الاثنين، يناير 25، 2010

مقابلة مع مجلة الوطن العربي

-->
مقابلة مع مجلة الوطن العربي
(حزيران 2001)
تعدَّدت أبحاثه حول موضوع واحد، وكل همه أن يجلي بعض الحقائق الملتبسة حول إشكالية العلاقة بين حرية الفكر وتعدديته، وإلزام النص الديني للعقل، حتى حدود الإكراه والقتل، تحت ذريعة الاستناد إلى حقائق مطلَقَة من الممنوع على العقل أن يخوض فيها، أو يخترق قداستها المزعومة.
ولأن في حسم الإشكالية نتيجة إيجابية على الارتقاء بمستوى الثقافة الموروثة إلى مستوى العصر الراهن، يعمل الباحث حسن غريب على الحفر في أسس التراث الديني الإسلامي، للتنقيب عن كل ما يحسبه معيقاً لتلك الأسس عن أن تكون متينة، ولكي يطمئن بال الأمة، التي تبني نفسها، أن بناءها لن ينهار، لأن أسسه صامدة في وجه الزلازل.
أجرت مجلة الوطن العربي حواراً مع الباحث حسن غريب، وهذا نصه:

* تطغى على عناوين أبحاثك مصطلحات مثل، نحو وفي سبيل وكأنك متردد في قول حقيقة فكرية محددة تحديداً واضحاً وحاسماً، فما هو السبب؟
- على العكس من استنتاجاتك، إنني أرى في هذه المصطلحات موقف واضح. فالحقيقة، التي ندَّعي البحث عنها، ليست في الواقع مطلَقَة لكي نحددها تحديداً واضحاً وحاسماً. إن الذين يلجأون إلى استخدام مصطلحات الحسم والحتمية هم نرجسيون في ثقافاتهم، وكأنهم بأساليبهم يجمِّدون الحقيقة ويمنعون الآخرين من الحوار، فهم يقودون المجتمع إلى طوباويات لا تتحقق في التاريخ. ليس هناك حقائق مطلقة في الفكر، باستثناء القِيَم العليا: كالعدالة والمساواة والحرية والسعادة وحتى القِيَم، كنظريات، ليست في الغالب حقائق مطلقة على صعيد الواقع والتاريخ؛ وإنما هي نماذج نظرية فكرية صحيحة نعمل للارتقاء بها من الواقع الأكثر سوءاً إلى الأقل سوءاً. ونحن نتصور أن نحقق بعضاً منها في مجتمعاتنا، ولكن

* هل تنفي، في قولك هذا، الحقيقة المطلقة عن النصوص المقدسة في الأديان السماوية؟
- إذا أردت أن استخدم ملَكَة العقل، التي هي هبة من الله وحده، فليس عليَّ من حرج في أن أتجاوز كل الدوائر التي تمنعها من الانطلاق. وإرادتي هذه، التي وهبنيها الله أيضاً، ليست محدَّدة بأية روادع ليس من هدف لها إلاَّ أن تمنعني من التفكير الحر كوسيلة للعقل والذي يتناقض مع خلق الله للإرادة فينا. فعندما أستخدم العقل، وأدافع عن الإرادة الحرة، يعني أنني أمارس طقساً من طقوس العبادة لله تعالى. أَوَ لا يدل قول الرسول العربي، (من اجتهد فأصاب له أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد)، على مدى اعتراف بعض النص الديني بحرية العقل في التفكير بإرادة حرَّة، حتى ولو أخطأ؟
* إن ما تقول به هو دليل على أن النص الديني يعمل من أجل الحقيقة المطلقة، ينص عليها ويدافع عنها. أَلا تعتقد بأنك تتناقض مع نفسك عندما تنفي الحقيقة المطلقة عنه؟
- في النص الديني إيجابيات لا يمكن التنكر لصحتها، بل علينا أن ندافع عنها. لكن هذا لا يعني أن تمنعني تلك الإيجابيات من أن أنتقد السلبيات. وإليك مثلٌ على ذلك: إعترف النص الديني، الذي ذكرته في الجواب السابق، بحق العقل في الاجتهاد حتى ولو أخطأ؛ وهذا اعتراف صريح وفيه احترام لحرية العقل، لكنه الوجه الأول. لكن من وجه آخر، نرى أن بعض النص الديني، أيضاً، يعمل على سلب هذا الحق تحت طائلة التهديد بالقتل.

* هل من المعقول أن يحصل تناقض بين نصين دينيين كما ذكرت؟ وكيف تفسِّر ذلك؟
- أرجو أن لا يغيب عن ذاكرتك قول الرسول: (من ارتدَّ منكم عن دينه فاقتلوه). والذريعة هو أن الإسلام دين الفطرة التي فطرنا عليها الله تعالى. فكيف تستطيع أنت أن توفِّق بين متناقضين: الاعتراف بحرية المسلم بالاجتهاد، حتى لو كانت نتائجه خاطئة، وقتل من يختار غير دينه؟ أَوَ ليس الارتداد عن الدين، لو افترضنا، نتيجة خاطئة لاجتهاد من اجتهد؟ أَوَ ليس من التناقض في شيء أن يُستبدَل الأجر الواحد بعقوبة القتل العمد؟

* لكن للاجتهاد أصول حددتها المؤسسات التعليمية الإسلامية. وعلى كل من يدَّعي أنه يجتهد أن يلتزم بالشروط المحددة له، ومن أهمها أن يكون فقيهاً وعالماً بنص الكتاب والسنة وتراث السلف.
- جاءت المؤسسات، التي ذكرتها، في استنانها شروطاً لاكتساب العلوم الدينية، لتحتكر الاجتهاد لنفسها. وكأن المسلم مُلزَمٌ أن يعتكف الشطر الأكبر من عمره في تلقي تلك العلوم، وعليه أن ينسى معاشه ومعاش أسرته، لكي يقضي السنوات الطوال في تلقّي علوم الشريعة ليستطيع أن يجتهد لنفسه، وهو إذا لم يفعل ذلك لن يستطيع، كما يحسب حرَّاس الشريعة، إلاَّ أن يقلِّدهم. وحتى لو التزم المسلم بما تقوله تلك المؤسسات، فإنه لا بُدَّ من أن يتولَّد عن هذه المسألة عدد من الإشكاليات، ومن أهمها:
- ليس هناك مؤسسة دينية إسلامية تستطيع القول إنها تشكِّل مرجعية مركزية جامعة لكل المسلمين. بل بقي المسلمون مذاهب شتى. وكل مذهب يدَّعي، حسب اجتهاد حرَّاس الشريعة فيه، أنه يمتلك الحقيقة المقدسة بمفرده، أما الآخرون فهم خارجون عن الدين.
- تتعدد الاجتهادات في داخل المذهب الواحد أيضاً. فتتعدد المرجعيات. لكن تلك التعددية ليست دليل صحة، كما يحسب بعض المفكرين الإسلاميين، والسبب أن كل اجتهاد يزعم أنه ارتقى إلى مرتبة قدسية النص لأنه يستند وحده إليه.
-لم يعرف عصر النبوَّة، ومن بعده العصر الراشدي، مؤسسات دينية، كالتي نعرفها في هذا العصر، تفرض شروطاً محددة تحديداً جامداً على كل من كان يريد الاجتهاد لنفسه أو لغيره.
- هناك تعدديات دينية، في داخل المجتمع الواحد، لا تُدين بالإسلام. فكيف تلزمها بأن تعيش تحت وطأة اجتهاد من هنا أو هناك، اجتهاد قلَّما يُجمع عليه كل المسلمين، وهذه التعدديات لا تؤمن بقدسية النص الإسلامي، فكيف بها إذا نظرت إلى الاجتهاد المستند إلى ذلك النص؟
* إن غياب مرجعية إسلامية واحدة، التي هي سبب في تعددية المذاهب، يمكن أن نتجاوزه بالعودة إلى الإسلام الصحيح.
- دعني، هنا، أسألك: كيف تحدد أنت الإسلام الصحيح؟
* إن ذلك يتم بالعودة إلى الكتاب والسنَّة، أي النص الإسلامي الأصيل.
- وهل تتوهَّم أن أي مذهب من مئات المذاهب، وأي اجتهاد فقهي من عشرات آلاف الاجتهادات، لا يستند إلى الكتاب والسُنَّة؟ وهل تتوهم أن أياً من المذاهب يُقرُّ أنه لا يستند إليهما؟ أرجوك أن تعود إلى بحثي المنشور تحت عنوان (الردة في الإسلام) لترى هذا الواقع بوضوح.

* وما هو مضمون هذا البحث، الردة في الإسلام، وإلى ماذا تريد أن تصل من خلاله؟
-لقد لاحظت، بدايةً، التناقض الموجود بين اعتراف النص الإسلامي بحرية الاعتقاد ] لا إكراه في الدين[، و}من اجتهد فأصاب{، وبين الحديث النبوي }من ارتدَّ منكم عن دينه فاقتلوه{.
- المحاكمات التي عقدتها المؤسسات الدينية، أو الحركات السياسية الإسلامية، لمحاكمة عدد من المفكرين المسلمين الذين يعملون، من خارج تلك المؤسسات والحركات، على تطوير الفكر الإسلامي لمقاربته مع عصر الحداثة والانفتاح العالمي. وليس في نيتهم إلاَّ أن يسهموا في تطوير وضع الأمة من خلال تطوير ثقافتها. وكان من نتائج تلك المحاكمات أن صدرت أحكام الاتهام بالردة عن الإسلام، وبناء عليها صدرت بحق أولئك المفكرين عقوبات، يقول حرَّاس الشريعة إنها أحكام شرعية إلهية.
حدت بي تلك الملاحظات إلى البحث عن القانون الشرعي الذي يستلُّ منه حراس الشريعة أحكامهم. فرجعت إلى النصوص وإلى الوقائع التاريخية، وغايتي أن أبحث عن أصل القانون. فكانت الحصيلة أنني توصلت إلى حقائق كثيرة لم تكن بالحسبان، ومن أهمها:
-حقيقة أن النص }من ارتد منكم عن دينه فاقتلوه{ كان نصّاً مرحلياً. وهذا مُثبَتٌ بالواقعة التاريخية أولاً، وبالنص القرآني ثانياً، وبالمحاكمة العقلية ثالثاً. فكان على فقهاء الشريعة أن ينسخوه بعد أن انتهت المرحلة التي فرضت تطبيقه. ولكنهم لم يفعلوا تحت ذريعة أنه نص مقدس يُمنع الاقتراب منه.
- لم تقف حصيلة بحثي عند حدود تأصيل الحديث، بل وقفت مذهولاً أمام تعدد الاتجاهات وكثرة المذاهب الإسلامية التي استلَّت سيف الاتهام بالردة، بحيث أكثرت تلك المذاهب من تطبيقه بحق بعضها البعض. وطبَّقت نصوصه بعين الرضا عندما أخذت تستحل على أساسه دماء وأعراض المذاهب الأخرى التي تخالفها في الرأي والاجتهاد الفقهي.
- أما النتائج فكانت رهيبة لكثرة دماء المسلمين التي أُريقَت على أيدي إخوانهم المسلمين، فلم يكونوا، على الإطلاق رحماء فيما بينهم.
ولأن الحديث طويل، وطويل جداً، ويبلغ طوله ألف وأربعماية سنة، أرجو العودة إلى البحث المذكور للنظر بما خلَّفه النص من مآسي، فتبدو الصورة واضحة بشكل لا لبس فيه أن الحاجة ماسة لإطلاق حرية العقل، الذي أقرَّ به بعض النص، وأنكره بعضه الآخر.
أما النتيجة الأخيرة، التي توَّجت بحثي، فهي دعوة علمية موضوعية تأخذ أهم مقاصد الشريعة، التي هي مصلحة الأمة في المقام الأول، أنني قمت باجتهاد، حتى ولو كنت من خارج المؤسسات والحركات، يبرهن على ضرورة نسخ الحكم النصي الذي يستخدم أقسى وسائل الإكراه في سبيل إكثار عدد المنافقين وليس المؤمنين. وهو بالتالي يجعل المفكرين في حرية تامة تمنع عنهم الأذى، وهم لا يطمعون بالأجر الواحد لو أخطأوا. وكل ما يعملون من أجله ليس إلاَّ أن يخلِّصوا الأمة من ثقل الأوزار التي يصر عليها الكثيرون من حراس الشريعة تحت حجة أن النص مقدس. ونحن نحسب أن حياة الإنسان لم تُخلق من أجل النص، وإنما وضع النص لكي يكون في خدمة الإنسان. فبدلاً من اللجوء إلى نسخ حياة إنسان تحت حجة الحفاظ على النص، لا ضير من أن يُنسخ النص في سبيل الحفاظ على حياة الإنسان التي هي أقدس ما خلق الله على الأرض. ولهذا يقول النص في جانب آخر منه، مخاطباً النبي ] أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين [؟؟؟!!!
حبذا لو كانت التعدديات المذهبية عامل إغناء للفكر وليس عاملاً للتكفير والتكفير المضاد، لكان من المريح على الإنسان أن يختار طريقه الروحي من غير إكراه، ولانفتحت أبواب الحرية للعقل لتطوير النص في سبيل مصلحة من سخَّر الله له كل ما على الأرض وما فيها.
***

حمل الأن Emoticons عربية جديدة للماسنجر! حمل الأن

ليست هناك تعليقات: