دراسة عن الحراك الشعبي العربي
وقائع ونتائج ودروس
الحلقة الثانية (2/9 )
أولاً:
نظرة تاريخية إلى تسلسل انطلاقة الانتفاضات العربية
لعلَّه في إعادة ترتيب أحجار الفسيفساء لتركيب
صورة أقرب للنظر إليها بوضوح، كان لا بُدَّ من تأصيلها تاريخياً. وترتيب سياقاتها كما
حصلت بالفعل، وهذا قد يسمح لنا بتحليلها بأكثر ما يمكن من الموضوعية والوضوح،
وبأقل ما يمكن من الذاتية. وهذا يقتضي شرط حيادية الباحث بعيداً عن الأفكار
المسبقة، والمواقف السياسية تجاه هذا النظام أو ذاك. وهذا ما حصل تاريخياً كما
أكده أرشيف الأحداث.
1-تونس:17 كانون الأول
2010، بداية انتفاضة تونس، ومغادرة الرئيس زين الدين بن علي إلى السعودية في 14
كانون الثاني من العام 2011. وكان البديل، وفي مسرحية انتخاب شعبي، وصول حركات
الإسلام السياسي، بتحالف مع من بقي من إرث النظام السابق، إلى سدة الحكم في تونس.
2-مصر: 25 كانون الثاني 2011، بداية
انتفاضة مصر، وتنحي الرئيس حسني مبارك عن الحكم في 11 شباط من العام نفسه. وفي
مسرحية انتخاب شعبي أخرى مماثلة لما حصل في تونس، فقد وصل الإخوان المسلمون إلى
استلام الحكم في مصر.
3-اليمن: 11 شباط بداية الانتفاضة في
اليمن. وبتاريخ 23 تشرين الثاني 2011 سلَّم الرئيس علي عبد الله صالح السلطة إلى
نائبه عبد ربه منصور هادي. وكان سقف التغيير الذي حصل لا يتجاوز تبادل السلطة بين
أبناء العقيدة النظامية الواحدة. وللخلاف على مراكز القوى في النظام الجديد – القديم،
فقد دبَّ الخلاف بين تلك الأجنحة، ليستقوى كل منهما بقوى من داخل اليمن، فوقع علي
عبد الله صالح في فخ التنسيق مع الحركة الحوثية التي لو بقيت على اتجاهاتها
الوطنية ووقفت عند حدود حقوقها بالحكم لهان الأمر، ولكن انجرافها في التحالف مع
إيران هو الذي أدى إلى استفحال الأزمة مع دول الخليج العربي. ومنذ حصول هذا
التحول، انتقل الصراع في اليمن من ضفة المطالبة بحقوق الجماهير إلى ضفة الصراع
العربي –
الإيراني.
4-ليبيا: 17 شباط 2011، بداية انتفاضة
ليبيا انطلاقاً من مدينة بنغازي، وتشكيل (المجلس الوطني الانتقالي) في 5 آذار من
العام 2011. وصدور قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1973، بتاريخ 17 آذار 2011، بطلب
من فرنسا وبريطانيا وأميركا ولبنان. وامتناع الصين وروسيا وألمانيا والهند
والبرازيل عن التصويت. ونفذت فرنسا وبريطانيا وأميركا أول الطلعات الجوية بتاريخ
19 آذار من العام 2011. وحينذاك دعت هيلاري كلينتون، وزيرة خارجية أميركا، إلى قتل
القذافي أو أسره. وانتهى الصراع بقتل الرئيس معمر القذافي في 23 تشرين الأول 2011.
ومنذ ذلك التاريخ حتى الآن غرقت ليبيا في بحر من الدماء والصراعات المتواصلة على
قواعد جهوية وعشائرية، وبالتالي إدخال الحركات التكفيرية لتبقى ذريعة للتدخل
الأجنبي. وجُلَّ ما فعلته دول الأطلسي هي أنها استولت على البترول الليبي، وحلَّت
الجيش وأفرغت مخازنه في مخازن الميليشيات أو صدرته مدفوع الثمن إلى مناطق التوتر
في الوطن العربي. وجُلَّ ما أسعفت فيه ليبيا هو تكليف مندوب للأمم المتحدة لا دور
له إلآَ إدارة الأزمة مع التلويح ببوادر حل لن يأتي.
5-سورية: 9 آذار 2011، بداية
الانتفاضة في سورية انطلاقاً من مدينة درعا، وبعد قمعها بقسوة، انتشرت في معظم
المحافظات السورية، وبلغت أعلى مستوياتها في نيسان من العام 2011، حيث تم تشكيل
(المجلس الأعلى للثورة السورية). وفي 4 تشرين الأول من العام نفسه جرت أولى
المحاولات باستصدار قرار عن مجلس الأمن الدولي بفرض عقوبات على النظام السوري على
أن يتضمن اعتماد تدابير شبيهة بالتدابير التي نص عليها القرار الرقم 1973 المتعلق
بليبيا، أي أن تكون مستندة إلى المادة 41 من الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
وقد استخدمت روسيا والصين حق الفيتو الذي حال دون الموافقة على مشروع القرار. وقد
صرَّح المندوب الروسي حينذاك بأن الوضع في سورية لا يمكن ان يدرس في المجلس بمعزل
عن التجربة الليبية. ومن بعده عقَّب بوتين، الرئيس الروسي، على ذلك قائلاً: لقد
خدعنا في ليبيا ولن نخدع مرة أخرى في سورية.
منذ ذلك التاريخ، تعقَّد الوضع السوري أكثر
فأكثر من كثرة المتدخلين في شأن سورية الداخلي، وتكاثر أعداد المتقاتلين، الذين
زادهم بِلَّة استيراد الآلاف من التكفيريين من شتى دول العالم لتتحول الساحة
السورية بهم إلى حروب طائفية. وبذلك لم تكسب الانتفاضة السورية شيئاً بالمطالبة بإسقاط
النظام، ولكنها خسرت الحجر والشجر والبشر، كما فقد السوريون الحد الأدنى من كفاف
عيشهم، وتحولوا إلى ملايين اللاجئين على أبواب المخيمات في الداخل السوري، وفي
جواره، وفي مآوي الحجز في البلاد الأجنبية. وقزَّموا القضية السورية بمتاهة إسقاط
النظام وكأن المشكلة السورية أصبحت مع من هو مع بقاء الأسد، ومن هو مع إسقاطه.
6-السودان: كانت مثالاً
للانتفاضة الشعبية النظيفة، فبرامجها واضحة، وقيادتها مع قواعدها تعمل على تصويب
مساراتها. وتضم إلى صفوفها مجموعة من الأحزاب الوطنية التي تحمل هم الجماهير
الشعبية وتضحي من أجلها. وهي أخيراً رفضت العسكرة على الإطلاق، كما أنها لا تعي
خطورة الاستعانة بالخارج فحسب، بل هي ترفضه رفضاً مبدئياً قاطعاً. هذا ناهيك عن أن
الحزب يشكل ثقلاً نوعياً فيها، قيادة وقواعد، الأمر الذي حفظها من الانزلاق نحو
الفوضى، والوقوع في أفخاخ الانتهازيين والخارج.
8-فلسطين والعراق: لم ندخلهما بين
تصنيف الانتفاضات لأنهما تمثلان معركة تحرير وطني، لا تنطبق مقاييسهما ومكاييلهما
على ما عداهما من الانتفاضات الشعبية العربية. ولكن الحراك الشعبي الذي قادته
المقاومة العراقية منذ العام 2014، كان يندرج في دائرة إسقاط (العملية السياسية)
التي تعتبر الذراع الداخلي للاحتلال الخارجي. وكانت لها منطلقاتها وقيادتها ووسائل
تنفيذها. وهي جديرة بالاهتمام في دراسة منفصلة.
ملاحظات وأسئلة:
من قراءتنا التاريخية للانتفاضات العربية نجد
أن هناك عدداً من الظواهر التي تثير التساؤلات وتتطلب التحليل الذي يفيد في مرحلة
تقييمها، ومن تلك الأسئلة نشير إلى التالية:
1-من كان يقف وراء الانتفاصات؟ لم تفصل بين الانتفاضة الواحدة والأخرى
أسابيع قليلة. خمس انتفاضات ابتدأت الأولى في تونس في 17 كانون الأول 2010،
وابتدأت الأخيرة في سورية بتاريخ 9 آذار، أي خمس انتفاضات انطلقت في أقل من ثلاثة
أشهر في خمسة أقطار عربية. وهذا يعتبر زمن أكثر بكثير من الزمن القياسي على مستوى
الإعداد في القطر الواحد فكيف لو كان ذلك على المستوى القومي؟ ولأن الإعداد لن يتم
بعصا سحرية فإننا نلجأ ألى تفسيرها حسب الاحتمالات التالية:
-عفوية الجماهير: وهذه تُبنى على
قاعدة العدوى النفسية أو الاجتماعية بحيث يتأثر الإنسان بإنسان آخر إذا تعرَّضا
إلى ضغط واحد. وأيضاً لا يستطيع مبدأ (عفوية الجماهير) أن يقوم بالتخطيط بأكثر من
أن تأثير تلك العفوية يولِّد سرعة الاستجابة لردود الفعل.
-الحركة الحزبية الثورية: وهذا
احتمال ضعيف في أن تكون القوى الوطنية هي الرأس المدبِّر، فهي عاجزة ليس عن
التخطيط فحسب، بل صعيد بعدها عن الجماهير المنتفضة أيضاً. وأما السبب فيعود إلى
عامل ذاتي، وعامل خارجي، فأما الذاتي فلأن أثبتت أنها لم تسع إلى تطوير نفسها
والتجديد في وسائلها. وأما الخارجي فيعود إلى حالة الإنهاك التي مارستها الأنظمة
الديكتاتورية إذ لم تبق من الأحزاب والقوى الوطنية من يقوى على الوقوف على عكاز،
فكانت القطيعة بين الجماهير والأحزب واقعاً سائداً في كل الساحات التي انطلقت فيها
انتفاضة.
وإذا كان محرك الجماهير لا هذا ولا ذاك، فمن المخطط إذن؟ وعن ذلك نضع الاحتمالات التالية:
-القوى الخارجية هي المخطط والمحرك: كانت بداية الانتفاضات الخمسة قد انطلقت في كل
من تونس ومصر، وإن كانت ردود الفعل الأولى للمحللين لم تضع (نظرية المؤامرة) كعامل
من عوامل التحليل فلأن توقيت انطلاقة الانتفاضة ضد نظامين ملتحقين كلياً بأميركا،
كان يوحي وكأن الفعل كان داخلياً، ولا علاقة له بأي عامل خارجي، وخاصة بعامل التحالف
الأميركي –
الصهيوني. ولكن عندما ابتدأت انتفاضة ليبيا أخذت بعض خيوط التدخل الخارجي تنكشف
واحد تلو الآخر.
2-أثار تشكيل مجالس وطنية في وقت وجيز في كل من ليبيا وسورية،
استغراباً. ففي أقل من ثلاثة أسابيع كانت عشرات الشخصيات جاهزة لتشكيل مجالس وطنية
فيهما، وهذا ما يثير التساؤل عما إذا كانت هناك قوى كانت قد أعدَّت لوائح مسبقة
بتلك الشخصيات؟ ومن هي تلك القوى؟ وكيف حصلت طريقة تسميتها بسرعة واستدعائها
بسرعة؟ والتئام شملها بسرعة أيضاً؟
لم تبرز أسماء لها الوزن الوطني أو القومي في
تشكيلات (المجالس الوطنية) في كل من انتفاضة ليبيا أو سورية باستثناءات قليلة
جداً. ومن المثير للانتباه أن الأسماء التي ترافقت مع بداية الانتفاضات قد غابت عن
المسرح لاحقاً. فهل كانت تلك الأسماء زاهدة بالحكم، ارتضت لنفسها بأن تؤدي دوراً
إنسانياً كان يكفيها منه أن تفجر الانتفاضات لتعود إلى خلفية المسرح؟ أم أن
أدوارها كانت مرسومة، أُمرت بتمثيلها، وأُمرت أن تنكفئ عن المسرح فانكفأت؟
3-ارتفاع شعار واحد في كل الساحات، على مستوى القطر الواحد، وعلى مستوى
الساحات القطرية الخمسة. فكان الشعار اليتيم (الشعب يريد إسقاط النظام)، ويتضمن
الشعار استهداف الأنظمة الديكتاتورية. ولأننا لا نشك بمصداقية الحكم عليها، بل هو
يشكل الحد الأدنى من لوائح الاتهام ضد الأنظمة الرسمية. ولكن ما يثير الانتباه
كانت الازدواجية في استخدام المكاييل لأن الأنظمة الخمسة لم تكن وحدها رمزاً
للديكتاتورية. بل هناك الكثير غيرها، إن لم تكن كلها. فالتساؤل المشروع عن استخدام
أسلوب الكيل بمكيالين لحالات متشابهة: فلماذا اقتصر الإسقاط عليها من دون غيرها؟
وإذا كنا سنلقي الضوء على خصوصيات تطور الأوضاع في كل من تونس ومصر، فلا بُدَّ هنا
من أن نضع فرضية لتفسير حصر الانتفاضات، وحصر حكم الإسقاط بالأنظمة الخمسة، وهذه
الفرضية تتعلق بطبيعة العقيدة العسكرية لجيوشها من جهة، ومصدر تسليحها الشرقي من
جهة أخرى؟
4-لم ترتفع أي شعارات في كل الانتفاضات ما يؤكد تقدميتها وقوميتها وحتى
وطنيتها، خاصة في كل ما له علاقة بمبدأ التحرر من الاستعمار والصهيونية، ولا ظهر
حتى شعار واحد تأييداً للقضايا العربية الساخنة كالمقاومة الفلسطينية والعراقية
واللبنانية. بل استقطبت تعاطفاً غربياً شاملاً يثير الاستغراب وصل إلى حدود مجلس
الأمن الدولي الذي أخذ يدرس مشروعاً تلو المشروع تحت ذريعة حماية المدنيين. هذا
ناهيك عن ظهور صور هنري برنار ليفي، الذي أطلق عليه اسم مهندس (ثورات الربيع
العربي) في شوارع بعض الساحات المنتفضة، وفي مواقف فاضحة مع بعض أعضاء (المجالس
الوطنية) في ليبيا وسورية.
5-السرعة باتخاذ قرار التنحي عن السلطة الذي اتخذه الرئيسان بن علي،
ومبارك، في غضون أقل من شهر من انطلاقة الانتفاضة. وما هو السر من وراء تلك
السرعة؟ وهذا مخالف لما بدر من الرئيسين الليبي والسوري، فالأول قتل، والثاني ما
يزال مصرَّاً على البقاء في موقعه حتى الآن.
6-كان الشيء الوحيد الذي لم يثر التساؤل والشك، بل كان مثيراً لعلامات
الإكبار والإعجاب هو امتلاء الشوارع والساحات بالجماهير المندفعة بالنزول إلى الشارع
بزخم وقوة واستعداد لتقديم التضحيات مهما غلت. وكانت السيول الجماهيرية طبيعية إذ
كانت تعبِّر عن ضخامة حالة تراكم الغضب من أنظمتها الرسمية والحقد عليها.
ونحن، وإذا ابتدأنا من الفقرة الأخيرة بمحاولة
للإجابة عن التساؤلات ومحاولات الكشف عن الألغاز المحيطة بالانتفاضات العربية،
لكان الجواب عليه بغاية من اليسر والبساطة. وذلك عائد إلى قاعدة مادية تقول: إن
البركان ينفجر حمماً بعد أن تبلغ درجة الحرارة في باطن الأرض مستوى تصل إلى درجة
الغليان. وعلى الصعيد الاجتماعي يحصل الانفجار البشري عندما تبلغ درجة الظلم مستوى
لا يمكن للمجتمع أن يتحملها. ويحصل الانفجار النفسي عندما يبلغ مستوى الاحتقان
درجة قصوى من القهر والعذاب.
ولأن المعادلة التي يكون طرفاها ثنائية (الحاكم
والشعب)، والتي تمثل فيها الأنظمة الرسمية العربية طرفاً يتميز بالديكتاتورية
والظلم والقمع، والتي يمثل فيها الشعب الطرف المتلقي الذي وإن لم ينفجر مرة واحدة
منذ عشرات السنين، إلاَّ أن حالة الاحتقان كانت في حركة دائمة. وما انفجار الشارع
العربي سوى نتيجة طبيعية لحالة الاحتقان التاريخية تراكمت وظلَّت كامنة إلى الوقت
المناسب، وما انتشار الانتفاضات الشعبية بتلك الكثافة والسرعة، بغض النظر عن
محركها، سوى استجابة طبيعية لردة الفعل الكبيرة والغاضبة ضد الأنظمة. ولن يفسر تشابه
ردات الفعل الشعبية في خمسة أقطار عربية سوى وحدة المعاناة الشعبية. ولكن الجماهير
الشعبية في أقطار أخرى ليست بعيدة عن أسباب المعاناة ذاتها، وعلى الرغم من وجود
عوامل مشابهة فلم تتأثر تلك الأقطار بما جرى، ولم تصدر عنها ردود فعل الحد الأدنى.
ولكي نغطي هذا الجانب، فلسنا بحاجة لتكرار ما
قامت بتوصيفه عشرات الآلاف من التقارير والدراسات عن سوء النظام العربي الرسمي،
وسوء السلوك الذي تنتهجه الطبقات الاقتصادية المترفة حيال الأكثرية الساحقة من
المجتمع العربي. ونحن بغنى في هذه الدراسة عن إعادة التكرار لأن عقيدة حزبنا، منذ
تأسيسه قائمة على قاعدة رفض النظم السياسية والاقتصادية التي لا تجعل بوصلتها
متجهة نحو القطب الشعبي العربي ومصالحه وحقوقه.
وإذا كنا نستند في جزء من تحليلنا لما حصل
والإشارة إلى اتهام الخارج بالتدخل في مجرى الانتفاضات الشعبية، إن لم يكن
بالتخطيط له، وهو صحيح في جزء منه، فإن استنادنا مبني على أن الخارج من أجل دخوله
إلى مخادع مجتمعنا العربي فإنما يستغل معرفته بأمراضنا، ويجعلها تستفحل أكثر
ليستفيد منها في الوقت الذي يحدده لتغيير أنظمة حليفة أو ممانعة أو رافضة، أو
تنفيذ مشروع يعمل على تفتيت الوطن العربي. وإذا كانت الطائفية مرضنا الأكبر الذي
يستفيد منه لتعميق عوامل التجزئة والتفتيت، وتغذية الصراعات إنما ليلهينا بصراعات
لا تنتهي، وهذا ما يجعله هادئ البال في سرقة ثرواتنا، وتحويلنا إلى مستهلكين
لإنتاج مصانعه. وبطريقة مشابهة، ولكي يغرقنا بفوضى وعدم استقرار أمني، فإنه يعرف
مدى الهوة بين الحكام والشعب، ومن أجل تنمية عوامل الفوضى الخلاقة في هذه المرحلة،
لا يمكننا أن نهمل دور القوى الخارجية في انتهاز عامل تنامي النقمة الشعبية، وتوق
الشعب العربي للحرية، فلقد استغلَّ أمراضنا في الطائفية، وأخطاء الأنظمة الرسمية
في القمع والتجويع، من أجل إسقاط الأنظمة الرسمية التي لا تستجيب لكل إملاءاته،
وتنفيذ مخططاته.
وإذا كنا نؤكد أن الانتفاضات الشعبية العربية،
في كل مكان انطلقت فيه، إنما كانت صادقة في حركتها، وهادفة إلى إسقاط الأنظمة
الرسمية، وتغييرها بأنظمة تستجيب لمصالح الجماهير. ولكن الزمن أثبت أنها انطلقت من
دون ربان فكري ودليل عملي لتحصينها ضد المستغلين، وحاجتها إلى قيادة تعمل من أجل
مصلحة الجماهير، فهذا لا يضيرنا من القول بأن الانتفاضات الشعبية التي حصلت بأنها
تفتقد إلى شروط الحد الأدنى للثورة التي تضمن نجاحها، ولذلك وقعت فريسة للمستغلين
من الذين يركبون موجاتها لتوجيهها باتجاه تصب لمصلحتها من جهة، وبالضد من مصلحة
الشعب من جهة أخرى.
وإنه لما كانت الأحزاب الجماهيرية غائبة عن
الشارع، وعن العلاقة مع الجماهير الشعبية، فليس من المستبعد أن يملأ هذا الفراغ كل
طارئ ومستغل ومتآمر.
وإذ نكتفي بهذه المقدمة الوجيزة فلعلمنا أن
هناك الكثير من الإثباتات التي تبرهن صحتها وتبرهن على مصداقية الحراك الجماهيري،
كما تبرهن على أن الأنظمة العربية الرسمية، سواء منها تلك التي تزلزلت الأرض تحت
أقدامها، أم تلك التي لم تهب رياح الجماهير باتجاه إسقاطها، فلنعد إلى التساؤل
التالي: أين تقع الانتفاضات الشعبية العربية من هذه المقاييس بعد فترة مراقبة فاقت
السنوات الست حتى الآن؟ وخاصة أن المرحلة السابقة كشفت اللثام عن الكثير من
الظواهر والحقائق التي تساعد على التحليل بموضوعية.
وإذا كانت النتائج حتى الآن بلغت درجة كبيرة من
المأساوية التي دمَّرت الحجر والشجر، وفتَّتت النسيج الاجتماعي العربي، فأصبح
القاتل عربياً والمقتول عربياً أيضاً، بينما الخارج يموِّل المتحاربين بالسلاح
والأموال المنقولة واستيراد المجموعات من الخارج المدربة على القتال وصبِّ الوقود
لتغذية الاقتتال الداخلي. كل ذلك يوجب البحث عن العوامل التي أدَّت إلى حرف
الانتفاضات عن غاياتها النبيلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق