكون سعيدة لأنه خلق مع الإنسان عوامل إنتاج حياة سعيدة. وما عليه
أكثر من أن ينمي تلك العوامل ليحصل على السعادة. تعتبر الحياة هبة من الله، ترك
للبشر قوة العمل للاستفادة منها.
وقياساً على مقدمة المقال حول عوامل وسائل
حماية النوع للمخلوقات الحية، فإنه ترك للإنسان عوامل ووسائل تضمن البقاء السعيد
له ولكل نوعه، وذلك عبر تمثُّل أكثر من مزية من مزايا تلك العوامل والوسائل، سواءٌ
أأتت من عوامل فطرية وغريزية، أم أتت من عوامل عقلية. فإذا كانت العوامل الفطرية
والغريزية تؤدي وظائفها عند كل الكائنات الحية بوسيلة لا شعورية ولا إرادية أو
غريزية، فإن العوامل العقلية عند الإنسان تكون فعَّالة تساعد على توفير شروط
الحياة السعيدة.
ولأن الخالق بغير حاجة لعبادة أو لشكر، لأنه
منزَّه عنها، فهو ولبناء حياة سعيدة للإنسان يسرُّه أن يقوم الإنسان بإتقان وسائل
واستخدام عوامل الحصول على حياة سعيدة. وإذا كان الإنسان يشعر بالسعادة عندما يؤدي
عملاً يُسعده، ويسعد عائلته، ويُسعد المجتمع المحيط به، فإن السعادة الإلهية تكون
أكثر في أن يكون الإنسان سعيداً. وطبعاً لن يسعد في أن يكون الإنسان غارقاً في
الهموم والمشاكل خاصة أنه خلق فيهم بالقوة عوامل السعادة وشروطها.
إن الله وفَّر شروط السعادة، والإنسان وحده هو
الذي يخلق شروط البؤس والتعاسة. فالسعادة نعمة من الله والبؤس نقمة من إهمال
الإنسان للحصول على تلك النعمة.
وإن اعتبار النص الديني الذي يعتقد بأن كل شيء
بتقدير من الله، ومسطور بقدر مكتوب، يعمل على إعفاء الإنسان من المسؤولية،
وبالتالي يعفي الإنسان الشاذ عن تطبيق عوامل السعادة للآخرين من المسؤولية، وذلك
كمثل من يفتعل الحروب والقتل من أجل ما يزعم أنه إعلاء لشأن الله، أو الدفاع عنه
ونصرته، أو لترسيخ كلمته في الأرض.
ختاماً،
أثبتت
التجارب التاريخية، أن العبادات تشكل جزءاً أساسياً من الراحة النفسية عند من
يمارسها، وهؤلاء يشكلون الأكثرية العظمى من البشر، سواءٌ اكانت عبر طقوس الأديان
السماوية، أم كانت عند غيرها من الأديان الأخرى، ولهذا نجد من الصعوبة بمكان أن
يدعو أحد لإلغائها. ولكي لا تبقى السلاح النفسي الأوحد، تقع على عاتق المؤسسات
الدينية مسؤولية مقاربتها من القيم الإلهية الكلية لكي تكتمل عبادات الشكر، مع
تطبيق مضامين تلك القيم، ومن أهمها على الإطلاق أن تُبنى حياة الإنسان على قواعد
السعادة. وتلك القواعد ترتبط بالحث على عمل كل ما يؤدي إلى صنعها. والتي هي
باعتقادنا تشكل الهدف الأساسي من تكوين الحياة البشرية.
بالإضافة
إلى أن المؤسسات الدينية تعمل على تأهيل أعداد كبيرة من رجال الدين تفيض كثيراً عن
حاجة المجتمعات البشرية، لأنها تقتصر على الإرشاد لخلاص النفس في الآخرة وهي أعمال
غير منتجة، لا بل تستهلك من نتاج عمل الآخرين من دون أن تبذل جهداً، ولا تفكر
بالمعيوش والملموس من حياة البشر. بينما من أهم مهماتها الحثُّ على تأهيل الإنسان،
كل إنسان، لكي يكون ناجحاً في بناء حياة سعيدة كما أراد الله لها أن تكون. لأن
أهمية بناء تلك الحياة تفوق أهمية صلوات الشكر التي لا يعتبر الخالق أنه بحاجة
إليها. فهي إن غابت فلن تُنقص من قيمته شيئاً، وإن حضرت فلن تزيد من تلك القيمة
شيئاً أيضاً.
وأما
من شروط العمل، فهي الحثُّ على حق كل إنسان بإتقان عمل منتج أولاً، وبالحث على
توفير فرص العمل له ثانياً. وبالتالي إدانة كل من يعيق امتلاك هذه الحقوق،
واعتباره مخالفاً لإرادة الله، سواءٌ أكان الإنسان المقصِّر بحق نفسه، أم كان في
موقع المسؤولية المقصِّر بحق الآخرين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق