الثورة
داخل الثورة
وإشكالية
الموقف اللاموقف
في زمن
الكورونا لعلَّ في الإعادة إفادة
مقال كتب في
30/ 8/ 2011، أثناء انطلاقة ما سُمِّي بـ(الربيع العربي).
وكي لا نرى تلك القوى تعوم أكثر على آبار الدماء العربية
التي تُسفح هنا وهناك، وقبل أن تستفيق جماهير الشعب الثائرة فتجد أنها قد خرجت من
ثوراتها ولا تجد من شعاراتها شيئاً قد تحقق لأن غيلان الرأسمال التي تعيث تخريباً
هنا أو هناك قد ابتلعت كل الحقوق. ونتيجة واقع الحال المأساوية كان لا بدَّ أمامنا
من إعادة التذكير هذه المرة بأن على
الثوار الحقيقيين أن يقوموا بثورة من داخل (الثورة).
إن الجامع المشترك بين شتى أشكال الخطاب السياسي وألوانه
تتجمع حول ثنائية: (لا للديكتاتورية، ولا للتدخل الأجنبي). ويحسب كل من رفع هذا
الشعار أنه قد أدَّى قسطه وواجبه، ويذهب لينام هانئ البال. ولكن على كل من اتَّخذ
هذا الموقف أن يترجم موقفه إلى أفعال وإلاَّ فإن موقفه سيتحول إلى لاموقف. والسبب
في ذلك يعود إلى أنه في ثنائية رفض المكروهين (الديكتاتورية، والتدخل الأجنبي) لا
يجوز أن تتعادل الكفتان. لأننا يجب أن نقف إلى صف من يطالب بإسقاط الديكتاتورية،
بينما يزعم كل من يتدخل من الأجانب أنه يساند الثورات المندلعة، ليس بمطالبته
بإسقاط تلك الديكتاتورية فحسب، بل هو يبذل كل عطاءاته المادية والإعلامية
والعسكرية من أجل إسقاطها أيضاً. وهنا يرتفع السؤال: هل الموقف المعلن للتدخل
الخارجي يجوز أن نصفه بأنه فعل إيجابي؟
هنا لا بدَّ من
النظر إلى هذه الإشكالية من منظار المنطق الصوري والواقعي، فنقول: نحن نرفض
التدخل الأجنبي لأنه فعل سلبي لأكثر من سبب، ولكن تأييده للشعار الشعبي في إسقاط
الديكتاتورية هو فعل إيجابي. وبمثل هذه الحالة يصبح التدخل الأجنبي سلبي وإيجابي
في وقت واحد. أما قاعدة القياس المنطقي فلا تقبل أن يكون الفعل إيجابياً وسلبياً
في الوقت ذاته. ولما كان التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية لدولة من الدول مرفوض
في كل الحالات، لأنه لن يكون بريئاً ومن دون ثمن، ومن أهم الأثمان التي يريد
الحصول عليها من جراء تدخله هو الاستيلاء على سيادة الدولة والهيمنة على ثرواتها
وقرارها السياسي، يصبح التدخل الأجنبي الحاصل اليوم في الشارع العربي فعلاً
مساعداً يهدد الديكتاتوريات ويعمل على إسقاطها، ولكن هذا الفعل لن يراعي مصالح
الشعب ومطالبه وشعاراته على الإطلاق. فهو لو أسقط الديكتاتوريات فإنه سيستبدلها
بأخطر منها، وفي الوقت ذاته فإنه سيُسقِط سيادة الدولة على قرارها السياسي
والاقتصادي، وهذا يعني إسقاط إرادة الشعب الثائر. وبذلك يكون المتضرر منه إثنان:
سلطة الحاكم وإرادة المحكوم. وإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز لصاحب بصيرة أن يساوي
بين لاءين: لاء الديكتاتورية، ولاء التدخل الأجنبي. وهنا تتبادر إلى أذهاننا
القاعدة المنطقية، وحتى القاعدة الفقهية، التي تنص على أن المتضررين من خطر واحد
يجب أن يقفا في صف واحد. وعلى الطرف الذي يرفض الخطرين أن يتميز بحاسة إدارك
الخطِر والأكثر خطورة. ونحن نلخصها بالمعادلة التالية:
-إذا كان الشعب يريد أن يُسقِط الديكتاتورية، والتدخل
الأجنبي يريد أن يُسقِطها أيضاً، فهذا يجب أن لا يكون أساساً وقاعدة لتحالف بين
متناقضين (الشعب والتدخل الأجنبي). وكل تلاقٍ بين النقيضين هو تلاقٍ غير مفهوم.
والحل المنطقي يكمن في العمل على قطع كل علاقة مع أي تحرك يكون للتدخل الأجنبي فيه
بصمة.
-إذا كان الشعب يريد إسقاط الديكتاتورية، فهذا من أدنى
حقوق الشعب، وهو كما يكون حقاً فهو واجب أيضاً. ولكي تكون أهداف الثورة وطنية، أي
أن تصب في مصلحة الشعب، فيجب أن تكون وسائلها وطنية أيضاً. ولذلك تكون الاستعانة
بأي تدخل أجنبي، أو القبول به، أو السكوت عنه، شبهة لا يجوز السكوت عنها، خاصة
أننا نعلم أن التدخل الأجنبي لا يرى إلاَّ مصلحته، ومصلحته لا تهتم بإسقاط
ديكتاتورية إلاَّ إذا كان إسقاطها يدرُّ له لبناً وعسلاً، كما لا تهتم بحقوق الشعب
لأن الشعب في مصطلحاته مجرد (أفواه) تستهلك منتجاته.
-التناقض الرئيسي، بالمفهوم الوطني والمطلبي، هو مع
التدخل الأجنبي. والسبب أن أهداف هذا التدخل تتناقض مع السيادة الوطنية والمطالب
الطبقية معاً. وإن كان التناقض بين الشعب والحاكم على الصعيد الداخلي وهو صراع
طبقي يُعتبر رئيسياً، فإنه على صعيد الصراع مع الخارج يُعتبر تناقضاً ثانوياً.
ولما تأكد، ويتأكد كل يوم، أن التدخل الأجنبي يتسلل بشتى الصيغ داخل أنواع الحراك
في الوطن العربي، يعني ذلك ضرورة تغليب الصراع مع التناقض الرئيسي على الصراع
الثانوي. وكل موقف يساوي بينهما يُعتبر مغايراً ومتناقضاً مع المعايير المنطقية
والفقهية.
-من خلال رؤيتنا النظرية، والعملية أيضاً، نعتبر أن
استمرار أي حراك شعبي مهما بلغ من درجة المشروعية، لا يجوز أن يستمر طالما للتدخل
الأجنبي فيه بصمات واضحة وجليَّة، وذلك لتعرية كل أنواع التدخل الأجنبي. ومتى قطع
الشعب دابر أي تدخل وتحت أي صيغة أو مسمى أو وسيلة، يصبح استمرار حراكه أو ثورته
ليس حقاً فحسب بل هو واجب أيضاً. والسبب في ذلك يعود إلى أن المراهنة للحصول على
مكتسبات في ظل تدخل أجنبي هي مراهنة خاسرة، لأن التدخل الأجنبي سوف يستبدل
ديكتاتورية بديكتاتورية أقسى منها. ففي أي حراك شعبي، في مثل هذا الظرف، سيخسر
الشعب سيادته على دولته، لكنه لن يربح من أهدافه شيئاً.
لكل ذلك، نرى أن المرحلة الآن تحتاج إلى ثورة داخل
الثورة. نحتاج إلى ثورة عربية ترفض ليس التدخل الأجنبي فحسب بل تعمل على اجتثاثه
أيضاً، وأن لا تعطي صكوك براءة لأحد ممن يعملون لمصلحة الخارج وبتوجيه منه أو دعم،
ممن يزعمون أنهم أعضاء في الثورة. وإذا لم تستطع جماهير الشعب تحقيق ذلك، فعليها أن
تتبرَّأ من غيم أي حراك أو ثورة لا تمطر على أرض الشعب وحقوله. وهذا الأمر وإن كان
مرهوناً بقوة وعي وإدراك، فعلى كل من يُدرك، أن يفصل أثناء غربلة حصاد البيدر (الثوري،
أو الانتفاض، أو الحراك) بين زؤان الثورة وحبوب قمحها.
إن هذه المرحلة تاريخية بالفعل، وتقتضي اتخاذ الموقف
الجريء، والانتقال للموقف القومي السليم بعيداً عن أية نزعة عصبوية أو حزبية أو
عشائرية أو طائفية. إن الواجب يقتضي الانتقال من موقف اللاموقف إلى الموقف
التاريخي المسؤول من دون خوف أو وجل. وإن الاكتفاء بتأييد الثورات/ الانتفاضات/
الحراكات/ كونها شعبية، وكونها موجَّهة ضد الديكتاتوريات، من دون النظر إلى
نتائجها، لن يكون إلاَّ قفزة في المجهول، وهو موقف اللاموقف فعلاً، وهو موقف من
يريد أن يبرِّأ ذمته، أي موقف من يريد أن يقول كلمته ويمشي من دون النظر إلى
تأثيراتها ونتائجها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق