التكاملية في حياة البشرية
مدخل في تعريف بعض المفاهيم:
1-مفهوم التراكم الإيجابي في تاريخ الفكر
البشري:
يأخذ البعض علينا، وهو محق، أن ما نكتب فيه
وعنه تكرار لما أتى به الكثيرون من المفكرين والمنظرين الأسبقين. ونحن نعترف بذلك،
ولكننا نقوم بتكرار ما نراه واجباً لتكراره من كلام الأقدمين والسابقين
والمعاصرين، لأننا نعتبر أن فيما قالوا فيه وكتبوا عنه وبشَّروا به، هو من التراث
الذي لا غنى عن تكراره لأننا مقتنعين بصلاحيته لعصرنا كما كان صالحاً لعصرهم، وهو
صالح لبيئتنا كما كان صالحاً لبيئتهم. ولأننا نعتقد أن تكوين الإنسان لم يتغيَّر
منذ طهوره الأول على سطح الكرة الأرضية، وأسئلته وحاجاته هي ذاتها أيضاً، نعتبر ما
أتى به السابقون ممن نكرر ما قالوا به، ينطلق من حاجتين اثنتين، وهما:
-الأولى: الحاجة لنشر ما نجده
صالحاً حتى ولو عفى عليه الزمن آلاف السنين، وهو واجب علينا، كما هو حق لمن أبدع
ووضع اللبنات الأولى لتلك الأفكار. وهذا ما نقصد به من حاجة البشرية للاحتفاظ
بالتراكم الإيجابي لقضايا المعرفة من أجل الاستفادة منه في كل زمان ومكان. وهو على
العكس من العملية المناقضة له، أي عملية التراكم المعرفي السلبي، الذي أظهرت
التجارب الإنسانية عدم صلاحيته سوى للمرحلة التي نشأ فيها، بزمانها ومكانها.
-الثانية: لأنها لا تزال صالحة،
بمعنى أنها أفكار خالدة. وخلودها يعود إلى صلاحيتها الإنسانية العامة، فهي مبادئ
يحتاجها الإنسان في كل زمان ومكان. وللتبسيط أكثر، نعطي أنموذج استمرار الحياة
البشرية بعامليْ الغذاء من طعام وشراب. وحاجة الإنسان لتطبيق أسس العدالة
والمساواة وما يعادلها من مبادئ أخرى.
وباختصار، نعتقد أن حالة التراكم الإيجابي
في فكر الشعوب على شتى تعريفاتها، وفي فكر المجتمعات المختلفة التي يمر بها مجتمع
من المجتمعات، مسألة على كل من ندب نفسه للخوض في بحار الفكر أن يساهم فيها، إما
بإعطاء الجديد الذي ينبني عليها، أو بنشر ما تراكم من إيجابيات أفرزته الأفكار
السابقة. وإذا كان التراكم المعرفي الإيجابي ضرورة وحاجة للبشرية من أجل اختصار
الزمن، فإن التراكم السلبي أيضاً يجب أن يخضع لمناخل نقدية فكرية والتحذير من
مخاطره، لأنه من دون ذلك، ستتجمد الحركة الفكرية والعلمية في المجتمعات.
ولأن الحركة الفكرية يجب أن ترتبط بمصلحة
المجتمع البشري، فإنه لا فائدة لتلك الحركة إذا لم تنتج نفعاً لهذا المجتمع، ولكل
فرد فيه. وهذا ما يُلزمنا بتحديد مفهومنا لمبدأ المنفعة.
2-مفهومنا لمبدأ المنفعة:
المنفعة ليست هنة في سلوك البشر، بل هي من
أهم مبادئها لأنه ليس هناك إنسان يعمل من دون الحلم بأن عمله سيدر عليه فائدة
تساعده على الاقتراب من شروط سعادة الإنسان. ولذلك نعتقد بأن المنفعة هي من أهم
الحوافز التي تلزم الإنسان بالقيام بعمل يُنتج ويدر ربحاً يساعد على تحسين حياته.
ولذلك نعتقد بأن مفهومنا للمنفعة يتلخص بما يلي: لأن الإنسان عضو في جماعة بشرية
تتكامل نتائج عمله مع نتائج أعمال الآخرين، يُلزم الإنسان أن يوازن بين المنفعة
التي يحصل عليها ومنفعة الآخرين، لأنه من دون إحداث هذا التوازن سيفقد البشر عامل
التعاون والتكاملية مع الآخرين، وإذا حصل الافتراق بين المنافع سيحصل الصراع
حتماً، ويضيِّع الإنسان فرصاً أفضل لتحسين عوامل إنتاج المزيد من المنافع.
ويهمنا هنا أن نميز بين المصطلحين التاليين:
(التكاملية النفعية في حياة الإنسان)، و(التكاملية النفعية في الحياة البشرية).
وإذا كانت المنفعة تكاملية على الصعيد الفردي، فهي تشمل كل الوسائل التي تؤدي إلى
منفعة ثنائية تركيب الإنسان الجسد والروح. ولأن الفرد جزء من المجتمع فلن تكون
هرميته سليمة إذا لم تكن قاعدته السوية الجسدية والروحية متوفرة عند الفرد.
وإذا كانت التكاملية الفردية تستند إلى
مجموع الشروط الواجب توفيرها لمنفعة الحياة الفردية، فهي ستكون حتماً مستندة إلى
العمل الذي يؤديه الإنسان الفرد من أجل بلوغ أرقى درجات المنفعة. ولأن الفرد هو
جزء من مجتمع أوسع، ويزداد اتساعاً كلما ارتقى ليصبح فرداً من الإنسانية كلها،
عليه أن يمتلك وعياً كاملاً بأنه لا يستطيع بمفرده أن يلبي شروط توفير سعادته، بل
لا بُدَّ له من أن يتكامل عمله مع أعمال الآخرين، ولهذا السبب فلن تتوفر سعادة
الفرد الكاملة سوى بتوفير شروط سعادة الآخرين، يعطي ما تؤهله له إمكانياته
للآخرين، ويأخذ من الآخرين ما تؤهلهم لهم إمكانياتهم.
وباعتبار أن التكاملية في الحالتين ترتبط
بثنائية المادة والنفس، نعتقد بأنه لا سعادة متكاملة من دون توفير شروط تنمية
مادية تلبي استمرارية سريان الحياة كشرط أساسي في استمرار المجتمع البشري، فإن
التنمية الروحية والنفسية، ومنها تنمية الطاقة الفكرية، شرط ضروري لتطوير وسائل
الحياة السعيدة. فإذا اعتنى الإنسان بتوفير وسائل حياته المادية من دون العناية
بالوجه الآخر، فسوف يتساوى مع الحيوان، لأنه ينتظر ما تقدمه له الطبيعة من مواردها،
مع عجزه عن ابتكار وسائل أخرى تتجاوز مستوى الغريرة التي خُلق عليها. بينما الإنسان
يمتلك عوامل ما فوق الغريزة، وهو تميزه بالقوة العاقلة التي تؤدي للإنسان خدمات
أكثر تطوراً لإنتاج ما يجعل حياته أكثر سهولة وأكثر سعادة. وبهذا تؤكد الوقائع
النظرية أنه لا منفعة فردية يمكن أن تتحقق من دون ارتباطها بالمنفعة الجماعية.
3-ارتباط توفير المنفعة العامة بمؤسسات
متخصصة:
ظهر أنه لا منفعة فردية يمكن أن تحصل من دون
ارتباطها بمنفعة الغير. وكلما كان الارتباط أكثر وعياً كانت المنفعة أكثر جزاء
للأنا وللآخر. ولهذا وُجدت المؤسسات الجمعية، سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية
وفكرية وعلمية، لتؤدي وظيفة أساسية في تحسين ظروف الأفراد والجماعات. وتنقسم تلك
المؤسسات إلى شريحتين اثنتين، وهما ما تمَّ التعارف عليهما، بالتاليتين:
-المؤسسات السياسية التي تدير كل المرافق
العامة التي لها علاقة مادية بتطوير حياة الإنسان المادية. ولعلَّ أهمها
ما له علاقة بالإنتاج المادي ذي العلاقة بإدامة حياة الإنسان. وما له علاقة
بالإنتاج التربوي الإنساني التي تحدد وظائف الأولى من جهة، وتحدد وظائف التثقيف
التربوي ذات العلاقة بتنوير مدارك الفرد والمجتمع بحقوقه على تلك المؤسسات من جهة
أخرى. وفي كلي التقسيمين يجب أن لا تُغفَل المخططات العلمية التي ترسم مسارات
تطبيقهما على الوجه الأكمل الذي يساعدهما على تنفيذ الواجبات الملقاة على عواتق
المكلفين بالتنفيذ. وباختصار تُعتبر أهدافها المعلنة أو المفترضة نظرياً أنها تعمل
لمنفعة الفرد والمجتمع.
-المؤسسات التي تُعرف بالمؤسسات الروحية، وهي عبارة عن مؤسسات
نشأت عن حاجة الإنسان إلى معرفة أكثر المصادر ثقة بتحليل مصائر البشرية في الشؤون
الغيبية. هذه المؤسسات بلغت شأواً كبيراً من التطور والتنظيم خاصة في المراحل
الراهنة. ولا تتمايز مؤسسة دينية منها عن الأخرى سوى بشكليات وظائفها. ومن الأهداف
المعروفة، حسب تعريفات مؤسسيها، أنها تختص بالدفاع عن حقوق البشر في حيازة موقع
سعيد بعد الموت. وكذلك، وكما تعلن أيضاً، أنها تدافع عن حقوق الذين سُلبت حقوقهم
بشكل خاص. وباختصار تُعتبر أهدافها الظاهرة أنها تعمل لمنفعة الفرد والمجتمع.
4-المؤسسات السياسية والروحية بين النظرية والواقع:
لا جدال حول أهمية الأهداف النظرية المعلنة
وموثوقية المختصين الذين صاغوها عبر التاريخ البشري، خاصة أن أهدافها النظرية تدعو
لتطبيق شروط المنفعة الفردية للإنسان والعامة للمجتمع. ولكن، وبدراسة تاريخية
لتحديد مدى مصداقية التطبيق أو كذبه، أظهرت أن بين النظرية والتطبيق بون شاسع.
تعاونت في الغالب الأعم المؤسستان السياسية
والروحية، تحت ستار أهمية دور كل منها في حياة الشعوب، بحيث تدير الأولى شؤون
البشر الدنيوية وتدير الأخرى شؤونهم الروحية الغيبية. وإذا كانت نشأة الدولة
الحديثة فصلت بين دور كل من المؤسستين، فإن الشعوب التي لا تزال متخلفة عن
الالتحاق بموكب مفاهيم الدولة الحديثة، خاصة منها الأنظمة ذات المنهج الطائفي
السياسي. ففي تلك الأنظمة عموماً تبقى العلافة مستورة وغير معلنة، تتلقى فيه
الأنظمة السياسية الدعم من المؤسسات الروحية بالامتناع عن لعب دور الكاشف لأخطائها
حتى على حساب منفعة الطبقة الفقيرة التي تزعم تلك المؤسسات أنها من أهم مهماتها.
وأما في أنظمة الطائفية السياسية فإن التحالف واضح ومعلن من دون خوف أو خشية.
وبمثل تلك الوقائع تكون المؤسستان قد خرجتا عن أهدافهما التي رُسمت نظرياً. وتكون
كل منهما راحت تعمل لمنفعة المؤسسات وليس لمنفعة الفرد أو لمنفعة المجتمع.
إن هذه المقدمات تدل على أن تكاملية المنفعة
بين الفرد والمجتمع تحولت إلى تكاملية للمنفعة المتبادلة بين المؤسسات التي تزعم
أنها ما وُجدت إلاَّ لمنفعة الفرد والمجتمع. فيكون المطلوب أن تقوم تلك المؤسسات
بتصويب الخلل بين دورها النظري، وبين دورها الذي تمارسه.
وإذا كان من المترتب علينا أن نقوم بتحميل
المسؤوليات والمحاسبة، فلا مفر من أن نعتبر أن الوعي الفردي للحقوق والواجبات تقع
على عاتق الفرد أولاً، وعلى من يجب أن يساعده على الوصول إلى هذا المستوى من
الوعي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق