السبت، فبراير 27، 2010

من لبنان التاريخ إلى العراق تحت الاحتلال:

-->
من لبنان التاريخ إلى العراق تحت الاحتلال:
الطائفية السياسية تستحضر عمقها من خارج الوطن
بتاريخ 4/ 4/ 2005م

من الإمبراطورية الدينية التي كانت تقوم على حكم الدين الواحد، أو المذهب الواحد؛ إلى الدولة الوطنية، وهي ابتكار الفكر السياسي الحديث، التي تقوم على أساس حكم التنوعات الدينية والمذهبية؛ ابتكر الطائفيون وسيلة يحافظون فيها على امتيازاتهم؛ فكان حكم أنظمة الطائفية السياسية، الحل الوسط للجمع بين مفاهيم الإمبراطورية الدينية ومفاهيم الدولة الحديثة.
وهنا نقصد بالإمبراطورية الدينية تلك الدولة المفتوحة الحدود ليتبادل أبناء الدين الواحد، عوامل الاستقواء للضغط على الدولة الحديثة، أي الدولة الوطنية، من أجل المحافظة على حقوقهم الفئوية. وقد توصلت إلى قناعة بأن مصطلح «الإمبراطورية الدينية»، أصبح فضفاضاً بعد دراسة تاريخ تلك الإمبراطوريات، وأرى من الأصوب أن نستخدم مصطلحاً آخر، وهو «الإمبراطورية المذهبية الدينية». كما نقصد بالدولة الوطنية، أي الدولة الحديثة، فهي تلك الدولة التي تجمع مصالح مواطنيها في سلة الحقوق والواجبات فتساويهم وتعمل على تأمين قواعد العدالة بينهم.
لقد قنعت الأكثرية الساحقة من المتدينين بصلاحية الدولة الوطنية الحديثة، وهم لا يرون لها بديلاً، لأسباب عدة من أهمها:
-عمَّ أنموذج الدولة الوطنية الكرة الأرضية وأصبح من المستحيل إعادة إحياء الإمبراطوريات الدينية، إذ أن المجتمع العالمي أصبح يشكل حماية لحدود الدول.
-لم تكن الدولة الدينية –في يوم من الأيام- حلاً لحقوق المذاهب المتفرعة عن الدين الواحد. إذ كانت الإمبراطورية الدينية تؤمن حقوق الذين ينتمون إلى المذهب الحاكم. فكانت المذاهب الأخرى تحصد الملاحقة والتضييق، وأحياناً الاجتثاث.
أما، وعلى الرغم من كل ذلك فنجد هنا وهناك، في عصر الدولة الوطنية، من ينشدُّ إلى تغليب المصالح المذهبية على المصالح الوطنية. أما لهذه الظاهرة من سبب؟
في صراعات «الإمبراطوريات المذهبية الدينية» مع المذاهب الأخرى التي تنتمي إلى الدين نفسه، أو مع المذاهب الأخرى المتفرعة عن دين آخر، كانت المذاهب المُضطَهَدَة تلجأ غالباً إلى طلب الحماية الخارجية من القوى التي تنتمي إلى مذهبها، وإذا لم تجد فكانت تفتش عن حماية خارجية بغض النظر عن انتمائها للمذهب ذاته لطلاب الحماية. وإذا كان من المطلوب أن نسمي الأشياء بأسمائها، فليس لدينا أفضل من تجربة «متصرفية لبنان» التي انقضى عليها قرن ونصف القرن تقريباً. تلك المتصرفية التي شكَّلت ملاذاً آمناً للمذهبيات اللبنانية المضطَهَدة في تلك المرحلة. وكانت تخضع إلى «بروتوكول» خاص ينظِّم شؤونها الداخلية تحت حماية أجنبية يقف على رأسها القوتين الاستعماريتين لتلك المرحلة، وهما: بريطانيا وفرنسا.
ولأن المتصرفية، التي كانت تخضع لحماية خارجية، لم تكن تستند إلى تجانس متكامل في الدين والمذهب، بين طالب الحماية وباذلها، لا نستطيع أن نحمَّلها مصطلح «المصلحة الدينية أو المذهبية» فكان مصطلح «الطائفية السياسية» هو الأقرب لوصف الواقع، ففيه تتبادل مجموعة من المذاهب مصالح مشتركة تلتقي مع مصالح لقوى خارجية لا تكون فيه مقاصد حماية الطائفة «حماية إيديولوجية» بل تقبض لقاء تأمين الحماية الخارجية ثمناً مادياً، سياسياً أو اقتصادياً أو أمنياً، تكون في الغالب الأعم مؤقتة ومرحلية، ولا تمثل، أو لن تمثل، قانوناً ثابتاً أو يحمل طابع الاستقرار. فهو مستمر طالما استمر تلاقي المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية، ويتفسَّخ ويتفتت إذا افترقت تلك المصالح. فالغاية ليست إيديولوجية فكرية بل الغاية من طلبها تلبية لمصالح سياسية تقطف جناها نخبة الطوائف المحلية من جهة والقوة الخارجية التي تؤمن الحماية من جهة أخرى. ولهذا صحَّت تسميتها بنظام «الطائفية السياسية»، أي تسخير الإيديولوجي الطائفي لخدمة المصلحي السياسي.
إن أقصر الطرق أمام النخب الطائفية، من السياسيين، لضمان استمرار بقائها في صف المشاركة في السلطة؛ وأكثر ضماناً لبقائها ممثلة لشريحة من المواطنين بإلغاء دور «الكفاءة الشخصية»، وضرورة امتلاك «برنامج سياسي»؛ هو توزيع المغانم بين «كارتل النخب الطائفية» التي تقوم غالباً على النفوذ العائلي التاريخي. وما الصراعات بين النخب العائلية في الطائفة والزعماء الروحيين فيها إلاَّ ما يؤكد غلبة المصالح السياسية والاقتصادية على مصلحة «الإيديولوجيا المذهبية». و إلاَّ –إذا كانت لمصلحة «إيديولوجيا الطائفة» الغلَبَة- لأصبح من واجب النخب السياسية في الطائفة أن تُسلِّم القيادة للزعماء الروحيين. وحيث لا يثبت العكس على أرض الواقع فإن رفع شعار «حماية حقوق الطائفة» لهو لغو من الكلام الذي يُراد به التضليل. ففيه استغلال للزعماء الروحيين من جهة، واستغفال لعقول أبناء الطائفة من جهة أخرى.
كان يمكن لحركة الفكر السياسي العربي أن تستفيد من تجربة «نظام الطائفية السياسية» في لبنان، من أجل تثبيت قاعدة «النظام السياسي الوطني»، ولكن ما يمنع الاستفادة من سلبياتها يعود إلى ما يلي:
-مصلحة «النخب الطائفية» تتغلَّب على مصلحة «المواطنية». وإذا كانت تلك النخب تستند إلى تُراثها العائلي، وهو مضمون تمثيلها في أي «نظام سياسي حاكم» لأنه –من داخل المنظومة الثقافية الشعبية السائدة- لن تجد من ينافسها بغض النظر عن إمكانياتها الذاتية وكفاءاتها. هذا بالإضافة إلى تلاقي مصالح أبناء العائلات مع مصالح الزعماء الروحيين، فهما يتبادلان خدمات الاستقواء لضمان استمرارية زعامة كل منهما.
-مصلحة «القوى الخارجية» في تثبيت أقدامها على أية بقعة، وفي أية دولة، على ركائز داخلية تضمن استمرار نفوذها السياسي والأمني والاقتصادي في تلك الدولة. ويُعتبر تأمين وجود ملاذ آمن من أبناء تلك الدولة من أهم مقومات الضغط التي تستخدمها من أجل بناء علاقات لا تهتز في كل لحظة. وبهذا المعنى نرى أن ظاهرة «الطائفية السياسية» هي من أهم «أحصنة طروادة» التي تتسلل منها الأطماع الخارجية إلى داخل الأوطان والدول.
ولأننا، نحن اللبنانيون المنتسبون إلى إحلال «نظام المواطنة» في الدولة الحديثة مكان «نظام الطائفية السياسية»، أرهقتنا المعاناة، ولا تزال ترهقنا، من «نظام محاصصة الطوائف»، وجدنا أنه لا بدَّ من الاستطراد حوله، حتى ولو بكثير من التكثيف، لأننا نرى في عراق ما بعد الاحتلال الأميركي ما يدفع بنا إلى إطلاق صفارة الإنذار بقوة. فالعراقيون ممن يشكلون تيارات تقوم على تحويل العراق من «نظام سياسي» كان منحازاً إلى تغليب «نظام المواطنة» على «نظام المحاصصات الطائفية» يقومون –الآن وفي هذه اللحظة بالذات- بالانحدار تجاه بناء «نظام طائفي سياسي في العراق» في الوقت الذي نرفض فيه، نحن اللبنانيون، وجود «نظام طائفي سياسي في لبنان» لخطورته الشديدة على مصالح المواطنين، كل المواطنين.
وعلى الرغم من أننا لسنا من المتفائلين في أن تسمع تلك التيارات التي توغل في النهش في النسيج الوطني العراقي لتفتيته وتفسيخه، سنعمل على تشخيص ما يجري في العراق الآن بعد أن أنجزت قوات الاحتلال الأميركي «مسرحية الانتخابات». وهي تقود الآن مسرحية من نوع آخر يقوم على أسس «نظام الديموقراطية الطائفية والعرقية»، وهو أخطر ما في مشروع الاحتلال الذي يقوم على تفسيخ العراق وتفتيته. والأخطر من كل ذلك هو أن «المتسترين» برداء «مصلحة الطوائف والعرقيات» يستخدمون سياسة «لحس المبرد». وسياسة لحس المبرد تلك هو أن القطط «المذهبيين والعرقيين» يلحسون المبرد فيتفجر الدم العراقي، وهم يحسبونه «دماً ديموقراطياً» أوصلهم إلى المواقع التي يحتلونها، فيزيدون من «اللحس» فيتفجر المزيد من الدم، بينما الدم هو دم وطنهم الذي سيأتي «القط الأميركي» ليلعقه بكامله، ولن يترك لهم شيئاً. فيستفيقون إلى أنهم –في الوقت الذي قلبوا فيه «نظام المواطنة»-غارقون في متاهة توزيع الحصص الطائفية والعرقية، فيضيع الوطن كله، ولن يجدوا فيه موقعاً لقرار ذاتي إلاَّ وفوق كل قرار مندوب أميركي يأمر وينهي متفرجاً على عراقيي الاحتلال وهم يقتتلون حول توزيع دماء هي دماء وطنهم الذي كان يجمعهم.
لما تقوم به التيارات الطائفية السياسية في العراق أصول تاريخية. حتى ولو لم تكن بعيدة، إلاَّ أنها ذات جذور تاريخية، فهي ظاهرة لم تُولد منذ الاحتلال الأميركي للعراق، أو قبله بقليل.
يعود بناء جذور تلك التيارات إلى ما قبل أقل من نصف قرن. في تلك المرحلة التي عملت فيها نخبة من رجال الدين الشيعة إلى الانقلاب على الأسس المعرفية الشيعية التقليدية. أما الأسس التقليدية فهي تحريم المشاركة في أي نظام سياسي قبل «ظهور الإمام المهدي المنتظر». وأما مظاهر الانقلاب فتعود إلى أنه «لا يجوز للشيعي أن يغيب عن سياسة أمور المسلمين»، بل يمكن ابتكار مصطلح «نائب الإمام»، وهذا النائب هو «الفقيه». فأخذت نظرية «ولاية الفقيه» تعم وتنتشر إلى أن قُيِّض لها أن تُطبَّق في إيران على يد «الخميني».
ونظرية «ولاية الفقيه» ليست نظرية إسلامية بقدر ما هي «نظرية شيعية» تسوِّغ للشيعي العودة للانخراط في العملية السياسية. ولأن إيديولوجيا تلك النظرية ذات منبت ديني، جاءت لا لإحياء الدولة الدينية الإسلامية بل لإحياء الصراعات التاريخية بين السنة والشيعة، أي بين الدولة الصفوية في بلاد فارس، والدولة العثمانية ورأسها في تركيا.
فلو كانت اتجاهات نظام «ولاية الفقيه» في إيران وطنية تعترف بحدود الدولة الوطنية الحديثة لما كانت قد أثارت كل الإشكاليات التي نعتقد أنها قد أثارتها على صعيد إعادة إحياء الصراع التاريخي بين السنة والشيعة، أو إعادة إحياء التناقض بين مفاهيم الدولة الدينية التي لا تعترف بالحدود بل تؤمن بأن «ليس للشيعة وطن» والدولة الوطنية التي اعترفت بحدود جغرافية على قاعدة القوميات.
فمن مراحل التكوين الأولى ل«نظرية ولاية الفقيه» ظهر أن نقل الشيعة من عصر إلى عصر تتم على قاعدة، ليست مشاركة الشيعة في أي نظام سياسي تقوم على اعتراف بحدود أو بحقوق لأحد، بل كانت تستند إلى تأسيس نظام سياسي شيعي يقوم على قاعدة تطبيق «الفقه الشيعي» من جهة، وعلى قاعدة تجميع الشيعة أينما كانوا حول ذلك النظام من جهة أخرى. فإذا كانت تلك النظرية قد انطلقت من العراق على أيدي «حزب الدعوة» إلاَّ أن تطبيقاتها الفعلية قد انطلقت في إيران. ولهذا كان عدد من نخب «المرجعيات الدينية» في العراق على استعداد للاستفادة من خدمات النظام الإيراني كون أكثرية الإيرانيين من الشيعة وكون إيديولوجيا النظام مؤسسة على الفقه الشيعي. وانطلاقاً من هذه النقطة انبنت علاقات عميقة بين «النخب المرجعية العراقية» والنظام في إيران. وكانت تلك العلاقات تقوم على أساس تبادل عوامل الاستقواء: أطماع إيرانية في العراق بحاجة إلى مرتكزات داخلية. وأطماع شيعية عراقية بحاجة إلى عوامل قوة خارجية ترتكز عليها في فرض ضغوط على أي نظام سياسي في العراق للحصول على حصتها في حكم الدولة. وهنا علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن نشأة «حزب الدعوة» لم يكن مرتبطاً بمعارضة «نظام حزب البعث السياسي» لأن نشأة «حزب الدعوة» كانت سابقة لاستلام حزب البعث السلطة السياسية، ليس في العراق وحده، بل في سوريا أيضاً. وتلك مسألة لا تخفى على المراقب الموضوعي. بل كانت نشأة «حزب الدعوة» تتناقض مع وجود نظام علماني، أي نظام علماني سواء كان بعثياً أو غير بعثي. وتلك حقيقة تثبت أن النخب الشيعية العراقية، دينية أو مدنية، كانت تعمل من أجل الحصول على حصتها على قاعدة توزيع الحصص على «قاعدة الطائفية السياسية».
تلاقت مصالح «النظام الجديد» في إيران مع مصالح النخب الشيعية في العراق. وكانت مصلحة النظام في إيران أن تحرِّض شيعة العراق بمفاهيم تستند إلى «الإيديولوجيا الشيعية»، أي تلاقي مصالح الشيعة –أينما كانوا- على أسسها. ومنذ تلك النقطة كان لا بدَّ للنخب الشيعية في العراق، ومن أهمها «حزب الدعوة»، من أن تنتهج طريقة «الطائفية السياسية»، بحيث حملت «قميص الديموقراطية» المسلوبة عن «شيعة العراق»، وكانت من أهم مظاهرها المطالبة بحصة الشيعة في شتى إدارات الحكم والدولة العراقية. ومن يعود إلى «إعلان الشيعة» الذي صدر في لندن، في حزيران من العام 2002م، يرى أن ديموقراطية الموقعين على الإعلان تدعو إلى إلغاء «نظام المواطنة» واستبداله بنظام «المحاصصة الطائفية».
ولكي لا نبتعد عن تشخيص علاقة النظام السياسي في إيران بتلك الأوساط الشيعية، نوجِّه الأنظار إلى أن كثرة من الذين وقَّعوا «إعلان الشيعة» هم من الذين هربوا إلى إيران منذ اللحظات الأولى لاندلاع الحرب بين العراق وإيران منذ أوائل الثمانينيات من القرن الماضي.
لقد استقبلت إيران عشرات الآلاف من الهاربين العراقيين. وهناك أسست مرجعياتهم –تحت قيادة محمد باقر الحكيم وأخيه عبد العزيز- مجلساً سياسياً أطلقوا عليه اسم «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية»، وفيلقاً عسكرياً أسموه «فيلق بدر». وكانت مهمات القوتين السياسية والعسكرية العمل من أجل قلب نظام الحكم السياسي في العراق بتعاون ودعم وإسناد من النظام الإيراني.
ولأن التيارات الطائفية السياسية لا تجد مصلحتها «خارج ذاتها»، فهي مشدودة إلى مصالح النخب فيها أكثر من أي شيء آخر، لذا فهي غالباً ما تتجاوز الحدود الوطنية إذا ما وجدت أن الخارج يساعدها على الوصول إلى مكتسبات فئوية. ولهذا وجدنا أن تكوين الطائفية السياسية في العراق وجدت مصلحة لها في الاستناد إلى الجدار المذهبي الإيراني في بداية الأمر، واستكملته بالاستناد إلى الجدار الخارجي الأميركي في نهاية الأمر، وبمثل الجمع بين المسندين المتناقضين لا نستطيع أن نفهم اتجاهات تلك التيارات إلاَّ أنها تيارات عابرة للأوطان. وهي في الوقت الذي تستبيح فيها قيم السيادة الوطنية، بالتعاون مع هذا تارة، والتعاون مع ذاك تارة أخرى، تكون أقرب إلى مصالح أطرافها الفئوية أكثر من اقترابها من مصلحة الطائفة التي تمثلها، أي تدَّعي تمثيلها.
فإذا كانت أمثولة «متصرفية جبل لبنان» لا تزال حاضرة في أذهان اللبنانيين، ويعرفون أسباب وعوامل تكوينها التاريخية كما أنهم يعون مدى خطورة تطبيقها في الوقت الراهن، فهل لتيارات الطائفية السياسية الشيعية أن تعي خطورة بناء «متصرفيات مذهبية وعرقية» في العراق؟
وحتى نكون موضوعيين، نرى أن اتجاهات تيارات «الشيعية السياسية» في العراق لا تختلف عن اتجاهات التيارات السنية التي تقود خطواتها تيارات «السنية السياسية» التي تستر نفسها بغطاء الدين وتبرر علاقاتها مع الاحتلال الأميركي بحجج لا تستطيع أن تقنع ثوابتنا الوطنية والقومية. فقد انطلقت تلك التيارات من تحريم الدفاع عن الأنظمة العلمانية، التي تعبرها كافرة. ولهذا لم تقاوم تلك التيارات السنية السياسية الاحتلال الأميركي، وتستند إلى قاعدة فقهية مضمونها «إن قتال قوات الاحتلال هي دفاع عن نظام علماني كافر»، فهم –على أساس تلك القاعدة- يفسحون المجال للاحتلال الخارجي بأن يُسقط «النظام الكافر» كخطوة أولى يقومون باستكمالها في الإعداد لمقاومة الاحتلال كخطوة لاحقة.
لقد وقعت تيارات «السنية السياسية»، في شر تقديراتها حول احتلال العراق ومشاركتها في المؤسسات السياسية المؤيدة للاحتلال. فقد كانت مواقعها ضعيفة، ولم تجد من حولها التفافاً سنياً يعزز مواقعها ويقوي أوراقها عند القوى الأخرى من الذين انزلقوا في تأييد الاحتلال ومساندته وتعزيز مواقعه. وجاءت نتائج «مسرحية الانتخابات» لتقصيهم كلياً عن مواقع التأثير في التراكيب السياسية والأمنية للاحتلال. لذا نعتبر أن إقصاءً قسرياً لتيارات «السنية السياسية» عن لعبة توزيع الحصص في ما بعد «مسرحية الانتخابات» الأميركية في العراق هو الذي واجه تلك التيارات. فهي لم تكسب الاحتلال وخسرت الشارع السني. لذا تقف على هامش تاريخ العراق. فهي أضعف من أن تحصل على حصة سياسية في الوضع الراهن، وأبعد من أن تفكر بالحصول عليها في نظام ما بعد تحرير العراق. أما عن الدور الذي لعبته قبل الانتخابات فلا يقل خطورة عن دور «الشيعية السياسية»، وهي تتحمل مسؤولية أنها قد شرَّعت بناء علاقة سلمية مع الاحتلال الأميركي طمعاً بالحصول على حصة في نظام سياسي محكوم بالمصالح الاستعمارية. فاستناداً إليه لعلَّ وعسى يتنبَّه من لم يلحقهم التهميش إلى أن مصيرهم، عندما ترفضهم جماهيرهم، وهي ليست ببعيدة، لن يكون أفضل من مصير الذين سبقوهم.
ونحن نتكلم عن «طائفيتين سياسيتين» في العراق بين السنة والشيعة نعتذر للعراقيين الذين اختاروا طريق الدولة الوطنية من أننا لا نقصد تعميق ما يجري بقدر ما نريد أن نلفت إلى خطورته. فالتحذير من وجود السم لا يعني استخدامه.
لذا نرى أن انتشار سموم «الطائفية السياسية» في العراق اليوم يسري بسرعة تواكب التسريع في استكمال المخطط الأميركي، ولن يكون إلاَّ مساعداً له للخروج من مأزقه. ومن أوضح تلك المظاهر هو تلك الحوارات التي تتم بين مجموعة من «الطرشان» الذين يتحاورون حسب ما يحسبونه «قواعد ديموقراطية»، بينما واقع الأمر –كما نرى- أنها تفصَّل على مقاييس الحصص الفئوية، المذهبية والعرقية، من دون أن تأخذ المصلحة الوطنية العامة مقياساً للخروج من أزمة تشكيل مؤسسة سياسية تحكم العراق.
إن مخاطر ما يجري في عراق ما بعد «مسرحية الانتخابات» هو تكريس فعلي لتقسيم العراق على الطوائف والعرقيات. وهي تتم بإلهاء قسم لا بأس به من العراقيين وجعلهم يتنافسون على اقتسام العراق، نظاماً سياسياً وأرضاً وطنية لها حدودها الجغرافية المتفق عليها، تلك المقدمة تعفي الاحتلال الأميركي من عبء مواجهة وطنية جدية. لكن نتائج حوار «الطرشان» تلك ستكوي المتحاورين بالكثير من الآثار السلبية التي لا بدَّ من أنها ستعيث بهم ويحصدون المزيد من التفتيت في صفوفهم كلما حسبوا أنهم اتفقوا.
فعلي صعيد الحركة والنشاط التي تبذلها التيارات «الطائفية السياسية» في العراق لوضع الكيان الوطني العراقي أمام واقع الانقسام والتفتيت في نسيجه الوحدوي، نرى أنها لن تحقق من النتائج التي تكتسب صفة الثبات لأن مشروع التفتيت المذهبي لن تتوقف تداعياته عند نتائج ما حسبوه حقوقاً ديموقراطية لطوائفهم، وأخذوا يستمرئون طعم «الوصولية السياسية» لنخبهم، بل سيفرِّخ الواقع الجديد الكثير من الإشكاليات التي ستدعهم يتلهون بها ويتصارعون داخل بيتهم العراقي لمعالجتها، وكلما وصلوا إلى ما يحسبونه حلولاً ستقودهم إلى مآزق ومشاكل أخرى. ومما نتوقعه في المستقبل القريب:
-ليست التيارات السياسية مستقلة القرار. وهم لم يحسبوا أن الدعم الخارجي ليس مجانياً، بل يجب أن يكون مدفوع الثمن.
فأما الثمن الذي يجب أن يتم دفعه للجانب الإيراني، من خلال ادَّعائه حماية الشيعة في العراق، فلن يكون أقل من جر للشيعة في العراق إلى تغييب قيم السيادة الوطنية. وهذا التغييب لن يكون بمصلحتهم على الإطلاق. لأنه –كما أثبت الواقع-لا يعمل النظام الإيراني على قاعدة حماية الإيديولوجيا الشيعية، كما يتباكى ظاهرياً، و إلاَّ لما كان يتعاون بشكل سافر ومكشوف ومعلن مع المشروع الأميركي الذي ينفذه تحالف من الطبقيين الرأسماليين الأميركيين مع التيار المسيحي المتشدد الذي لا يرى في الشيعة إلاَّ مصدراً للشر يجب القضاء عليه في «معركة هرمجدون» التي تنص عليها التوراة. كما يضم التحالف الصهيونية العالمية التي تعمل، ليس من أجل إحياء دولة اليهود الكبرى «من الفرات إلى النيل أرضك يا إسرائيل» فحسب، بل من أجل استعباد العالم واحتوائه تحت سلطة حكم «شعب الله المختار» أيضاً. ولأن الإيديولوجيا الشيعية تتناقض –كلياً- مع أطراف ذلك التحالف تكون «الطائفية السياسية» في العراق مخدوعة بصدق نوايا العامل الإيراني.
وما له علاقة بعامل الإسناد الأميركي، فهو يستوفي أجره حالياً من نهب ما يستطيع نهبه من بترول العراق، وإن تكديس الثروة التي حصل عليها «بول بريمر» لوحده تتجاوز مئات الملايين من الدولارات. وإذا لم يكن هذا هو الثمن الفعلي، بل يأتي لمصلحة الأفراد الذين يشاركون في السطو على خيرات العراق؛ فيجب أن لا يغيب عن البال، وخاصة المخدوعين من تلك التيارات العراقية، أن الإدارة الأميركية التي صرفت حتى الآن أكثر من مايتين وخمسين مليار دولار من أجل احتلال العراق، يكونون من السذاجة أن يصدقوا أن الأميركيين أنجزوا «مسرحية الانتخابات» في العراق من أجل أن يعيدوه إلى تلك التيارات العراقية وينسحبوا «مشكورين». أفلا يعلم أولئك المخدوعين، وهم ليسوا بمخدوعين، بل يريدون أن يخدعوا عقول السذَّج، أن الرأسمالية لا توظف سنتاً واحداً من دون الحصول على الأرباح المضاعفة. وعلى من يفقه الحساب من العراقيين المتورطين في دعم الاحتلال أن يقدموا كشفاً بالمبالغ التي أنفقتها إدارة جورج بوش –حتى الآن- ويحسبون لنا الفوائد المترتبة على رأس المال الأساسي. فهل يرى هؤلاء أقل من أن العراق، بثرواته وناسه، سيبقى مرهوناً للرأسمال الأميركي لعشرات السنين؟
-تداعيات نتائج «مسرحية الانتخابات» على وحدة العراق أرضاً وشعباً:
من خلال واقع «لحس المبرد» الذي تمارسه التيارات «الطائفية السياسية» العراقية، من خلال التلذذ بلعق الدم العراقي الذي يسيل من جراء تطبيق «ديموقراطية الانتخابات الأكذوبة» ينخرط الداعمون للاحتلال وحماته في سلسلة لن تنتهي من المقايضات والمساومات على احتلال المواقع في المؤسسة السياسية المسخ التي يرسم حدودها ونتائجها الاحتلال الأميركي لوحده. وهو يتابع رسم الصورة التي يريدها على قاعدة «اتركهم يأخذون كامل حريتهم في المساومات» ولكن عند التشكيل الفعلي لن يكون لهم قرار مستقل يبتعد عن تشكيل «مؤسسة سياسية وأمنية» لا تحقق كل الأهداف التي لأجلها تدفع الإدارة الأميركية الدم والمال.
بمثل تلك السياسة الخادعة يدع الاحتلال عملاءه يتلهون ب«مرقة الديموقراطية» على أمل احتكار اللحم والعظم لنفسه. وهو ليس آبهاً بما يحصل من تفتيت في داخل العراق فحسب، بل يعمل على إحداث المزيد منه أيضاً. فتكون خدعة الاحتلال بنشر «الديموقراطية الكلامية» مدخلاً يتغنى به عملاؤه لتبرير فعل الخيانة أمام المؤيدين لهم في أنهم أوصلوا «الطائفة» إلى حقوق سياسية خادعة. ولن يتبقى للمؤيدين من «مرق» الحقوق شيئاً، لأن اللحم والعظم للاحتلال، وال«مرق» لعملائه، أما المؤيدين فلهم أوهام «حقوق الطائفة» في ممارسة القشور من حرياتهم السياسية والدينية. أما الأمن والرغيف والكرامة الوطنية فعليهم السلام لأن التضحية بها من أجل سلامة «نخب الطائفة السياسيين والدينيين» الذين يحمون «كرامة الطائفة» هو غاية المنتهى في غابة من المستسلمين الطيبين لتقليد أولئك الزعماء والوكلاء من كل صنف ولون.
فعلى صعيد المكتسبات الطائفية ستكون النخب هي الكاسب الأكبر. ولن تكون الأكثرية الساحقة إلاَّ الخاسر الأكبر، وهنا نسجل بداية تأسيس لصراع لن تطول مدة اندلاعه بين «الخادعين» من صفوة النخب «الطائفيين السياسيين والدينيين»، و«المخدوعين» من المؤيدين الذين يدفعون الثمن من حياتهم وأمنهم ولقمة عيشهم.
أما التداعيات على الصعيد الوطني العراقي، فحدِّث ولا حرج. فالطائفية السياسية التي تضحي بالوطن كله، فهي في الموقع الذي لا يأسف على إحداث شروخ بين طوائف الوطن سواء كانت مذهبية دينية أو تعددية عرقية. وتلك تأسيس لفتن جوَّالة تعمِّق الشروخ بين الإثنيات في الوطن الواحد. وما تقوم به أجهزة المخابرات الأميركية في معظم مناطق العراق، من اغتيال واغتيال مضاد، بتفخيخ سيارة هنا تطال مواطنين من الشيعة، أو تفخيخ هناك تطال مواطنين من السنة، لبعيد عن استعجال قوات الاحتلال في تعميق الشروخ المذهبية.
ومن أكثر مظاهر الوقائع خطورة هي تلك التي تتسابق فيها «الطائفية السياسية الشيعية» مع «الانفصالية الكردية» في الإعداد لإنجاح مشروع «الفيدرالية في العراق»، وتلك هي مقدمة لتقسيمه بين الإثنيات العرقية، كخطوة على طريق تقسيمه بين الإثنيات المذهبية.
فإذا كانت التيارات العرقية، وهي تحديداً التيارات الكردية، قد وحَّدت صفوفها في سيطرتها على منطقة جغرافية، إلاَّ أنها لم تخرج من مأزقها لأن منطق الانفصال عن الوطن يتولَّد عنه المزيد من التداعيات في المستقبل القريب. لأن الانفصال الجزئي لن يبقى ثابت الحدود الجغرافية والسياسية والاقتصادية. فعلى الانفصاليين الأكراد أن لا يهنأوا بما حصدوه حتى الآن؛ فهناك عوامل اشتباك ترتسم معالمها في الأفق، هذا إذا لم تكن قد بدأت تتعمق في عدد من الوقائع. ومن أهمها:
-أن الأنموذج الانفصالي الكردي في شمال العراق سيكون مشروع تصادم بين الأكراد ودول الجوار الجغرافي. وقد بدت ملامحه واضحة في مدينة القامشلي في شمال سورية، وتعزَّزت بالتهديدات التركية والتحذير من خطورة تثبيت تلك الانفصالية على الأمن التركي الداخلي.
-كما أن الدوائر التي يتشارك فيها الأكراد والتركمان والعرب في داخل العراق. ومسألة حسم قضية مدينة كركوك ليست من المسائل السهلة الحلول. فهي ستكون نقطة ساخنة ليس بين العراقيين فحسب، بل هي مشروع صراع جدي بين الأكراد والأتراك أيضاً، والسبب سياسي واقتصادي معاً.
-سيكون تحويل شمال العراق إلى دولة كردية – صهيونية، ووقائعه أصبحت أكثر ثباتاً ورسوخاً، وتتم تحت رعاية الاحتلال الأميركي وحمايته، مشروعاً جدياً لصراع كردي عربي ستلعب سورية فيه دور المقاوم الرئيسي.
وتلك من صور الصراعات التي ستصبح أكثر سخونة في المستقبل القريب، وفيها ستجد الحركة الانفصالية الكردية نفسها أمام الكثير من الخصوم العراقيين والإقليميين. ويحق لنا أن نقول لهم إن الانفصالية العرقية ليست الحل للمشكلة وإنما هي بداية لسلسلة من المشاكل. وإذا كانت الإمبريالية والصهيونية تؤمن الحماية لمشروعهم في هذه المرحلة هي لا تستطيع أن تؤمنها إلى الأبد.
وفي نهاية المطاف نرى أن المشروع الأميركي، من أجل ترسيخ أقدامه في العراق، قد اتَّخذ «مطايا» من العراقيين مستغلاً قابلية «الطائفيين السياسيين» في تمزيق الوطن العراقي من أجل مصالحهم الضيقة والملوَّثة بالخيانات المتتالية، ليمرِّر على ظهورهم كل أهدافه ومراميه وأغراضه ومصالحه. ولأن قابلية الطائفية السياسية مفتوحة على سلوك شتى الخطايا بالاستقواء بالخارج، أفلت المشروع الأميركي «العفاريت الطائفية» من قمقمها لتنوب عنه في تمرير أهدافه بثياب وطنية.
وحيث إن أهداف المشروع الأميركي في العراق، ووسائله لتمرير هذا المشروع، لا يختلف عن المشروع القابع في لبنان، أهدافاً ووسائل، نرى من المفيد جداً أن يرى العراقيون التجربة التاريخية ل«نظام المتصرفية في جبل لبنان» من منظار خطورتها النظرية، ويكبحوا جماح شبقهم الوصولي للسلطة على حصان الخارج، لأنهم سينتجون «أنظمة متصرفيات» أخرى في العراق. وأن ينظر اللبنانيون إلى واقع اللحظة الراهنة التي يصوغ فيها الاحتلال الأميركي، كأداة لتمرير مشروع «المحافظين الأميركيين الجدد»، وليروا خطورة التمزيق في وحدة العراقيين التي أحدثها ويعمل على تعميقها في العراق. وتلك هي النتائج الوخيمة التي تنعكس على الأوطان بسبب الاستقواء بالخارج. ولعلنا بذلك نوجه أنظار الحركة القومية العربية والمناضلين في صفوفها إلى إلقاء المزيد من الأضواء على خطورة ظاهرة «الطائفية السياسية» التي تمثل «حصان طروادة الخارج» في غزونا في عقر دارنا. وكل هذا يؤكد أهمية نشر الوعي القومي والوطني، والعمل من أجل تطبيقه في مناحي حياتنا على الصعد الفكرية والسياسية والأمنية والاقتصادية. وقطع الطريق على كل مغريات الخارج القادمة إلينا تارة على حصان ديموقراطي، وتارة أخرى على حصان «اقتصاديات السوق»، وتارة ثالثة على حصان «العصرنة والتحديث»، وتارة رابعة على حصان لا نعرف ماذا يحمل إلينا من بضائع فاسدة مغلَّفة بما حلا وطاب للأنظار المغفَّلة.
وحتى لا تكون الصورة سوداوية تقود إلى الإحباط، فنحن لا نرى أن واقع الأمور يحددها الاحتلال مع المتعاونين معه. فإن القرار يبقى، أولاً وأخيراً، بيد إرادة المقاومة العراقية، كما بيد أية مقاومة تنشأ هنا أو هناك، مقاومة يجب أن تعم كل أقطار الوطن العربي. وطالما أنها تتحرك فليس هناك أي عائق يمنعها من إحباط أهداف المحتلين وعملائهم، وإجهاض أية محاولة احتلال أخرى.
إن معالم المشروع الأميركي، الذي يحمله «ساترفيلد»، نائب مساعد وزيرة الخارجية الأميركية، إلى لبنان، ستظهر تأثيراته الوخيمة على الواقع اللبناني، إذا ما سُمح له بالعبور. لكنه لن يعبر –حتماً-فكل الزنود العالمة بخطورته ستكون له بالمرصاد.
وإن ما نراه من واقع الهيمنة على بعض مناطق العراق، يؤمنها وجود التيارات السياسية المذهبية، ليس هو الواقع الذي سيستمر. فتلك الوعود الوردية لا بدَّ من أن تتكشف وتظهر على حقيقتها لأن تلك التيارات ستكون عاجزة عن تحقيق الوعود التي أغدقتها على مؤيديها. كما أن وعود الاحتلال كاذبة بما لا يقبل الشك. فسيصل أولئك إلى مرحلة يجدون أنفسهم في سلسلة دائمة من المشاكل والصعوبات التي تدفع بهم إلى سلوك طريق مقاومة الاحتلال ومقاومة الذين مارسوا الخداع عليهم أيضاً.
-->

ليست هناك تعليقات: