السبت، فبراير 27، 2010

مهمة ميليس إلى أين؟

-->
مهمة ميليس إلى أين؟
20/ 9/ 2005
من مبادئ السياسة التي نؤمن بها أنها ترفض على الإطلاق كل وسائل الاغتيال السياسي. وبناء عليها رفضنا اغتيال رفيق الحريري، رئيس الوزراء اللبناني الأسبق. ليس هذا الأمر فحسب بل نطالب بكشف الغطاء عن الجناة أياً كانوا.
ومن مبادئ السياسة أيضاً التي نؤمن بها أنها تتمسك بالسيادة الوطنية بكل تفاصيلها وزواياها. وبناء عليه رفضنا أية هيمنة، أياً كانت، على القرار اللبناني السياسي والأمني والاقتصادي.
ومن مبادئ السياسة التي نؤمن بها أن يُنتج الشعب اللبناني مؤسساته السياسية لتكون خادمة لمصالح أكثر الطبقات الشعبية المسحوقة. وأن لا تكون مرتهنة لزعماء الطوائف السياسية، أو لأرباب المال السياسي.
ثلاثة ثوابت على أساسها نكيل موقفنا السياسي ما يجري في لبنان الآن. فكل ما يتجاوب معها فهو مقبول، وكل ما يتناقض، أو يتعارض معها، فهو مرفوض. فهل هناك من مقاربة بين تلك المبادئ وما يجري فعلاً على الساحة اللبنانية في هذه اللحظة التي يصول رئيس لجنة التحقيق الدولية في خبايا لبنان وأسراره ويجول؟ يأمر وينهى، ويحدث عاصفة هنا أو هناك، يحمل سيف ما يُسمى بمهمة كشف الحقيقة عن اغتيال رفيق الحريري. وهل فعلاً يشكل الكشف عن تلك الحقيقة الهدف الأساسي لرئيس لجنة التحقيق الدولية؟ 0نامل ذلك.
بداية، لكي نفتش عن الجواب لا بدَّ لنا من أن نعرف من هي الجهة التي كلَّفت ميليس بمهمته. ولنكشف عن هوية الجهة اللبنانية التي باركت تكليف لجنة دولية للقيام بمهمة التحقيق، وراحت تراهن عليها وكأن تلك اللجنة شديدة الحرص على مهمة جنائية تأمل من وراء نجاحها خدمة الإنسانية في لبنان.
لم تسكت الإدارة الأميركية دهراً عما كان يجري في لبنان من أخطاء وهيمنة وقمع فحسب، وإنما كانت تحيطها بجدار من البركة عليها والرضا عنها أيضاً. ولم تكن الجهات اللبنانية، باستثناء قلة منها، إلاَّ شريكاً فاعلاً في كل ما كان يجري، بل ومستفيدة منه، وساكتة عنه. ذلك ما يطرح التساؤل عن السبب الذي دفع بهما معاً إلى رفض ما كانا يباركانه ويشاركان فيه. فهل كان الدافع هو أنهما مارسا نقداً ذاتياً فاكتشفا موطن الخلل فوضعا خطة للتصحيح؟ وهل كانت مصلحة لبنان هماً يؤرقهما فعملا على إسقاط عصر الأخطاء والهيمنة الاستخباراتية السابق؟
لم تكن الإدارة الأميركية ساكتة بل ومباركة في السابق لما جرى في لبنان فحسب، لأن ما كان حاصلاً كان بتخطيط منها أيضاً، هذا إذا لم يكن المخطط مفروضاً على كل اللبنانيين فرضاً أميركياً باستثناء المستفيدين القلة من نخب الطوائف والمال والسياسة وأصحاب المصالح، أولئك ممن كانوا يشكلون أمراً واقعاً في حياة لبنان السياسية. وكان من أهم أهداف مباركتها وفرضها لما فرضت، أن تعطي سوريا بيد في لبنان لتأخذ من الأمة العربية باليد الأخرى ما يماثل أضعاف ما تعطي. ولما ابتدأ الخلل في موازنة الأخذ والعطاء يستشري بينهما راحت الإدارة الأميركية تعمل على فرض معادلات جديدة تعيد التوازن إلى معادلة الأخذ والعطاء. فكانت من نتائجه المتغيرات الدراماتيكية والمتسارعة التي حصلت في لبنان بما يشبه الزلزال في أقل من سنة من الزمن ابتدأت مع ضغط أميركي على الهيئة الأممية لإصدار القرار 1559، ولن ينتهي بحصولها على أغلبية في البرلمان اللبناني الأخير، لأن الآتي الأميركي على لبنان هو أعظم. ففي كل ما جرى، ويجري، كانت العين الأميركية على لبنان وقلبها في العراق.
أما الأوساط اللبنانية، فبعضها منخرط في مشروع أمركة العالم، وبعضها كان متضرراً ومحذوفاً من المعادلة السياسية اللبنانية لأسباب رفضه الأمر الواقع السياسي السابق، وبعضها قلَّت حصته وتضاءلت فراح يستقوي بالإدارة الأميركية لتصحيح الخلل الحاصل. ولما اختلت معادلة الأخذ والعطاء، العرض والطلب بين العهد السابق والإدارة الأميركية التي راهن الأميركيون على استمرارها، تلاقت مصلحة المشروع الأميركي العليا مع مصالح المتضررين اللبنانيين من نتائج الأمر الواقع، فشكل التحالف بينهما عاملاً ضاغطاً عمل على تغيير المعادلات الداخلية والخارجية.
كان الوضع في لبنان، تاريخياً، يقوم على معادلة الاستقواء بالخارج. فلم تصل شريحة من شرائحه سواءٌ منها السياسية أم الطائفية، إلاَّ بعامل استقواء خارجي، تقوى بقوته وتضعف بضعفه. فكانت نقطة الضعف فيها أنها لم تخطط لتكون قوية بعوامل شد الروابط الوطنية فيما بينها. فسقطت الواحدة تلو الأخرى. ولكن ما لم يسقط هو أن القوى الأخرى لم تتعلم من دروس التاريخ، ولذلك نراها تستقوي اليوم بالعامل الأميركي وتراهن على أنه سيأتي للبنان بالخير والبركة، بالرخاء الاقتصادي والديموقراطية. فهم لم ينظروا إلى الرخاء الذي وعدوا به العراقيين، ولم يلتفتوا إلى نوع الديموقراطية التي تطبق على أرضه.
تلك هي قصة ما جرى في لبنان، ولا يزال يجري، ولن ينتهي فصولاً إلاَّ بصياغة مؤسسات سياسية وأمنية تستجيب لمصالح المشروع الأميركي المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمشروع الصهيوني. ولن نتردد في القول إن للعدو الصهيوني مصلحة في كل الترتيبات التي ستفرضها الإدارة الأميركية في لبنان.
فإذا كانت حادثة اغتيال الحريري أسست لإنجاح المخطط بسرعة فإنها، في روزنامة التحالف المذكور، ليست في القلب منها، بل هي وسيلة إلهاء دائمة لكي تحرف النظر عن الأهداف الحقيقية، التي لم تعد مستورة أو خافية إلاَّ على الذين لا يريدون أن يروا «الحقيقة» الحقيقية. ولهذا السبب تلطى المشروع الأميركي تحت دخان كشف «الحقيقة» الصغرى بـ«أدخنة جنائية» لكي يوفر شروط تمرير الحقيقة الكبرى، التي ليست إلاَّ ربط لبنان ربطاً وثيقاً بمشروع «الشرق أوسطية». فأوكلت إدارة جورج بوش تلك المهمة للجنة دولية يرأسها ميليس، القاضي الألماني، الذي لم يأت به المشروع الأميركي لأهداف جنائية بل أتى به كوسيلة ضغط جنائي لتمرير أهداف سياسية، في حال نجاحها تنفتح أبواب الاستغلال السياسي والاقتصادي أمام الاخطبوط الأميركي على أوسع مدياته. في هذا الجو اتى تكليفه
أما من أهم مظاهر ما يجعلنا نؤكد أن لجنة التحقيق الدولية التي يرأسها ميليس هي ذات أغراض سياسية:
1-القاضي ميليس، قاض سياسي، وهو لا يحمل للعرب. وقد كشفت بعض التقارير الواردة من ألمانيا، وبالأدلة الملموسة، ذلك الحقد.
2-رفض مخططو المشروع الأميركي، الذي يجتاح العالم اليوم، التوقيع على إنشاء «المحكمة الجنائية الدولية» وذلك لكي يتحصِّن المسؤولون فيها ضد أية محاكمة بتهم جرائم الحرب. والإدارة الأميركية بالتالي لم تعترف بكل الهيئات القانونية والحقوقية الدولية لكي لا يتعرض مسؤولوها للمثول أمامها. وهذا ما يطرح التساؤل: إن الإدارة الأميركية التي تتهرب، بل وتمنع كل مؤسسات العدالة الدولية من القيام بصلاحياتها، كيف اجتاحتها الغيرة لتطبيق العدالة الدولية في لبنان، بينما ترفضها في أميركا. إنه منطق الأقوى، وإنه الحق للأقوى.
3-على الرغم من أنها تمس السيادة الوطنية عندما ترفض إدارة جورج بوش تسليم المهمة للقضاء اللبناني، وتشكك فيه، نقول: يا ليت مهمة ميليس تكون قضائية أو جنائية حقوقية. ولكن للأسف ليست هي كذلك، وإن كل دعوة لمنع تسييس مهمته هو وهم وليس أكثر من وهم. فمتى تجرَّدت مهمته عن أهدافها السياسية لانتفت فائدة الإدارة الأميركية منها.
إن مهمة ميليس السياسية تبدو واضحة. فقد ترافقت مهمته إلى سوريا مع قصف سياسي يمارسه «زلمان خليل زاده»، الذي يُسمى سفير الولايات المتحدة الأميركية في العراق. ويساعده في القصف جواً كل ممن يُسمون وزير الدفاع العراقي ووزير الخارجية. ومن أهم مظاهرها تصريح «زلمان خليل زاده» أن صبر الإدارة الأميركية قد نفذ. وترافق مع تصريح آخر يهدد باستخدام الخيار العسكري ضد سوريا.
وهكذا استخدم الأميركيون ثلاثة قواعد ضغط للحصول على ما يريدونه. وأهم ما يريدون هو رأس «الفكر المقاوم» واجتثاثه من خلال تجفيف كل بقعة ماء توحي بأنها تعمل على مساعدته ومده بأسباب البقاء والاستمرار. وهي لهذا السبب تعمل على تجريد أية جهة كانت من أوراق ضاغطة تملكها تتعلق بالمقاومتين الفلسطينية والعراقية.
قاعدة ميليس «الجنائية»، وقاعدة «زلمان خليل زاده» الديبلوماسية، وقاعدة عملاء أميركا في العراق كغطاء عسكري، كلها قواعد فتحت النار مرة واحدة ضد كل من يُشتمُّ أنه يدعو للمقاومة العراقية بالنصر حتى ولو بقلبه، أو يشد من أزر المنظمات الفلسطينية التي تتمسك ببندقية المقاومة. فمهمة ميليس تفجير قنابل دخانية تلهي بها الساحة السياسية في لبنان وتربكها، وفيها من الألغام السياسية الشيء الكثير. ومهمة «زلمان خليل زاده» توجيه الإنذارات إلى سوريا بدعم من رئيسته «كوندوليزا رايس». ومهمة عملاء أميركا في العراق العمل على التضييق على المقاومة العراقية، وهي تجتاح منطقة الأنبار ابتداء من تلعفر، وانتهاء بقفل الحدود السورية العراقية مروراً باتهام سوريا بأنها «بوابة الشر» للعراق.
لا تخفى على المتابع أن إبقاء الساحة اللبنانية منشدَّة إلى متابعة الحدث المحلي من أجل التعتيم على الأحداث التي يمر بها الوطن العربي من فلسطين إلى العراق لإلهاء الرأي العام العالمي عن ساحة التوتر الحقيقية، وبما يعنيه هذا الانشداد من مكاسب سياسية وإعلامية لإدارة جورج بوش المأزومة. ومن أجل تحقيق هذا الغرض أجَّجت نار ما تسميه المخاوف الأمنية من اغتيالات أخرى قد تحصل في لبنان. وإن زرع تلك المخاوف ليست بعيدة عن صنع المخابرات الأميركية والغاية منها منع حلفاء أميركا من الاسترخاء لإبقائهم مشدودين بعامل الحاجة لتأمين حمايتهم ضد عدو موهوم. فوسيلة الإدارة في خلق «الفوضى المنظمة» في كل مكان تعمل على احتوائه هو خير دليل يفسر الفوضى السياسية التي تسهم في إنتاجها آلة ميليس من خلال إغراق السوق الإعلامية اللبنانية بأخبار وقرارات جديدة توزعها الأجهزة المرتبطة بالإدارة الأميركية هنا أو هناك. فالإدارة الأميركية جاهزة من أجل طي ملف أمني في لبنان أن تغرقه في ملف أمني آخر حتى ولو استدعى الأمر التضحية ببعض أصدقائها.
ليس من غريب الصدف أن يفصح سفير الاحتلال الأميركي في العراق عن نفاذ صبر الإدارة الأميركية، وأن تتسرَّب الإعلانات السياسية الأميركية مهددة باستخدام الوسيلة العسكرية لضرب أهداف في سوريا، وأن تتصاعد الإجراءات التي يقوم بها ميليس في لبنان وفي سوريا.
يقوم ميليس بإجراءات توحي وكأنه قد توصَّل إلى إثباتات جعلته قاب قوسين أو أدنى من اكتشاف «الحقيقة». بينما واقع الأمر أن توسيع رقعة الاتهامات والاعتقالات لا تخرج عن كونها إحدى وسائل الضغط من أجل التهام العراق. وهذا السبب وليس غيره هو الذي يدفع الإدارة الأميركية إلى توظيف ملف اغتيال الحريري لمصلحة استراتيجيتها في المنطقة العربية للأسباب التالية:
1-عزلتها الداخلية والخارجية، في أميركا وفي خارجها، بمظاهرها الكثيرة ومن أهمها التحركات الشعبية الأميركية المعارضة للحرب على العراق والداعية إلى سحب الجنود الأميركيين منه، وانتظاراً لاستحقاق اليوم العالمي لدعم المقاومة في العراق والمناهضة لأمركة العالم في الرابع والعشرين من أيلول، ومروراً باستطلاعات الرأي التي جعلت نسبة الذين يؤيدون الحرب على العراق لا يتجاوز الـ 38% من الأميركيين. وحالة الإرباك التي تعاني منها حكومات الدول التي تساعدها في احتلال العراق.
2-الاستحقاقات الدولية التي نصَّت عليها قرارات مجلس الدولي، والتي تنتهي في آخر العام 2005، أو أوائل العام 2006. وفيها إشارات إلى ضرورة تأهيل عملائها العراقيين لكي يتولوا شؤونهم بأنفسهم، ابتداء من التصويت على الدستور العراقي المفروض أميركياً، مروراً بإجراء انتخابات نيابية في كانون الأول القادم، انتهاءً بتشكيل حكومة عراقية تأتمر بأوامر الاحتلال، ليتم تسليمها شكلياً ملف الأمن والسياسة. وبالتالي لتشكل غطاء شرعياً، أمام حكومات الدول العظمى، وليس لها دور أكثر من أن تطلب من القوات الأميركية البقاء أطول مدة ممكنة حتى ولو في قواعد عسكرية منعزلة. وبمثل هذا الطلب يكون وجود تلك القوات صديقاً وليس محتلاً، وفي تلك القواعد توفر على الاحتلال تقديم خسائر بشرية.
إن المسافة الزمنية أمام الإدارة الأميركية أصبحت من الضيق الكبير لذا راحت تحرك ملف اغتيال الحريري وتضعه على نار حامية، لعلَّ الضغوط تعطي نتائج إيجابية بما يساعد إقفال البوابة السورية، او أية بوابة أخرى، لمنع تسرب أية مقومات تساعد على إمداد المقاومة العراقية من أجل إضعافها.
ومع أننا نحسب أننا لن نفعل شيئاً يغيِّر في المعادلات الراهنة في لبنان، خاصة وأن الأكثرية الشعبية فيه ميَّالة إلى تأييد مهمة ميليس، وهي منخدعة بأنها ستجلب لها «الحقيقة» للكشف عمن اغتال الحريري. ولأنه ليس كل تعاطف شعبي هو حق، فقد يُضلَّل الوسط الشعبي في أحيان كثيرة، فيبقى على الطليعة التي تعرف الحقيقة أن تجهر فيها من دون أن تخاف لومة لائم. وعلى أساسه نرى لزاماً على الطلائع الثورية أن تجهد في الكشف عن خطورة المشروع الذي يتجرعه اللبنانيون من أيدي جورج بوش وزبانيته تحت دخان «الكشف عن الحقيقة». فلعلَّ وعسى.
-->

ليست هناك تعليقات: