السبت، فبراير 27، 2010

من أجل تحديد موقف موضوعي من الدور الإيراني

-->
من أجل تحديد موقف موضوعي من الدور الإيراني
حيال قضايا الأمة العربية
 

25/ 3/ 2007
مداخلة تم توزيعها في المؤتمر الرابع للحملة الدولية في القاهرة (28-29/3/ 2007)
انقسم المثقفون العرب، وحركاتهم السياسية، حول الموقف من الدور الإيراني في القضايا العربية إلى محورين:
الأول ينظر إليه بعين الإيجابية، استناداً إلى دعمه لحزب الله في لبنان في المواجهة مع العدو الصهيوني، وقد عمَّموا هذا الموقف حاسبين أن النظام الإيراني يقوم بدور داعم لكل القضايا العربية، فكانت قياساتهم العامة مبنية على مواقف جزئية للنظام الإيراني بما يحمل ذلك من أخطاء في الاستنتاجات الموضوعية، بينما لم ينظروا إليه ولم يقيِّموا دوره في العراق، حيث نسَّق وتعاون إلى أقصى حدود التعاون مع الأمبريالية الأميركية.
أما الثاني فيرى هذا الدور من خلال محاكمة كلية لمواقف النظام الإيراني، واضعين في موازين الحساب كل أدواره، وليس بعضها، حيال المواجهة مع طرفيْ التحالف المعادي: الاستعمار والصهيونية، استناداً إلى سلوكاته في كل من لبنان ضد الصهيونية، والعراق ضد الاحتلال الأميركي.
لقد اهتمَّ المحور الثاني باتخاذ موقف موضوعي من دور النظام الإيراني من القضايا القومية، خاصة أنه يتقاطع مع أكثر من حلقة من حلقات المشروع الأميركي الصهيوني في كل من العراق وفلسطين ولبنان، وإذا كانت فلسطين لا تُعتبر أنموذجاً مثالياً نقيس عليه الدور الإيراني لكي نفهمه على حقيقته، فإن ذلك الدور يمكن فهمه بجلاء ووضوح أكبر في كل من لبنان والعراق. ويرى هذا المحور أن الخطأ في تقدير الدور الإيراني، كما أنه يشكل إيجابية جزئية في بعض قضايانا القومية قد يشكل خطراً عليها كلها في قضايا جزئية أخرى، إذ ذاك نقطف الخطورة بعد فوات الأوان، وتتبخَّر الإيجابيات الجزئية.
من الخطأ أن نحصر موقفنا بالخطوات الجزئية الإيجابية من دون ربطها بالسقف الاستراتيجي العام لمشروع النظام الإيراني. فالخطوات الجزئية، سواءٌ أكانت سلبية أم إيجابية، مخطَّطٌ لها أن تصب في مصلحة مشروعه الاستراتيجي. فقد يوظِّف دوره الإيجابي في بعض القضايا العربية من أجل خدمة مشروعه العام. إذ أنه كما يقدِّم خدمات لبعض قضايانا علينا أن لا نغفل الاحتمال بأن يكون الهدف من تقديمها هو توظيفها لمصلحته الاستراتيجية. ففي مثل هذا الاحتمال، وإن كانت خدماته تفيدنا تكتيكياً إلاَّ أنها ستلحق الضرر بقضايانا الاستراتيجية.
ولكي نحدد الدور السياسي الإيراني بدقة، يتوجَّب علينا أن نعرف مضمون أهداف النظام الإيراني الإيديولوجية، أي أهدافه الاستراتيجية أولاً، وننظر إلى دوره بشكل أشمل وأوسع. فما هو هذا المضمون؟
معرفة الأسس الإيديولوجية للنظام السياسي في إيران مدخل ضروري لمعرفة أهدافه السياسية
إن كنا نبتعد كقوميين علمانيين عن تسمية الأسباب بمسمياتها، لدقة حساسيتها في ثقافتنا، إلاَّ أنه أصبح مفروضاً علينا أن نسميها بمسمياتها الحقيقية لأغراض التشخيص الموضوعي السليم. إن أهداف إيديولوجيا النظام الإيراني تؤسس لقيام نظام سياسي شيعي عالمي، على قاعدة تشريع قيام دولة سياسية في مرحلة الغيبة الكبرى للإمام «محمد المهدي المنتظر»، ويقودها «الفقيه العادل» الذي يُعتَبَر نائبه طالما لم يظهر. وتلك النظرية أصبحت معروفة بنظرية «ولاية الفقيه»، التي يتم تطبيقها في إيران، وهي تعتبر المجتمعات الشيعية في العالم التي تؤمن بتلك النظرية امتداداً للمرجعية الحاكمة في إيران. وإن الخطاب الإيراني السياسي الداعي إلى قيام وحدة إسلامية، أو دولة إسلامية عالمية، ليست إلاَّ غلافاً تكتيكياً، ينقض أهدافه ما جاء من تعليمات دينية مذهبية صارمة في نص تم توزيعه تحت عنوان «الوصية الإلهية» التي أذيعت بعد وفاة الإمام الخميني.
إن مضمون تلك الإيديولوجيا يقتضي بناء مرجعية مركزية سياسية لشيعة العالم تلتزم بأوامر الفقيه العادل، وهذه المرجعية تتمثَّل بالنظام الإيراني، يحتل علي الخامنائي مركز «نائب الإمام»، إذ يمثل المرجعية الدينية العليا الذي يلتزم بفتاويه كل الذين يقلدونه. ويمثل فيه رئيس جمهورية إيران مركز الحاكم السياسي. وتلتزم المجتمعات الشيعية في العالم، التي تؤمن بنظام «ولاية الفقيه» بتنفيذ «التكليف الشرعي» الصادر عن مرجعية علي الخامنائي، التي هي أوامر ملزمة يُحرَّم مناقشتها.
إن قيام نظام سياسي، على تلك الأسس الأممية، يجعل حدود الدول القومية الحديثة غير ذات صفة قانونية إذ يحق للمرجعية الدينية والسياسية في داخل النظام السياسي الإيراني أن تخترقها، وتستبيحها، وأن تغزوها أيضاً، كما يجعل من شيعة العالم رعايا من رعاياه، من واجبها أن تلتزم بالولاء لمرجعيته، وهذا يكون على حساب الولاء لأوطانها. إن تلك الإيديولوجيا، هي بلا شك، معادية تماماً لكل وحدة قومية ويكون من أهمها الوحدة القومية العربية.
كما أن تشريع الدولة الإسلامية لا بدَّ من أن يستند إلى الفقه الشيعي الإثني عشر، الذي كما هو يتعارض بأكثر جوانبه مع فقه المذاهب الإسلامية الأخرى، فإنه يتناقض أيضاً مع علمنة الأنظمة السياسية للدولة المدنية الحديثة، التي لا تستقيم العدالة فيها بين مواطنيها من دونها. ولهذا أعلن بعض القادة التابعين لنظام ولاية الفقيه في إيران أن «العلمانية والصهيونية وجهان لعملة واحدة».
فدولة «ولاية الفقيه» تقف في موقع العداء التام ضد مسألتين، لا يمكن للدولة القومية العربية أن تقوم إلاَّ عليهما، وهما: الوحدة الوطنية والقومية جغرافياً ومجتمعياً، ووحدة التشريع المدني الذي يتساوى فيه كل المواطنين بالحقوق والواجبات.
إن الاعتقاد بحرية الدول والشعوب في بناء أنظمتها السياسية، يقودنا إلى احترام حرية الشعب الإيراني في اختيار النظام السياسي الذي يريد داخل حدود إيران الجغرافية المعترف بها دولياً. ولكن بما أن إيديولوجيا النظام تحمل أبعاداً أممية دينية، على الشيعة في العالم، وتشكل مشروعاً «إلهياً»، نجد فيها خطورة بالغة على مجتمعنا العربي، لأن النظام الإيراني يُلزم الشيعة العرب في الولاء والعمل على القفز فوق مرجعياتهم القومية والوطنية إلى الولاء للنظام الإيراني.
كانت تلك المقدمة الفكرية ضرورية من أجل الدخول لتحديد تعريفنا للدور السياسي الإيراني الراهن.
الدور السياسي للنظام الإيراني ترجمة لإيديولوجيته الفكرية
لا يمكن لإيديولوجيا ذات أبعاد عالمية أن تنجح من دون استراتيجية سياسية تتناسب مع حجم المهمة الإيديولوجية، ويأتي على رأسها أن تكون المرجعية الفكرية والسياسية، التي تمثل مركزيتها الدولة الإيرانية، قوية وقادرة وذات نفوذ في محيطها الجغرافي. ولهذا تعمل إيران في هذه المرحلة من أجل أن تكون قوية وقادرة في محيطها الجغرافي، ومن أهمه الوطن العربي، وبخاصة منه أقطاره الشرقية، ويشكل العراق بوابتها الرئيسية بفعل عاملين أساسيين، وهما:
-العامل الجغرافي بحيث إن الخليج العربي يشكل حاجزاً مائياً بين إيران والوطن العربي، وليس لإيران حدوداً برية مع الوطن العربي إلاَّ عبر الحدود مع العراق.
-والعامل الاجتماعي بحيث يسكن الشيعة العراقيون في جنوب العراق الذي هو امتداد جغرافي بري مفتوح على إيران. وبمثل هذا العامل يخطط نظام ولاية الفقيه في إيران لتقوية نفوذه بين شيعة العراق، ليفتح له بوابات العبور إلى الأرض العربية.
هنا نرى من المفيد أن نضيء على مقارنة بغاية من الأهمية تساعدنا على فهم ما يجري بين العراق وإيران، وبالتالي بين إيران والوطن العربي. وتستند تلك المقارنة إلى لأبعاد الإيديولوجية التي تؤمن بها الأحزاب والتيارات القومية، ومنها ما يؤمن به حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان يقود النظام السياسي في العراق قبل الاحتلال.
إيديولوجيا حزب البعث قومية تحصر أهدافها ووسائل نضالها من أجل مصلحة المجتمع العربي وداخل حدوده الجغرافية. ولهذا فقد حددها دستور الحزب في الماد السابعة، تحديداً دقيقاً، وقد جاء فيها بالنص: «الوطن العربي هو هذه البقعة من الأرض التي تسكنها الأمة العربية، والتي تمتد ما بين جبال طوروس وجبال بشتكويه وخليج البصرة والبحر العربي وجبال الحبشة والصحراء الكبرى والمحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط». أما الحدود المجتمعية فقد جاء عنها في المادة الثالثة من الدستور، ما يلي: «الفكرة التي يدعو إليها الحزب هي إرادة الشعب العربي في أن يتحرر ويتوحد، وأن تعطى له فرصة تحقيق الشخصية العربية في التاريخ وأن تتعاون مع سائر الأمم على كل ما يضمن للإنسانية سيرهم القويم إلى الخير والرفاهية». وفي المادة العاشرة: «العربي هو من كانت لغته العربية، وعاش في الأرض العربية أو تطلع إلى الحياة فيها، وآمن بانتسابه إلى الأمة العربية». أما في مادته الحادية عشرة، فقد نصت على أن: « يجلى عن الوطن العربي كل من دعا أو انضم إلى تكتل عنصري ضد العرب وكل من هاجر إلى الوطن العربي لغاية استعمارية».
إن هذه النصوص تثبت بما لا شك فيه، أن الحزب لا يطمع بأية قطعة أرض خارج الحدود الجغرافية للوطن العربي. كما أنه ليست من أهدافه أن يضم إلى المجتمع العربي من لا يؤمن بالقومية العربية. وكل هذا يعني أن العراق بقيادة حركته القومية، وخاصة نظام حزب البعث، ليست له أية مطامع جغرافية في الأرض الإيرانية، أو غيرها من أراضي دول الجوار الجغرافي الأخرى.
وفي المقابل، إن إيديولوجيا النظام الإيراني ذات بُعدين: البعد المذهبي الذي يعتبر أن شيعة العالم هم امتداد له، والبعد الأممي الذي يعتبر أن بناء دولة إسلامية أممية لا يمكن أن يتحقق من دون توسيع حدود إيران الجغرافية. ولأن في العراق تتوفر شروط أنموذجية للبعدين: الجوار الجغرافي البري، والتجانس المذهبي في جنوب العراق، ففيهما ما يُثبت أطماع النظام المذكور في أرض جيرانه الأقرب منهم فالأبعد.
استراتيجية النظام الإيراني السياسية عدائية ضد القومية العربية تعمل على تنفيذها في العراق
منذ أن انتهت الحرب الإيرانية العراقية في العام 1988، ظلَّ الالتباس حول من بدأ العدوان سائداً في أوساط المثقفين العرب وحركاتهم السياسية، بينما كان نظام حزب البعث العربي الاشتراكي السياسي في العراق يعمل جاهداً من أجل بناء علاقات الجوار الحسن مع النظام الإيراني، وتلك وقائع موثَّقة ومؤكدة، ولعلَّ الطلب بإيواء الطائرات العراقية، المدنية والحربية، عند إيران في أثناء العدوان الثلاثيني على العراق في العام 1991، دليل على حسن نوايا قيادة الحزب والثورة في ذلك التاريخ. أما البرهان على عدوانية النظام الإيراني فكانت ماثلة في رفضه إعادة تلك الطائرات إلى الحكومة العراقية بعد انتهاء العدوان. لكن هذا لم يمنع النظام السياسي في العراق من الإصرار على متابعة سياسته في نسج العلاقات الإيجابية مع النظام الإيراني، فيما بعد، لعلَّ أبرزها تسهيل زيارة الحجاج الإيرانيين إلى العتبات المقدسة في النجف وكربلاء والكوفة وسامراء...
وظلَّت مبادرات حسن النوايا مستمرة حتى ليل 19 20/ 3/ 2003، بداية العدوان الأميركي والبريطاني والصهيوني على العراق، وبعد احتلال بغداد، أخذت تتسرَّب مظاهر الدور الإيراني في مساعدة العدوانيين على احتلال العراق، ومن ثم أعلنت بشكل واضح، حيث اعترف أكثر من مسؤول إيراني بذلك، بأنه «لولا إيران لما استطاعت أميركا الدخول إلى كابول وبغداد»؟
تؤكِّد الأهداف الإيديولوجية والسياسية والعملية للنظام الإيراني عدوانيته بشكل ظاهر وواضح، وهذا ما يدفعنا إلى البناء عليها في تحليل الدور الحقيقي الذي تمارسه إيران في العراق اليوم، وعليها سنقوم بتفسير أسباب الالتباسات التي حصلت، ولا تزال، في الجدال الدائر بين من ينظرون إلى الدور الإيراني بعين الإيجابية، والذين ينظرون إليها بعين السلبية.
إن الموقف والسلوك من قضايا العرب الكبرى هو المكيال الذي نحدد على أساسه التناقض الرئيسي
للأمة العربية مصلحة استراتيجية، وأبدية، في حماية سيادتها على أرضها وثرواتها وحريتها في اختيار نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وتطلب من الدول الأخرى أن تحترم تلك الخيارات كشرط مسبق لعلاقات إيجابية تسهم في بناء عالم مستقر وآمن. وكل دولة لا تحترم تلك الخيارات تقع حتماً في دائرة التناقضات الرئيسية، ومن واجب الأمة العربية أن تعد موجبات المواجهة مع تلك الدول والقوى.
هذا التعريف يقودنا إلى وضع الصهيونية والإمبريالية في مصاف الدول والاستراتيجيات المعادية للأمة العربية لأنها تعمل على تهديم كل ما يتناقض مع مصلحة الأمة، بدءاً باغتصاب أرض فلسطين، مروراً بسرقة الثروات العربية، وتنصيب أنظمة سياسية لا تستجيب لمصلحة الأمة، وكانت أكثر المظاهر عدائية هو ما حصل في احتلال العراق بطريقة عسكرية مباشرة.
وعلى الافتراض العلمي والموضوعي، نقول: إذا أقلعت الصهيونية والإمبريالية عن ممارسة العدوان على مصلحة الأمة القومية، بعناصرها كلها أو بعضها، هل نبقيها في دائرة التناقض الرئيسي؟
نحن لا نحدد عوامل التناقض الرئيسي مع الآخرين بهويتهم القومية أو الدينية، أي نحن لا ننظر لأميركا والشعب الأميركي نظرة العداء لأنهم أميركيون، كما لا ننظر إلى الصهيونية والشعب اليهودي بعين العداء لأنهم يهوداً، وإنما نحددها بمواقفهم من قضايانا. فلأن أميركا تعتدي على مصالحنا ننظر إليها بعين العداء، وكذلك بالنسبة لليهود. فهم متى امتنعوا عن السطو على مصالحنا، نمتنع نحن عن النظر إليهم بعدائية، بل اعتبارهم أصدقاء.
ما هو موقع النظام الإيراني من مصالح الأمة القومية والوطنية في خياراتها الداخلية؟
إن إيران، قبل كل شيء، جار جغرافي وجار ثقافي تاريخي، يكفي أن يتوفَّر فيها شرط الجوار الجغرافي ليدفعنا إلى الحرص على بناء علاقة «الجوار الحسن» معه، لأنه لا يجوز على الإطلاق أن يبقى «جاران أبديان» على علاقة توتر دائم، لأنهما سيدفعان ثمناً من أمنهما واقتصادهما، ولنتصور فداحة هذا الثمن إذا كانت كل دولة على علاقة توتر مع جيرانها؟
إن من شروط الجوار الحسن أيضاً أن يتعاون الجاران على حماية بعضهما البعض، وفي أسوأ الحالات ألاَّ يشارك الجار أية قوة معتدية على جاره، فيكون موقف الحياد هو «أضعف الإيمان». أما الأسوأ في كل ذلك فهو أن يشارك الجار عدواً مشتركاً في العدوان على جاره.
فهل في العمق الإيديولوجي والسياسي والسلوكي ما يوحي بأن إيران تسعى من أجل «جيرة حسنة» مع العراق والأمة العربية؟
في الإطار النظري الإيديولوجي والسياسي، كأهداف استراتيجية للنظام الإيراني، تبيَّن أن مصلحة إيران تتناقض مع مصلحة الأمة العربية في الوحدة السياسية وفي حماية الحدود الجغرافية وحماية وحدة المجتمع العربي، لأن نظام الطائفية السياسية هو بحد ذاته يتناقض كلياً مع وحدة المجتمعات القومية والوطنية، وحيث إن النظام الإيراني يسعى من أجل بناء دولة دينية يكفي أن يكون عاملاً للتفتيت، ليس على وحدة المجتمع الوطني فحسب، بل وحدة المجتمع الديني أيضاً، إذ تبدأ الإشكالية تصطدم بأرض الواقع عندما يجري التنافس والصراع حول أي فقه ديني سيكون أساساً للتشريع، وتتعمَّق أكثر عندما يبدأ الصراع حول أي فقه مذهبي سيكون الأساس.
لم تقف أهداف النظام الإيراني عند حريته في بناء النظام السياسي الذي يختاره الشعب الإيراني، لأنه لو توقف الأمر عند هذا الحد، لما كان الأمر يعنينا بشيء، لأننا سنحترم حتماً حريتهم في خياراتهم. لكن الأمر تعدَّى تلك الحدود، قبل الاحتلال الأميركي، وبداية لعدوانهم في العام 1980، إذ بدأوا تحريض شيعة العراق، وشكَّلوا مجاميع من عملائهم للعبث بالأمن الداخلي العراقي كمقدمة لعدوان كان مبيتاً من أجل تعميم نظام «ولاية الفقيه» في العراق كمرحلة أولى. واستأنفوا مشروعهم الطائفي السياسي عندما أدخلوا عملاءهم تحت عباءة الاحتلال الأميركي في العام 2003، فمارسوا الاعتداءات على العراقيين، وحولوا ساحة العراق إلى ميدان للصراع الطائفي، وكانوا أكثر المتحمسين لإقرار الدستور العرقي على أسس طائفية، ناهيك عن حماسهم في إقرار النظام الفيدرالي بتقسيم العراق إلى كانتونات طائفية، من أجل تطبيقها افتعلوا كل الأسباب، وسلكوا كل وسائل الإجرام في التهجير الطائفي من أجل تثبيت كانتون شيعي في العراق يدين بالولاء لمرجعية نظام «ولاية الفقيه» في إيران بأبعاده الأممية. وهو أول الغيث، فيما لو استقرت الأمور لهذا المشروع، من أجل تعميمه على أقطار الأمة العربية الأخرى.
ما هو موقع النظام الإيراني من مصالح الأمة القومية والوطنية في خياراتها التحررية؟
إن الالتباسات الأساسية التي أسهمت في وجود المواقف المتباينة من سلامة مواقف النظام الإيراني في هذه المرحلة تجاه قضايا الأمة العربية، تتلخَّص في مظاهر الدعم الذي قدَّمه، والذي لا يزال يقدمه، لحزب الله في لبنان، من أجل مواجهة العدو الصهيوني.
لقد استند المدافعون عن سلامة المواقف الإيرانية التحررية إلى عامل النصر الذي حققه حزب الله في لبنان في مرحلتين: فرض الانسحاب على العدو الصهيوني في أيار من العام 2000، والصمود التاريخي في مواجهة العدو في 12 تموز من العام 2006.
من دون نقاش أو مقدمات أو نقد للتفاصيل، نعتبر أن لهذا النصر نتائج تعود بأفضل الإيجابيات على معنويات الجماهير الشعبية العربية، كما على تقديم استراتيجية للمواجهة مع العدو الصهيوني تسفِّه كل مقولات النظام العربي الرسمي. وكانت تلك المواجهات التي خاضها حزب الله، بدعم إيراني وسوري، تصب في مصلحة الأمة العربية من دون شك، وكانت إسهاماً جدياً في معركة المواجهة مع الصهيونية، وعلى حركة التحرر العربية أن تستفيد منه.
من هذا الموقع الجزئي، وفيما لو كان يمثل الموقع الوحيد في المواجهة مع الصهيونية والأمبريالية، لكان من الخطأ أن نرشق النظام الإيراني بوردة تسيء إليه، بل كان من الواجب الاعتراف بأنه أسهم بإنجاز أفضل المواجهات مع العدو الصهيوني، كونه يمثل التناقض الرئيسي مع الأمة العربية. ولكنه كان موقعاً واحداً من مواقع المواجهة، ومن أهمها موقع المواجهة الكبرى التي تخوضها المقاومة الوطنية في العراق ضد الاحتلال الأميركي. ومن هنا تبدأ الالتباسات في تعريف موقع النظام الإيراني في خريطة المعركة التحررية العربية.
إن تناقض الأمة العربية الرئيسي ينحصر في رأسين اثنين: الاستعمار الأميركي، والاستيطان الصهيوني.
وفي المقابل، علينا الاعتراف بأنهما يشكِّلان التناقض الرئيسي في إستراتيجية النظام الإيراني، كما هو ظاهر في الخطاب الإيديولوجي والسياسي للنظام المذكور. فالخطاب الظاهر يشير إلى أن الوجود الصهيوني في فلسطين هو «الغدة السرطانية» التي يجب اقتلاعها وإزالتها من الوجود، وإقران النظام الإيراني القول بالفعل عندما وفَّر كل الإمكانيات المادية والتسليحية التي أتاحت لحزب الله، ولمجاهديه الأبطال، أن ينجزوا ما أنجزوه من انتصارات لكل جماهير الأمة العربية. وهو إذاً يعمل على اقتلاع تلك «الغدة».
أما موقف النظام الإيراني في العراق قبل الاحتلال الأميركي وبعده فهو موقف مختلف تماماً، وفيه يبرز بوضوح التناقض الحاد. إذ يعتبر النظام الإيراني في إيديولوجيته وخطابه أن الولايات المتحدة الأميركية هي «الشيطان الأكبر»، فهل يُقرن النظام الإيراني القول بالفعل في محاربة «الشيطان» الذي يقبع على أرض العراق؟
إننا لا نرى أن النظام يقوم بما يعلن، ونستدل على ذلك من القرائن التالية:
-التنسيق مع الشيطان الأكبر قبل العدوان، إذ لولاه لما «دخل إلى كابول وبغداد». فهل من المنطقي أن يكون هذا الدور التنسيقي بين «الملاك» و«الشيطان» مجرد كلام يلامس آذاننا، ولا نتوقف عند أعماق أهدافه؟
-في الوقت الذي كانت دماء العراقيين تسيل، وأرواحهم تُزهَق، وصواريخ «الصدمة والرعب» تؤرق ليل أطفال العراق ونسائه وشيوخه، كانت أعلام من ربَّاهم ودرَّبهم النظام الإيراني طوال سنوات على أرض إيران ترفرف تحت حماية قوات الاحتلال الأميركي. وهل تخفى رايات «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق»، بقيادة آل الحكيم، وقواتهم العسكرية والأمنية المنتسبة تحت لواء «فيلق بدر»؟ وهل تخفى رايات «حزب الدعوة الإسلامية» الذي أعطى للاحتلال أهم كوادره، كمثل ابراهيم الجعفري، ونوري المالكي، وغيرهم، لكي ينصبَّهم الاحتلال الأميركي على رأس حكومات لخدمته والتستير على جريمته كمحتل؟
أكان دور هؤلاء أن يتعاونوا مع الشيطان أم كان عليهم أن يقاتلوه؟ وهل ينفع الزعم الإيراني بأن هؤلاء عراقيون وهم أحرار بما يقومون به؟ وهل يتناسى النظام الإيراني بأن هؤلاء يلتزمون بـ«التكليف الشرعي» لـ«ولاية الفقيه»؟
-من مبادئ الأخلاق المعروفة أنك إذا لم تقاتل الشيطان، لسبب أو آخر، فعليك أن تدعو بالنصر للذي يقاتله، أما أن تقاتل من يقاتل الشيطان، فهذا ورب الكعبة من الأمور العجاب. وهل كانت التنظيمات التابعة لإيران إلاَّ الأداة التي كانت تلاحق المقاومين، وتقتلهم أو تأسرهم أو تهجرهم من قراهم ومدنهم، في الوقت الذي كانت توفِّر الحماية لجنود «الشيطان»؟
-من مبادئ القانون الدولي أن أي احتلال لا يجوز أن يكتسب شرعية في احتلال بلد آخر. وعلى الرغم من ذلك، قام بسلسلة من الخدع لتشريع وجوده، بمساعدة من «الشياطين الصغار» الدوليين، ولكانوا فشلوا في تمرير خدعهم لولا أن وضعت التنظيمات التي تأتمر بأوامر النظام الإيراني كتفاً أساسياً في المشاركة بكل مراحل ما يسمونه بـ«العملية السياسية»، بدءاً بتشريع قوانين بول بريمر، وإجراء انتخابات غير شرعية لتنصيب حكومات يحمي المشاركون فيها قوات الاحتلال والمطالبة ببقائها، والبصم على ما سموه «الدستور العراقي»، ذلك الدستور الذي شرَّع تمزيق وحدة العراق، بتعميم مبادئ المحاصصة في الحكم، وتوزيع أرض العراق وثرواته حصصاً طائفية.
-وهذا البعض من الوقائع هل يعفي النظام الإيراني من المسؤولية؟ هل تعفيه أسباب تقول إن النظام الإيراني يعمل من أجل مصلحته، والدول التي تعمل من أجل مصلحتها فهي غير مذنبة. أو القول إننا بدلاً من أن نلوم إيران علينا أن نلوم النظام العربي الرسمي الذي تآمر وتواطأ مع الاحتلال ضد أمتهم العربية.
إذا كان عمل النظام الإيراني لمصلحته مسألة شرعية ومعترف بها. فلماذا لا نشرِّع للولايات المتحدة الأميركية وللصهيونية أعمالهم لأنهم يعملون من أجل مصالح دولهم؟
هل تناسى المعترفون بشرعية قيام النظام الإيراني لضمان مصالحه، أنه يتعاون مع الشيطان الأكبر الذي لم يطلق عليه النظام الإيراني هذا اللقب إلاَّ لأنه يعمل لضمان مصالحه على حساب مصالح الشعوب الأخرى؟
فهل يجوز للنظام الإيراني أن يضمن مصالحه على حساب «ذبح العراق» بالتعاون مع أية جهة حتى لو كانت «الشيطان الأكبر» بذاته؟
وهل من الأخلاقية الإنسانية والدينية أن يدافع المظلوم عن نفسه بممارسة الظلم على الآخرين؟
وهل يجوز أن نبرر للذئب وحشيته في افتراس «قطيع من الغنم» لأن راعيه قد عجز عن حماية قطيعه؟
وأخيراً، وليس آخراً، نتمنى ألاَّ يغطي فعل إيجابي قام به أي فرد أو جماعة أو دولة على أخطاء يقوم بها. وهكذا فمن غير الجائز أن يغطي الفعل الصائب للنظام الإيراني في مساعدة حزب الله في مواجهة العدو الصهيوني لنعطيه براءة ذمة عن جريمته التي يرتكبها في العراق.
ومن غير الجائز أن نعطيه براءة ذمة من أنه يساعد في قطع ذنب الأفعى في فلسطين، ويمتنع، بل يمنع الآخرين من قطع رأسها في العراق وحمايته. فالأفعى تبقى حية من دون ذنب، لكن الذنب يفنى إذا قُطع الرأس. وهذا يجعلنا نستنتج، حتى يثبت العكس، أن النظام الإيراني يتلاعب بعقولنا عندما يخوض معركة «الغدة السرطانية» ويمتنع عن خوض المعركة الكبرى مع «الشيطان الأكبر».
ونحن عندما نؤشر على أعماق التناقض الخطير، الذي يمارسه النظام الإيراني، والذي تبقى الأوساط السياسية والفكرية عاجزة عن كشفه، فإنما نسلك طريق الرؤية الموضوعية المبنية على التساؤل التالي: أوَلم يكن الله، جل جلاله، عادلاً عندما نصب موازينه ومكاييله في محاسبة الإنسان على كل أفعاله وليس بعضها: فالحسنة بمثلها وأما السيئة فبالعقاب؟
-->

ليست هناك تعليقات: