سلاح من دون جيش لجيش من دون
سلاح
ودولة من دون حكومة وطنية لحكومة
وطنية من دون دولة
بعد أن حلَّ بول بريمر، الحاكم الأميركي
الأول للعراق بعد الاحتلال، الجيش العراقي الوطني، قام بخطوته من أجل أن لا يبقى
في العراق جيش ذو عقيدة وطنية. وأما السبب فلأن كل جيش وطني في العالم لن يرضى على
نفسه أن يكون مؤتمِراً بأوامر من احتلَّ أرضه الوطنية.
ولكي يملأ الفراغ الأمني في العراق المحتل،
فقد قرر تشكيل أجهزة عسكرية وأمنية خالية من أي عقيدة وطنية، بل عقيدتها طائفية
ومذهبية تدين بالولاء لزمرة من القادة الملوثين بكل الصفات القبيحة ما عدا
امتلاكها صفة الوطنية. ولهذا شكلت تلك الأجهزة القاعدة الأساسية الموكل إليها
حماية الاحتلال وعملائه. وبعد أن هرب بول بريمر الذي أمر بإنشاء جيش ذي عقيدة إمبراطورية
أميركية وطائفية تفتيتية يحمي مصالح أميركا، حلَّ مكانه قاسم سليماني ليقود جيشاً
ذا عقيدة طائفية ومذهبية تعادي كل العقائد الوطنية لكي يحمي مصالح الإمبراطورية
الفارسية. وبهذا لا يمكن أن يكون ما يُسمى بـ(الجيش الحكومي) جيشاً، بل هو تشكيلات
ميليشياوية. وإذا كان بول بريمر قد ساءت سمعته وراح يلوذ بالسلامة بعد انهيار
الاحتلال الأميركي، فإن قاسم سليماني لم يتَّعظ، بل راح نظامه في إيران يكابر
مراهناً على جيش ميليشياوي توهَّم أنه سيرد الغائلات عن نظام (ولاية الفقيه).
ولعلَّه يفيء إلى أمره، ونحسب أن لن يفيء، إذا أخبره بريمر الخبر اليقين عما فعلته
المقاومة الوطنية العراقية بقوات حليفه (الشيطان الأكبر).
وأما الخطوة الثانية التي قام بها بول
بريمر، فهي تشكيله لما كان يُسمَّى بـ(المجلس الانتقالي)، على أن يكون بريمر نفسه
رئيساً فعلياً لهذا المجلس. وأما أعضاؤه فتمَّ استقدامهم من الشتات المخابراتي بأغلال
أميركية وإيرانية ليحكموا الشعب العراقي بقوة أسيادهم وبأسهم. ومثَّل هؤلاء
الأعضاء كل الصفات القبيحة باستثناء صفات الشرف والوطنية. وبعد أن هرب بول بريمر،
بما يمثِّل، وترك رئاسة المجلس الشكلية لشلَّة من العملاء التي سُمِّيت (حكومات العملية
السياسية)، حلَّ مكانه قاسم سليماني حاكماً جديداً للعراق، متوهماً بأنه سيحقق بأحلامه
(الإلهية) ما فشل فيه سلفه بأحلامه (المسيحية اليمينية المتطرفة)؟. وهل سيجني
الخلف أكثر مما جناه السلف؟
واستناداً لتشكيل هذا الثنائي المتجانس:
مجلس سياسي عراقي الشكل خياني الهوى، ومؤسسات أمنية ميليشياوية العقيدة، يفتقدان
صفة الوطنية، استرخى الاحتلال الأميركي الأصيل بعد هروب جنوده، ومن بعده الاحتلال
الإيراني البديل، ونام مرتاحاً إلى أن العراق أصبح ملك يديه.
ولكن الصانع الأميركي لهذا الثنائي، ووارثه
الإيراني، تغافلا عن أن الطائفية والميليشياوية لن تكونا بديلاً للوطنية بكل
المقاييس مهما طال الزمن. ومن هنا كانت مفاجأتهما عما حصل بعد نهاية العام 2013،
ومطلع العام 2014. وكانت مفاجأتهما الكبرى في ثورة مدينة الموصل في التاسع من حزيران،
وما تلاها من أحداث متسارعة. وكانت المفجأة أن الثورة العراقية أسقطت مؤسساتهما
العسكرية تباعاً، فراحت آمالهما تتهاوى معها. وراح كل منهما يلقي المسؤولية على
الآخر، لكنهما لم يعترفا بالحقيقة العلمية التي تقول: بأن الثورة تمتلك جيشاً
عقائدياً حتى ولو كان مجرداً من السلاح، ستنتصر على الميليشيات التي تفتقد العقيدة
الوطنية حتى ولو امتلكت أفضل أنواع الأسلحة.
وإلى ما قبل تلك المرحلة، أي مرحلة
الاسترخاء الأميركي، وخاصة الإيراني، قبعت المقاومة في المقلب الآخر الذي لم يكن
منظوراً، وكانت تُعدُّ خطط إعادة العراق إلى حضن الوطنية. في ذلك المقلب كان
العراقيون من سياسيين وعسكريين، من القابضين على جمر القضية الوطنية، ينشدون
الخلاص من كل من تلوثت أيديهم بدماء الجرائم التي تكاد لا تُحصى، ومنها جريمة
الخيانة الوطنية.
ذلك الجانب، لم يُعرهُ الجناة الطائفيون
الخونة وأسيادهم اهتماماً، لأنه لا يمتلك القوة العسكرية كما يحسبون. بينما كانت
الثورة تخطط لحيازة أسباب القوة ووسائلها فجاءها المدد بعد ثورة الموصل من مخازن
مؤسسات (الكيان الهش) الأمنية التي انهارت من دون قتال. واستكملت الثورة فعلها واستولت
على السلاح الكثير من مخازن القواعد العسكرية الأخرى التي لاذ عسكريوها
الميليشياويون بالهريبة طالبين السلامة. وهكذا راحت قواعد الميليشيات العسكرية تتهاوى
كأحجار الشطرنج، فاستولت الثورة على السلاح بكميات كبيرة. وبذلك أمطرت أغلال المخازن
الحكومية العسكرية وانتقلت بسرعة كبيرة إلى مخازن الثورة، فامتلأت بأكداس هائلة من
السلاح والعتاد.
لقد تهاوت تلك المؤسسات لسبب مهم أنها ليست
مؤسسات ذات عقيدة وطنية، بل تنخرها العقائد الطائفية. وكيف يمكن الاطمئنان لمؤسسات
عراقية يقودها قاسم سليماني، الإيراني الموبوء بالطائفية؟
وما يشاع من أوساط الثورة العراقية، هو أن
الثورة التي اجتاحت بلهيبها أكثر من نصف مساحة العراق بأقل من أسبوعين، ما تزال
تعالج بعض البؤر العسكرية التي لم تنهار حتى الآن، إنما استمرت بفعل مدد إيراني،
ومن المقاتلين الإيرانيين الذين أخذت طلائع قتلاهم تصل إلى طهران، وكذلك من بقايا
بعض العراقيين ممن لوَّثوا عقولهم بأكذوبة الدفاع عن المذهب.
وإذا كان الجندي العراقي في الميليشيات
الحكومية بلا قضية يقاتل من أجلها، فإنه لن يبقى للجندي الإيراني الذي يقاتل في
العراق قضية يقاتل من أجلها أيضاً. وطالما أن من يقاتل من أجل أوهام لا تعترف بها
مصارف المنطق الوطني، فلا يمكن أن يشكل جيشاً له القدرة على الاحتفاظ بسلاحه؛
فالسلاح الذي بين أيديهم إذن ليس (سلاحاً لجيش). ولأن أعمدة الثورة العراقية العسكريين
هم من خريجي الجيش الوطني الذي حلَّه بول بريمر، ولأن السلاح الذي حصلوا عليه من
مخازن المؤسسات العسكرية الطائفية هو (سلاح بدون جيش) يحافظ عليه، يمكننا القول
بأنه راح يملأ مخازن جيش الثورة العقائدي الذي كان حتى الأمس القريب بلا سلاح، وإن
وُجد، على قلته، كان سلاحاً قوياً بقوة عقيدة حامليه الوطنية.
أما الآن فقد عاد السلاح لأبنائه الذين
يحافظون عليه كما يحافظون على شرفهم الوطني، لقد عاد السلاح لجيش من دون سلاح. عاد
السلاح الذي هو بدون جيش إلى الجيش البدون سلاح. وتلك هي البداية الحقيقية التي ستعيد
الدولة العراقية إلى أحضان حكومة وطنية بعد أن ظلَّت أحد عشر عاماً من دون حكومة.
ستعود الدولة العراقية إلى رجالها الأوفياء بعد أن يهرب منها أشباه الرجال، وما هم
برجال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق