المسلسلات التلفزيوية تطبيع نفسي لترويِج صفقة القرن
ولأن
مسألة العيش المشترك بين الأديان قضية ضرورية، تستأهل الاهتمام نسبة إلى أنها
ضرورية في ظل الأجواء الطائفية الشديدة الاحتقان في هذه المرحلة. يزعم مؤلف
المسلسل، والممثلون الذين شاركوا فيه، أن الهدف منه هو تعزيز حالة التطبيع بين
الأديان والتقريب بينها. فإذا كانت هذه الأهداف المزعومة هي الحقيقة، لما كنا
لنتوقَّف عند إثارة هذا الموضوع، لأن حاجة مجتمعاتنا للتعايش بين الأديان ضرورية
وماسة من أجل تخفيف حالة الاحتقان والتعصب.
ولكن
الظروف المحيطة، بتوقيت عرض المسلسل في شهر رمضان لغاية مقصودة، وحيث أنه يطرح قضية
وطنية بمثل هذه الأهمية من منطلق الإشادة بطائقة الشخصية الرئيسية فيه، تذهب بنا
إلى القيام بتفسيرات أخرى، واستنتاج أهداف أخرى من ورائها.
إن
تركيز المسلسل على اعتبار امرأة يهودية هي محور المسلسل ليس بريئاً، لأنه يغفل
المزاج الشعبي السليم عند معظم المجتمعات العربية التي تعايشت مع المواطنين اليهود
العرب الذين عاشوا قروناً طويلة في بيئة دينية أكثريتها إسلامية ومسيحية. وكان
هؤلاء اليهود يشكلون جزءاً من تلك المجتمعات، ويحصلون على حقوق لهم، كانت تسمح لهم
السلطات الحاكمة بممارستها، وذلك على الرغم من انتقاص بعض الجوانب فيها. ذلك
الانتقاص لم يتضرر منه اليهود العرب لوحدهم، بل كانت تلحق حتى بالمذاهب الإسلامية
التي لا تدين بمذهب الدولة الحاكمة. وتلك من أهم الأسباب التي كانت من وراء رفض
الدولة الدينية، والدعوة إلى قيام دولة مدنية لأنها الوحيدة التي تساوي بين كل
مواطنيها بالحقوق والواجبات.
استناداً
إلى ذلك، كان من الأفضل أن لا تكون الشخصية المحورية امرأة يهودية، بل أن يكون
المحور شخصية عربية أخرى غير ذات لون ديني، بل تعبِّر عن الشخصية العربية المتحررة
من القيود الطائفية التي ترفض الدولة الدينية لأنها كانت سبباً أساسياً في تعميق
التعصب الديني. وذلك من أجل إبراز الشخصية العربية المنشودة في المجتمع العربي
الجديد.
إن
إبراز الوجه اليهودي الإيجابي في المسلسل، وفي ظل الظروف القاسية التي تتعرض فيه
القضية الفلسطينية للإلغاء، وخاصة في الترويج لصفقة القرن، جاء وكأنه تبييض للوجه
الصهيوني المغتصب للأرض، الهادف إلى تصفية القضية الفلسطينية بأسلوب استيطاني يعمل
على اجتثاث كل التنوعات الدينية الأخرى، والعمل لبناء دولة يهودية على أرض
فلسطين.ويأتي المسلسل في ظل هذا الواقع وكأنه يعمل على تبييض وجه الصهيونية
الأسود. أي أنه يوحي وكأن (الدولة اليهودية) التي أُعلن قيامها منذ سنوات قليلة،
أنها ستكون الأنموذج الإيجابي الذي تظهر به صورة (أم هارون) بطلة المسلسل.
وماذا
تعني هذه الإيحاءات، من وجهة نظرنا؟
بعد
أن يتم تظهير وجود دولة يهودية بصورة (أم هارون) المشرقة، وهذا إيحاء نفسي بأن تلك
الدولة ستكون على صورتها، بحيث تكون متسامحة مع الأديان الأخرى، وتضع إنسانيتها في
خدمة الجميع من دون تمييز طائفي، ديني أو مذهبي. يبدأ الوجه الثاني لتلك الصورة
وهو إظهار صورة الفلسطيني بصورة مكروهة، لسببين اثنين:
-أولهما
يتم استنتاجه من وراء تركيز بعض حلقات المسلسل على تحميل الفلسطينيين مسؤولية ضياع
فلسطين، وأنهم استغلوا المساعدات التي قدَّمها العرب لهم لغايات أخرى غير تحرير
بلدهم.
-وثانيهما:
إنه على الرغم من أن العرب قدموا
للفلسطينيين كل أنواع الدعم، لم يتلقوا منهم سوى نكران الجميل.
إن
حبكة المسلسل، صورة جميلة لـ(ام هارون) كرمز للدولة اليهودية فيه تطبيع نفسي شعبي
للتعاطف مع تلك الدولة والاعتراف بوجودها، وصورة قبيحة لـ(الفلسطيني) ناكر الجميل،
وفيه إيجاء نفسي سلبي ضد ذاك الفلسطيني (الجلف) الذي لا يستحق أن يحكم فلسطين.
وتكتمل الحبكة لتشد إليها العواطف الشعبية لتبرير العدوان الصهيوني لأنه ذو وجه
حضاري إنساني، وتدفع إلى موقف العداء من صاحب الحق (الفلسطيني) لأنه لا يمتلك أدنى
مواصفات القيم الإنسانية، وهو الاعتراف بالجميل.
إن
المسلسل غير بريء على الإطلاق، إذ ربما أشرف على صياغته وإخراجه اختصاصيون بعلم
النفس الاجتماعي. وهؤلاء عادة ما توظفهم أجهزة المخابرات الصهيونية لخدمتها في
حروب الأفكار، التي تعمل على الغزو الناعم لعقول ذوي النوايا الحسنة. وهي حرب تكون
أكلافها صفراً، وعائداتها أنها تحقق ما لا تحققه الحروب العسكرية. فالحروب الناعمة
تلامس العواطف وتثير موجات التعاطف، أما الحروب العسكرية فأكلافها باهظة وتثير
السخط والنقمة من شدة وحشيتها.
إن استخدام
وسائل الحرب الناعمة كان نتيجة حالة تراكمية في نقد وسائل السيطرة الصهيونية – الاستعمارية بوسائل عسكرية،
خاصة أن ثلاثة أرباع القرن من استخدامها زادت من النقمة الشعبية عليها، وعجزت عن
تحقيق أي اختراق في جدران الرفض الشعبي.
وبعيداً عن خطابات التخوين، وسيان كان منتجو
المسلسل، كتابة وإخراجاً وتمثيلاً وتمويلاً، على دراية بخطورة ما فعلوا أم لا،
وحتى لا تستمر هذه الحرب الناعمة بمسلسلات أخرى، وهي سوف تستمر، نعتقد أن مواجهة
الآثار الخطيرة له تتطلب، على قاعدة العلمية الموجَّهة، اتخاذ الإجراءات التالية:
1-الدعوة إلى وقف عرض المسلسل فوراً، لإيقاف عملية التطبيع الشعبي النفسي
لقبول واقع الاغتصاب للأرض الفلسطينية. والكشف عن الأكاذيب التي يعمل المسلسل على
ترويجها لتحميل الفلسطينيين مسؤولية ضياع أرضهم كوسيلة من وسائل تجهيل المسؤولية
التي يتحملها النظام العربي الرسمي في ضياع أرض فلسطين وبيعها بأبخس الأثمان.
2-أن يتم تشكيل لجنة من خبراء علم النفس
الاجتماعي، ومن خبراء الفنون الإعلامية، والقيام بما يلي:
أ-دراسة مختصة حول ما تضمن المسلسل من خفايا خطيرة لشرحها بشكل مبسَّط
وقريب من المفاهيم الشعبية.
بـ-ترويج تلك الدراسة بكل وسائل الإعلام المتاحة. وخاصة وسائل التواصل
الاجتماعي التي تستطيع الترويج لها بشكل واسع وسريع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق