أمراؤكم أصنام فحطموها
إنهم أسياد عليكم وفي رقابهم قيود العبيد
ما لا تكشفه الأيام السابقة أمام أعين اللبنانيين من مساوئ أمراء طوائفهم وجرائمهم ستكشفه الأيام اللاحقة. وسيأتي اليوم الذي تنكشف فيه عنترياتهم أمام أنصارهم الذين يهتفون لهم: (بالدم والروح نفديكم).
في المراحل
القادمة ستكشف متغيرات الأحداث اللثام عن أن أولئك الأمراء ليسوا أكثر من خدَّام أمام
أباطرة الدول الخارجية، يأتمرون بأوامرهم، ويؤدون أمامهم فروض الطاعة والإذعان.
حينذاك، ستبدو قيود العبيد التي تلف أعناقهم جلية واضحة، فيظهر أسيادنا عبيداً من
دون شك يخضعون لتهديد أولياء أمورهم ووعيدهم، فينفذون ما يُطلب عندما تُرفع العصا
فوق رؤوسهم. وبمثل ذلك المشهد يتأكد قول الشاعر المتنبي: (لا تشتري العبد إلاَّ
والعصا معه، إن أسيادنا عبيد مناكيد). وبدورنا نكمل ردحه بكافور مصر، ونقول له:
إذا كان كافور واحد قد حكم مصر، فإن لبنان يحكمه الآن عشرات منه، بل مئات.
انفجار مرفأ
بيروت كانت القشة التي قصمت ظهورهم:
قد تكون مأساة
انفجار مرفأ بيروت، في الرابع من آب اللهاب، هي تلك المناسبة التي سرَّعت بتعرية
أمراء الطوائف في لبنان من آخر ورقة من التوت التي تغطي ما اعتبر أنصارهم أنها ثياب
القداسة والزعامة والسيادة والأبوة ووضعتهم عراة كما ولدتهم أمهاتهم بعد أن أذابت
حرارة انفجار المرفأ ما كان يعتبره أنصار أحزاب السلطة ثلجاً، بل كان وهماً يغطي
عوراتهم السوداء.
لقد بدأت
الحكاية عندما انفجر غضب بركان مانوييل ماكرون، الرئيس الفرنسي، الذي جاء إلى
لبنان، بعد انفجار المرفأ مباشرة، مؤنباً أمراء السلطة الحاكمة مهدداً متوعداً ومحذراً.
فانصاع الجميع ومثلوا بين يديه في قصر الصنوبر مطواعين مستمعين من دون أية خطابات
رنانة من الوزن الذي يظهرون فيه أمام أنصارهم، وكان سكوتهم أمام مواعظ ماكرون
وإرشاداته التي تحمل التهديد والوعيد بكشف عوراتهم أكثر فأكثر، أشبه بإعلان الطاعة
والمبايعة له، وكأنهم من أنصاره الأوفياء. واستمعوا إلى الدروس والإملاءات، ووعدهم
ماكرون أنه سيعود ليمتحنهم إذا ما كانوا قد حفظوا الدرس أم لم يحفظوه.
وقبل موعد
الامتحان، بأربع وعشرين ساعة، أي في الأول من أيلول من العام 2020، وبعد أن هدَّد الرئيس
الفرنسي بضرب بعض الأمراء على جيوبهم، وهو المكان الذين يوجعهم فيه، لأن جيوبهم هي
الهم الوحيد الذي يفكرون بالمحافظة على ما سرقوه وخبَّأوه فيها. فكلفوا رئيساً
للحكومة بأربع وعشرين ساعة، وهو ما كانوا يحتاجون فيه لأشهر من أجل إنجازه. وما
وطئت قدما الرئيس الفرنسي أرض المطار، حتى كان الإعلان عن الرئيس المكلف يسابقه.
وإذا كنا لن
نخاطب أمراء السلطة، فلأننا لن نطلب الحل منهم لأنهم المجرمون، ولا يجوز أن يكون
المجرم قاضٍ في جريمة ارتكبها. بل نخاطب الأنصار والمؤيدين والمصفقين والهاتفين
(بالدم والروح) لنطلب منهم أن يتفكَّروا كم كان المشهد مذلاً في أن يقف من
اعتبروهم أمراء لهم في حضرة أحد أمراء الرأسمالية طائعين خاضعين خانعين، يتمنى كل
واحد منهم أن يحظى ببسمة منه أو بكلمة رضى.
سقط اللثام عن
الأسياد المزعومين، فهل من يسمع ويرى؟
أمراؤكم، يا
أهلنا، ليسوا أمراء سوى في مخيلاتكم. بل هم عبيد لأسيادهم الذين يملكون مفاتيح خزائن
الذهب والفضة. أمراؤكم يا أهلنا أمراء على الضعفاء ممن ارتهن لإرادتهم، ولكنهم
بالحقيقة عبيد يُقادون بقيود العبيد.
إن أشدَّ مظاهر
العبودية عند أمراء السلطة، أصحاب الحكمة والأبوة والسيادة والعطوفة والفخامة
والمعالي والسعادة والباكوات والأفندية والباشاوات، هو في أن يعيدوا تكرار ما
أملاه عليهم سيدهم. وما أملاه عليهم، هو أن يستجيبوا إلى صوت الشعب، صوت الشباب
والشابات الذين ملأوا الساحات منذ سنوات. قال لهم بالفم الملآن أنه لا مساعدات
خارجية من دون الاستجابة لمطالب الإصلاح الشبابية، بإقفال مزاريب الهدر والسرقة أولاً،
والعمل ثانياً من أجل بناء دولة مدنية يتولى إدارتها الذين يتميزون بالخبرة
والكفاءة والنزاهة. وبذلك وضع الإصبع على الجرح الأساس، وهو أنه لا علاج في لبنان
سوى بإعادة بناء دولة مدنية حديثة.
فيما أعلنه
الرئيس الفرنسي من شروط تلبي لوحدها المواصفات المطلوبة للإفراج عن القروض
الدولية. وفي هذا الإعلان رسالتان بالغتا الدلالة، ويمكننا إيجازها بما يلي:
-الرسالة الأولى: والتي على
الرغم من تسييسها، تُعتبر شهادة دولية بمشروعية الانتفاضة الشعبية التي بلغت ست
سنوات من العمر، واكتمل بعض من عقدها في السابع عشر من تشرين الأول من العام 2019.
-الرسالة الثانية، موجَّهة
لأحزاب السلطة التي واجهت الانتفاضة بالاتهامات، ليس أقلها أنها انتفاضة السفارات.
وتلك الشهادة تشكل صفعة قاسية لأولئك الذين اتهموا الشباب، وعملوا على شيطنتهم
بشتى الأكاذيب والتهم، فإذا بالأسياد الموهومين يظهرون عراة في أحد أقبية تلك
السفارات. ظهروا جميعاً: (كلن يعني كلن).
إذا كان الداء في أمراء الطوائف
لكن الدواء ليس عند الدول الرأسمالية
لن نتوقف أمام
شهادة الدول الرأسمالية التي اعترفت بمشروعية انتفاضة الشباب، لأنها في الكثير من
الأحيان تريد استغلالها لمصالح رأسمالية، بل نتوقف عندها لأنها لجمت ألسنة أمراء
السلطة عن توجيه أصابع الاتهام إليها، لا بل أنها أُرغمت على الاعتراف بتلك
المطالب. وراحوا جميعهم يتبارون بالتودد لتلك الانتفاضة لعلَّهم يمتصون الغضب
الشعبي بوعود عرقوبية، ولكن الانتفاضة تعي أسباب أكاذيبهم ولن تقع في أحابيلها.
إن تاريخ
العلاقات بين الدول الرأسمالية وأمراء الطوائف حافل بالتواطآت والجرائم في حق
الشعوب، وخاصة في لبنان، لأن تلك الدول تتعهَّد أمراء الطوائف بالعناية الفائقة
لتدجينهم بأسوار من التبعية لشركاتهم الصناعية، وجعلوا منهم طبقة وسيطة بين تلك
الشركات والمستهلكين من مواطنيهم. وإذا كان الرأسمال متوحشاً فلأن هذا منهجه في
الحكم، وأما إذا كانت الطبقات الحاكمة تمتص دماء المحكومين فهذا مما لا تتقبَّله
حتى الدول الرأسمالية، وهي على الرغم من توحشِّها عندما تمتص دماء الشعوب الأخرى إلاَّ
إنها تضع مصلحة بلادها في المقدمة. وأما في نظامنا الرسمي، فتضع الأحزاب الحاكمة
مصلحتها في المقدمة، وهي تسرق مرتين. في المرة الأولى عندما تتحالف مع الرأسمالية
بنهب ثرواتنا. وفي المرة الثانية عندما تسرق مواطنيها لمصلحة طبقاتها الحاكمة. وفي
تواطئها مع الرأسمالية يصح قول الشاعر سليمان العيسى عندما سخر من رعاة الشعب قائلاً:
لا يُلام الذئب
في عدوانه إذا كان الراعي عدو الغنم
ولهذا نرى أنه
إذا كان الداء في أمراء الطوائف لكن الدواء ليس عند الدول الرأسمالية. ولكي
نبدأ بالتصحيح لا بُدَّ من مساءلة الرعاة في حقولنا الوطنية أولاً. وإذا كنا نريد الاستفادة
من الضغط الذي تمارسه فرنسا على رعاة الوطن، فإنما لأننا نعتقد بأن الضاغط يعرف
أسرار أولئك الرعاة وهو الذي يستطيع الكشف عن الكثير من أسرارهم. وبهذا يمكن
الحراك الشعبي أن يستفيد من التناقضات التي تحصل بين قوى تتشارك باستغلالنا
واستعبادنا ونهب ثرواتنا ومصادرة قرارنا.
الكشف عن هوية
عملاء السفارت الحقيقيين:
ووقوفنا أمام
مغازي الرسالة الثانية لنؤكد أن الانتفاضة لم ولن تقف على أبواب السفارات لتكتسب
مطالبها مشروعية، بل لأن قوة تلك الانتفاضة هي من قوة الحق في تلك المطالب. وإن
كنا على ثقة تامة بأن مشروعية المطالب التي رفعها المنتفضون لن تمر عبر بوابة هذه
السفارة أو تلك، ولكن اعتراف معظم تلك السفارات بها تعطيها قوة الانتشار وقوة
المشروعية الدولية والإنسانية. وما وقوفنا أمام الرسالة الثانية سوى للتأكيد على
أن أمراء الأحزاب هم الذين يقفون أمام السفارات الخارجية بصفوف منتظمة، لا بل
يركعون أمامها. ولذلك لبَّى جميع الأمراء أمر ماكرون للاجتماع تحت سقف السفارة
الفرنسية ليس لكي يناقشوا سبل الخروج بلبنان من عنق زجاجة الأزمة، بل ليتلقوا
الأوامر بتنفيذ ما تراه الدول التي فوَّضته ممراً رئيسياً للحد من تعميق الأزمة
قبل انحدارها إلى مستويات أكثر إيلاماً.
الضرب على جيوب
أمراء الأحزاب الحاكمة ضغط حقيقي لقبول الآوامر:
بين هذه
الرسالة أو تلك، يأتي التهديد بتجميد أموال بعض الأمراء في الخارج، هو الأمر
الأكثر إيلاماً وحرجاً وكشفاً للعورات. وإعلان بعض الأسماء في المرحلة الأولى هو
مقدمة لقرارات أخرى قد تليها، إذ أنه كلما طالت عرقلة تشكيل الحكومة والبدء في
ورشة إصلاح فورية، كلما تصاعدت قرارات تجميد رساميل أمراء آخرين.
لم تهتزَّ
كراسي أمراء السلطة أمام هول المجاعة التي ضربت الأكثرية العظمى من الشعب
اللبناني. كما لم تهتز أمام هول فاجعة مرفأ بيروت. لأن لا هذا الهول أو ذاك، هدَّد
جيوبهم، ولذلك لم يكترثوا وكأن شيئاً لم يحصل. ولكن عندما وصل الموسى إلى ذقون
جيوبهم فقد اهتزَّت عروشهم، وكراسيهم. وإذا افترضنا أنهم سيكابرون، سيبقى شبح
تجويع الجميع بمن فيهم الأمراء يحوم في مخيلاتهم، خاصة عندما يرون مدخرات ما سرقوه
ونهبوه أصبحت في خبر كان، والأكثر إيلاماً لهم أنهم سيبقون عراة من القداسة
والاحترام أمام أنصارهم .
لم تعد المرحلة
مرحلة قواعد الاشتباك التقليدية، معركة العض على الأصابع: (يخسر من يصرخ أولاً)،
لأن ما هو مرسوم للبنان، صورة على غاية من المأساوية، وتلك الصورة ليست أقل من
تجويع الجميع، بمن فيهم أنصار أمراء السلطة وسوف يحصل ذلك عندما سيصلون إلى مرحلة
لن تساوي فيها الليرة اللبنانية شيئاً يشترون بها ولو رغيفاً من الخبز.
أحزاب السلطة
يشترون سكوت أنصارهم بلقمة تكاد لا تسد جوعهم
إنها معادلة
مثيرة ومؤلمة، يعمل أمراء السلطة على ربط أنصارهم بتوفير رغيف من الخبز ليعضوا على
الجرح المعيشي الضاغط، ولكنهم سيصلون إلى مرحلة يعجزون فيها عن ضخ المساعدات الهزيلة
لهم. وفي المقابل يقوم الضغط الدولي على تجويع كل لبنان، شعباً وحكاماً، لتنفيذ
مشروع ربما يغرس الضوء في آخر النفق المظلم.
ولكي لا يدفع
جميع اللبنانيين ثمن دفاع أمرائهم الحاكمين عن مصالح الدول الخارجية والوقوع ضحية
صراعاتهم، ويضيع مستقبل الأجيال القادمة سدى. وإذا كان هذا ما يساعدنا على رؤية
المشهد اللبناني الآن، نتوقف فقط لنقول
لأنصار أمراء السلطة أنهم سيصلون إلى الحائط المسدود، وهو مشهد تجويع لبنان
بالكامل، وما عليهم سوى إدارك المصير المفجع حيث لا تنفع فيه طائفة ولا أمير
لطائفة، ولا تنفع فيه مساعدة هزيلة من هنا، أو صندوقاً من المعونات من هناك. وليقف
الجميع صفاً واحداً، جنباً إلى جنب، مع الانتفاضة الشبابية الشعبية، من أجل تحطيم
أصنام الطائفية الذين وصلوا بهم وبلبنان إلى أنفاق مظلمة. وليعلموا أن أمراءهم
عبيد لدول خارجية، وما كان لعبد أن ينظر لمصلحة شعب يتوهم أنه سيده. وليتعظوا بما
قاله المتنبي لكافور الإخشيدي، الذي نشر الفساد في مصر، قائلاً:
لا تشتري العبد
إلاَّ والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيد
نامت نواطير
مصر عن ثعالبها فقد بشمن وما تفنى العناقيد
في أهداف
الانتفاضة البلسم الشافي:
كما وعى شباب
وشابات الانتفاضة مصالح كل أبناء الشعب اللبناني، بكل تشكيلاته وشرائحه
الاجتماعية، ومن شماله إلى جنوبه؛ آن للشعب المقهور أن يعرف بأن من يأتمر بأمر عبد
يحسب أنه سيد، لن يجني سوى المزيد من العبودية، وما يستتبعها من الركوع والجوع.
هذا وفي حال العكس فإن ثعالب السلطة ستحصد المزيد من عناقيد الشعب، ولن تشبع. بل ستأكل
الأخضر واليابس، ولن ينال الجماهير المقهورة والمقموعة والمستسلمة سوى الفتات الذي
يجود به أمراء السلطة وأزلامهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق