افتتاحية (طليعة لبنان الواحد) عدد آب 2010
الأمن العربي الداخلي الهش:
(لبنان أنموذجاً)
لماذا؟ وإلى متى؟ وهل من حل؟
كلما حاول اللبنانيون أن يتنفسوا الصعداء فإذا بالأمن الهش، كاتم الأنفاس، يطل برأسه كل مرَّة بذريعة ما، ولسبب ما.
تلك حالة أنموذجية تتكرر في الساحات العربية الملتهبة بنيران التفسخ الأهلي الداخلي، كما هو حاصل في دارفور السودان، واليمن السعيد، والجزائر الأخضر. ونحن نخشى استناداً إلى ما يتم توقعه استراتيجياً إذا ما بقي الحال على هذا المنوال أن تنتشر إلى أبعد فأبعد لتحول الأمن في ساحات عربية أخرى إلى ساحات أمنية هشة أيضاً.
أما لماذا؟ وكيف؟
انطلاقاً من ساحة لبنان، ومن الاشتباك الذي حصل في برج أبي حيدر أحد أحياء بيروت الغربية يمكننا الانطلاق في الاستنتاج والتحليل.
بالأمس القريب تبادل الأفرقاء، الذين شاركوا في أحداث السابع من أيار من العام 2008 والفتنة التي رافقتها ولفَّت لبنان من أقصاه إلى أقصاه، سيلاً من القبل، وأعلنوا أنهم لن يعيدوا الكرَّة مرة أخرى، وإذا بالقبلات تتبخر تحت وابل من رصاص تنظيمين في برج أبي حيدر. وزعمت قيادات من افتعلوا تلك الأحداث أن الأسباب فردية، واستبعدوا وجود أي سبب سياسي. بينما تناست أن أسباب الحريق الطائفي الذي أكل أخضر الطوائف ويابسها في جبل لبنان ما قبل المتصرفية نُسبت إلى خلاف طفلين. وكأنه كلما اختلف طفلان في طائفتين دينيتين يترتب على الطائفتين أن تدفعا آلاف القتلى.
إنها تعمية على الأسباب الحقيقية من دون شك، وما سبب سقوط قتلى في كل خلاف يدور بين عناصر (غير منضبطة)!! إلاَّ حالة الحقن والاحتقان التي تتحمل مسؤوليتها تلك القيادات، وليست حالة الحقن إلاَّ مزوَّدة بجراثيم طائفية تسبب اندلاع الحريق الطائفي كلما وجد ثغرة يتسلل منها.
لقد حاول الطرفان إيهامنا أن الأسباب مخفَّفة وكأنهما يريدان زرع الاطمئنان في نفوسنا، وهم تناسوا أو تغافلوا، كما تتغافل كل القوى التي تخزن الأسلحة الطائفية، عمن وفَّر كل تلك الأسلحة والذخائر ووضعتها في عهدة عناصرها، وهي مستعدة للظهور في كل زاوية أو للإطلالة برأسها من كل نافذة.
لكن على من يقوم كل طرف بالتمثيل على الأطراف الأخرى؟
تحول لبنان إلى ساحات ميليشياوية تحتل مواقعها في أحياء المدن والدساكر والقرى، وكل طرف يزعم أنه يمارس سلطته على مقدار حصته الطائفية التي حفظها له الوفاق والتوافق الطائفي، وأصبح لبنان عبارة عن مجموعة من الفيدراليات المقنَّعَة يقودها نظام سياسي فيدرالي للطوائف اللبنانية، بحيث تحتمي كل فيدرالية بأمن وحماية خارجية توفر لها الدعم السياسي والأمني والمالي.
ما يظهر في لبنان على السطح من مظاهر الفيدراليات الطائفية المقنَّعة إلاَّ الجزء اليسير مما يكمن في الباطن. وما يكمن في الباطن لهو أشد خطراً وأدهى.
أما لماذا يحصل ما حصل في برج أبي حيدر، وما قد يحصل في غيره، ففتش عن السبب في استراتيجية الشرق الأوسط الجديد. وإذا كنا نضع وزر ما يحصل في لبنان في رقبة ذلك المشروع المشبوه فلا يجوز إلاَّ أن نتساءل: وهل نحن لا نتحمل قسطاً من هذا الوزر؟
لا يمكن أن ينجح مشروع مشبوه أو معاد لنا إلاَّ إذا كان يلقى صدى في نصوصنا كما في نفوسنا. ولم يرسم الاستعمار الجديد خطوط هذا المشروع، ولم يحلم بإمكانية نجاحه، إلاَّ إذا توسَّم بأن بنيتنا الثقافية سهلة الاختراق لأنها سريعة الاستجابة لما يخططه لنا الاستعمار والصهيونية معاً.
وإذا كان الاستعمار قد حلم يوماً على لسان كوندوليزا رايس في عدوان تموز من العام 2006 أن الشرق الأوسط الجديد أوشك على الولادة، فلم تكن تحلم بأن عدواناً عسكرياً على لبنان يُعتبر شرطاً وحيداً وكافياً لتمريره بل إنها كانت تراهن على أن ما في نصوصنا وما في نفوسنا يمثل الشرط الآخر والأهم. وإذا كان اللبنانيون قد أحبطوا ذلك المشروع عندما وقفوا وقفة دفاع واحدة في تلك المرحلة، فإن ما ظل باطناً في النفوس لا يدل على أن المشروع سيحصد الفشل في كل مرَّة، أما السبب فهو أن شروط نجاحه في الوقت المناسب لا تزال ماثلة.
من أبرز تلك الشروط هو إصرار نخب لبنان وقياداته الطائفية على حماية نظام الطائفية السياسية أولاً، وإصرار على تكديس السلاح الطائفي ثانياً، وقبول المال السياسي الطائفي واستيراده من الخارج ثالثاً.
من كل ذلك، واستناداً إليه، فإن كل من يمارس لعبة المحافظة على تلك الشروط فهو ليس بريئاً من العمل على إنجاح مشروع الشرق الأوسط الجديد أكان ذلك مسنوداً بجهل أم بتجاهل لخطورة نتائجه. وبناء عليه فإن مراجعة ذاتية تقوم بها كل الأطراف الطائفية في لبنان لهو من أهم واجبات مواجهة مشروع الاستعمار والصهيونية في تفتيت بنيتنا الاجتماعية الوطنية.
ولكن ما هو الحل في تقديرنا؟
ولأن الأمن الهش في لبنان، الفالت بالقوة، هو أمن سياسي طائفي محمي بإرادة نخبه وقواه وتنظيماته، تنتهي الحالة الشاذة إذا ما اتخذت تلك القوى قرارها بإنهائه. وهو قرار ليس من الصعب اتخاذه وتطبيقه. والدليل على ذلك، التجربة التي حصلت في برج أبي حيدر بالذات.
أما تلك التجربة الأنموذجية فهي عندما اتخذت القوى المعنية قراراً سياسياً بالاعتراف بدور الجيش اللبناني في إنهاء الإشكال والسيطرة على منطقة الاشتباكات، وهو فعلاً دوره ومهمته وليس دور ومهمة أي طرف آخر، استطاع الجيش بقوة تحصينه بهذا القرار أن يسيطر على منطقة الاشتباك وإنهاء الاقتتال.
فهل يتنازل الجميع عن حماياتهم الذاتية، بقرار وسلاح ومال طائفي، إلى جيش وقوى أمن يمثلون كل لبنان، وإنهاء حالة الأمن بالتراضي الذي لن يكون إلاَّ هشاً دائماً، والاعتراف للجيش بدوره الذي شُكِّل من أجله، ليوفِّر للبنانيين حماية أمنية وطنية، وستكون عقيدته الوطنية عاملاً لثبات الأمن وشموليته، وذلك بتوفير الحماية لكل لبنان، من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه؟
هذا عن لبنان، أما ماذا عن الساحات العربية الأخرى؟
ولأن الحفر في ثقافة الشعب العربي لتغيير اتجاهاته الوحدوية بأمركتها وصهينتها باتجاه التفتيت والتقسيم هو من وسائل عمل الاستعمار على المدى الطويل، فإن إبقاء السلم الأهلي هشاً في الساحات العربية الساخنة الآن فلأن الهشاشة والسخونة تثيران القلق الدائم في نفوس أبناء تلك الأقطار وتعمِّقان مخاوفها، والنفس الخائفة على المدى الطويل ستختار أي حل آخر يحميها من القلق الدائم، حتى ولو كان الحل على حساب وحدة المجتمع والدولة. ولذلك ستبقى الحالة الأمنية الملتهبة في لبنان وفي غيره من الأقطار العربية، مستمرة حتى ولو متقطعة أو على نار هادئة، حتى يصبح التقسيم مطلباً فعلياً عند الجماهير العربية في تلك الأقطار ويصبح جزءاً من ثقافتها، وهي ستختاره وإن مرغمة، هرباً من حالات الهلع الدائم التي تعيشها من جراء قسوة لهيب الحروب الأهلية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق