إستقلال السلطة القضائية
بداية أساسية لطرد شياطين الفساد من الهيكل
لقد فصل
الدستور اللبناني، والتشريعات الملحقة به، بين سلطات ثلاث: السلطة التشريعية
الممثَّلة بمجلس النواب، والسلطة التنفيذية الممثلة بمجلس الوزراء، والسلطة القضائية
الممثلة بمجلس القضاء الأعلى. وكان هذا الفصل من أجل فرض سلسلة من سلاسل الرقابة
من أجل منع تسلل الفساد إلى أي منها. وتلك تشريعات نابعة من تجارب طويلة في تاريخ
البشرية. وإذا اختلَّ التوازن بين السلطات الثلاث، يتسلل منه الخلل الذي يؤدي إلى
كل أنواع الفساد.
أمراء
الطوائف يصادرون قرار الشعب وقرار نواب الشعب:
ففي لبنان،
اختلَّ التوازن بالفعل، إذ فتحت المجالس النيابية الأبواب مشرعة أمام كل أنواع
الخلل. وكانت مصدراً لكل أنواع التحريف والتزوير، لأنها تخلَّت عن دورها في
التشريع والمراقبة، وكان من أخطرها أن المجلس تنازل عن دوره لمصلحة بضع من أمراء
الطوائف، وذلك بعد أن تنازل الشعب عن سلطة اختياره نواباً صالحين لتمثيله. فما
بالك إذا كان الشعب لقاء حفنة من المال، أو لقاء حفنة من التضليل، قد سلَّم رقبة
لبنان لمقصلة الأمراء الذين كل همهم أن بضمنوا مصالحهم الخاصة، طالما أنهم صادروا
قرار الشعب وقرار النواب. وبهذا الواقع المؤسف والمعادي لكل أنواع الحقوق، صادر
أمراء الطوائف السلطة التنفيذية.
أمراء
الطوائف يصادرون قرار السلطة التنفيذية:
كانت علة العلل
في أن السلطة التنفيذية، التي من الواجب دستورياً أن تخضع لرقابة سلطة مجلس
النواب، هو أن أمراء الطوائف تقاسموها حصصاً، وجمعوا بين الوزارة والنيابة، فتحولت
القاعدة الديموقراطية إلى دمج السلطتين معاً، فأصبح النائب وزيراً، أي أن دور
النائب جمع بين بين التنفيذ والمراقبة، فأصبح هو من يراقب نفسه. وبدأت معه سلسلة
من الفساد طويلة وطويلة جداً، وليس هناك من حسيب ولا رقيب. فهل يمكن للفاسد أن
يرافب نفسه، وإذا راقبها فسوف يغطيها بتشريعات تُبعد الشبهة عنه. فأصبح المجلس
النيابي في لبنان، كما قال المثل: (حاميها حراميها). فغرق النواب وغرق أمراؤهم
بسلسلة طويلة بالفساد المغطَّى بسقوف قانونية.
أمراء
الطوائف يصادرون قرار السلطة القضائية:
ولأن عدد
النواب خضع لمنهج المحاصصة، وعدد الوزراء وتسميتهم خضع أيضاً لمنهج المحاصصة، وعدد
أعضاء السلك القضائي خضع أيضاً وأيضاً للمنهج ذاته. تحول السلك القضائي الواجب أن
يحاكم الفاسدين والخارجين على القانون، إلى طبقة تنفٍّذ أوامر من عيَّن أفرادها،
غابت العدالة وسقطت سلطة القضاء بين أيدي أمراء الطوائف.
أمراء
الطوائف يُسقطون الدولة ويرتهنون قرارها:
وإذا كان من
الواجب أن يبدأ الإصلاح هذه المرة تحت ضغط الشعب المنتفض، فيجب أن يبدأ بشكل معكوس
على أن يبدأ الإصلاح انطلاقاً من السلطة القضائية. وهذا الإصلاح يُوجب بداية، وقبل
أي شيء آخر، إدراك ما يلي:
من بعض
التقاليد الدينية أن يفتتح القارئ تلاوة القرآن الكريم بالقول: (أعوذ بالله من
الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم). وفيها دلالة على أن طرد الشياطين شرط
لازم يسبق النطق باسم الله. وهذا حال
الوضع في لبنان الذي يحتِّم طرد الشياطين أولاً، لأنهم عاثو فساداً في كل زاوية من
زواياه، وفي كل بقعة من بقاع مؤسساته الرسمية. وكذلك المؤسسات المالية المتحالفة
مع شياطين الهدر والسرقة والنهب، وهؤلاء هم ممن تعاقبوا على السلطة منذ أكثر من عشرين
سنة.
ولما أيقن
شياطين مختلف الإمارات الطائفية، قدرتهم على أن يعاندوا سنن الله في العدالة
ونظافة الكف. وأنهم يمتلكون القدرة الخارقة في تركيب مجلس النواب ومجلس الوزراء كما
تقتضي مصالحهم، ووجدوا استسلاماً وخضوعاً تاماً لمشيئتهم من قبل الخدم والحشم.
ولما اطمأنوا
إلى استسلام أنصارهم ممن خُدعوا بمبدأ (حماية الطائفة).
ولما دجَّنوا
سلطة القضاء وطرَّزوا مقاعدها بقضاة يحيكون الأحكام على مقاسات مصالحهم.
طاب لهم الجلوس
على كراسي الحكم، ولذَّت السرقات وهانت الرشاوى والنهب. وصحَّ فيهم القول الشعبي
السائد: (يا فرعون من فرعنك، قال تفرعنت وما حدا ردني).
وجد فرعون، في
تلك الحاشية، خضوعاً واستسلاماً من معظم أفرد الشعب، ومن نواب خانعين، ووزراء أتقنوا
فن السرقة، ومؤسسات دينية تشرعن سرقاتهم ونهبهم. ليس هذا فحسب، بل استمرأت الحاشية
أيضاً أن تتلقى نصيبها من السرقات والرشاوى. واتفق الجميع على القول: (وإن شكرتم
لأزيدنَّكم)، ولذلك أتقنوا فن المديح والتزلف، مرددين: (وأمأ بنعمة أميرك،
فحدِّث).
وداعاً
لمنهج حكم ما قبل 17 تشرين الأول:
هذه كانت صورة
لبنان والمشهد المسيطر عليه في محطات سبقت محطة الانفجار الشعبي في السابع عشر من تشرين
الأول من العام 2019. وأما بعدها فقد عمَّ الهم والغمُّ، ودبَّ الرعب في قلوب من
كانت قلوبهم لا ترتجف. ولن تعود الطمأنينة إلى تلك القلوب ما دام صوت الشعب لن
يعود إلى القمقم، وهو لن يعود مرة ثانية طالما استمرَّ الجوع والبطالة وغيرهما
المئات من مظاهر الفقر والحرمان. فالشعب لم يعد لديه ما يخسره، ولكنه لم يفقد
الأمل في التغيير. ووأدرك أن هذا الأمل لن يعود لأن أمراء لبنان الجدد وملوكه
وفقهاءه وموظفيه من المثقفين حمَلَة المباخر وأدوات التجميل، لم يتركوا باباً
للفساد إلاَّ وطرقوه. ولم يتركوا حتى للنمل ما يجد في العظم من دسم. ولأنهم كانوا
أسخياء بالسرقة صحَّ في كل منهم تسمية (قارون العصر). وكانوا بخلاء على شعب لبنان،
حتى أنهم فاقوا بخلاً على (بخلاء الجاحظ).
لقد وعد
المنتفضون في الشارع أن بعد 17 تشرين الأول لن يعود كما كان قبله وهم في وعدهم
صادقون. وأعلن الفاسدون أنهم سيُغيِّرون ما بأنفسهم، ولكنهم بإعلانهم كاذبون.
وإذا كانت حلول
بعض الجرائم مستعجلة، ولا تحتاج إلى وقت طويل. وبعضها يحتاج إلى وقت طويل ولكنه
ليس مستحيلاً. فإن الشعب ينتظر السلطة الحاكمة على كل المفارق والساحات. وإذا كان
يمهلها قبل الانفجار الأكبر، فإنه لن يهملها أبداً. ولكي لا تستمر لعبة التسويف
والمماطلة إلى الأبد. يصبح من المطلوب من أجل اختبار النوايا، أن تبدأ الحلول بطرد
الشياطين من الهيكل قبل أي شيء آخر لكي تسد مزاريب الهدر والنهب. وهذا يحتاج إلى
قرارات حاسمة تصدر عن السلطة القضائية القادرة على استدعائهم من صغيرهم إلى كبيرهم
أمام قوس العدالة.
فإذا كانت
أحزاب السلطة صادقة في إعلاناتها، سواءٌ أكان الحزب ممثلاً في حكومة اللون الواحد،
أم كان في خارجها، فالتلوث أصاب الجميع. فعليها أن تبدأ بالإصلاح من حلقاته
الأخيرة. وحلقات الإصلاح تبدأ بإعادة دور الضمير الذي لا يرحم سوى البريء، ويُنزل
العقاب بالمجرم، وكل منهم بمقدار جرمه. وهذا الضمير هو السلطة القضائية، أي السلطة
الثالثة. وإعادة النظر بتراتيبة السلطات في هذه المرحلة، بحيث تكون السلطة
القضائية أمٌ للسلطات كلها، وتُوضع في مرتبة السلطة الأولى.
إعلان
جمهورية القضاء المستقل:
لماذا الدعوة
إلى إحلال السلطة القضائية في المرتبة الأولى؟
-تحيل الحكومة كل من يرتكب عملاً جرمياً إلى
المحاكم القضائية لكي تبتَّ في شأنها، فهذا صحيح. أما وأن تكون الحكومة بجميع
مكوناتها وشخوصها هي من يرتكب كل تلك الجرائم، فهي لن تقدم أحداً إلى المحاكمة، لأنها
لن ترضى بأن تخضع للمساءلة، خاصة أنها بمثابة الرأس المدبٍّر للفساد. فالذي يرتكب
جرماً عن سابق إصرار وتصميم، لن يقدِّم نفسه للمحاكمة وهو يعرف أنه مدان سلفاً
بالوثائق والوقائع. وهذه هي الأسباب التي تدفع للاعتقاد بأن الحكومات خسرت
مصداقيتها، وبالتالي خسرت موقعها الثاني بين السلطات.
-ولأن أمراء الطوائف، يأتون بالنواب المطواعين
والمنفذين للأوامر، ليسفيدوا من حماية أمرائهم، فهم يمارسون سلطتهم التشريعية بما
يتناسب مع مصالحهم، فعاثوا بدورهم فساداً. ولهذا فقد المجلس النيابي شرعيته
الوطنية والأخلاقية، لأن معظم نوابه ممن غاصوا بالسرقة لن يشرِّعوا ما يدينهم
ويضعهم أمام قوس العدالة. ففقدوا بذلك مشروعية سلطتهم الأولى التي محضهم بها
الدستور.
-ولأن الجهاز القضائي هو من صنع أيديهم حسب نظام
المحاصصة الطائفية وحصر صلاحيات تسميتهم بأوامر أمراء طوائفهم، فلن يحلم أحد بأن
يُحيل قاض واحداً منهم إلى قوس العدالة. وإذا قبلت المحاكم دعاوى وإخبارات عن عتاة
الفاسدين، فإنها سوف تُوضع على رفوف المكاتب لكي يأكلها الغبار والإهمال. وإذا
استدعي فلكي يُخلى سبيله بضغط من هنا أو من هناك.
-ولأن الوصاية السياسية على تعيين القضاة سارية
المفعول، وبالأخص منهم مجلس القضاء الأعلى. ولأن القضاء هو الوحيد المخوَّل بالنظر
في الجرائم، ولأن السياسيين، هم الذين ارتكبوا أكبر الجرائم. يُعتبر سبباً كافياً
لتسقيط سلطة القضاء كما هي في حالتها الراهنة. وإذا ظلَّت المجالس القضائية عرضة
للضغط من قبل السياسيين، ستفقد دورها.
وحتى لا يدور
لبنان في دائرة جهنمية مغلقة، من يسبق من في تراتبية السلطات، يمكن طرد الشياطين
من الهيكل بحل واحد هو إعادة ترتيب السلطات لتنال فيها السلطة القضائية الدور
الأول. ولكن بشروط، ومن أهمها ما يلي:
1-رفع وصاية أمراء الطوائف عن تعيين القضاة، وتعيين
المجالس القضائية.
2-أن يُسمى القضاة من خارج القيد الطائفي، واعتماد معايير
الكفاءة والنزاهة والأهلية الأخلاقية.
فهل يعلن الشعب
اللبناني قيام ثورة بناء جمهورية القضاء المستقل؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق