الاثنين، يناير 25، 2010

مقابلة أجرتها مجلة المشاهد السياسي

-->
مقابلة أجرتها مجلة المشاهد السياسي
النص الأصلي للمقابلة
(العام 2004)
صدر للباحث والكاتب حسن خليل غريب، من لبنان، ثمانية كتب: الردة في الإسلام، وفي سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام، ونحو تاريخ فكري وسياسي لشيعة لبنان (بجزئين)، ونحو طاولة حوار بين المشروعين القومي والإسلامي، والماركسية بين الأمة والأممية (نحو طاولة حوار بين المشروعين القومي والماركسي)، وصدر له أخيراً كتاباً فكرياً سياسياً وهو المقاومة الوطنية العراقية (معركة الحسم ضد الأمركة).
من موقعه البحثي الفكري، ومن موقعه النضالي الوطني في جنوب لبنان، ومن موقع فكره القومي التقته مجلة المشاهد السياسي، وكان لها معه الحوار التالي:
1-تدور أبحاثك حول عدة محاور: إسلامية، ومذهبية، وقومية، وماركسية. لماذا هذا التنوع؟ وفي أي الأبحاث تجد نفسك مرتاحاً؟ وأي منها هو الأقرب إلى التعبير عن اتجاهاتك؟
-تنوَّعت عناوين أبحاثي لكن وحَّدتها الرؤية والزاوية الفكرية التي أستند إليها. فإذا نظرت إلى تنوُّع التيارات الفكرية وتعدد المشاريع السياسية على مساحة لبنان، وعلى المساحة القومية العربية، لوجدت أنه من الضروري أن تتقارب تلك التنوعات والتعدديات من خلال حركة حوارية جدية بينها. فإذا كانت التعدديات دليل عافية وصحة، فإنها تتحول إلى حاجز يحول دون الوصول إلى الاتفاق حول مشروع سياسي يكون الأقرب إلى التعبير عن مصالح شتى التعدديات لكي ينظِّم حركتها نحو الوحدة.
فالتيار الفكري سيتحول إلى عبثية نظرية إذا لم يمتلك رؤية نحو مشروع سياسي. ولأن التيارات الفكرية على الساحتين الوطنية والقومية متعددة، وينتج عن تعدديتها الفكرية تعددية بمشاريعها السياسية. فإذا أصر كل تيار فكري على مشروعه السياسي، يعني أن على الساحة الوطنية أو القومية أن تتشرذم إلى العديد من تلك المشاريع، وهذا ما يتناقض مع بناء وطني موحَّد، على المستوين القطري والقومي، وهذا ما سوف يقود الأمة إلى عدة من الكيانات السياسية، فنسترجع بها عصر الدويلات المتناحرة التي عرفها العصر العباسي، بحيث كان لكل دويلة بناء ديني أو مذهبي أو سياسي، ومنها تسللت القوى الخارجية للقضاء على ما كان يُعرَف بالإمبراطورية العربية الإسلامية.
ففي رأينا، أن مقياس مصداقية الوحدوية عند أي تيار فكري، ديني، أو مذهبي، هو مدى صدقه في العمل من أجل توجيه كل التعدديات الفكرية إلى مشروع توحيد سياسي على المستوى القطري وعلى المستوى القومي العربي.
وما لم تكن الحركة الفكرية العربية، بشتى تنوعاتها وأطيافها، جادة في الانخراط بورشة حوارية فسوف تبقى بعيدة كل البعد عن وحدوية، وطنية أو قومية عربية، وهذا ما سوف يؤدي بالتالي إلى بقاء الأمة ضعيفة ومستضعفة أمام شتى ألوان الأطماع الخارجية.
من هذا المنطلق كانت أبحاثي متَّجهة نحو نقد كل المشاريع السياسية الأممية: دينية وغير دينية، كما أنها اتجهت إلى نقد المشاريع المذهبية. فكانت نتائجها، وهي ليست جديدة لأن الحركة السياسية منذ عقود- كانت تصوِّب نحو خطورتها. وكان ما أنتجته يصب في تلك الدائرة.
من أهم نتائج الأبحاث التي قمت بها، أنه لن يجمع شتات الأمة إلاَّ مشروع سياسي توحيدي واحد، يصهر كل التناقضات الفكرية والسياسية، على أن يقف على مسافة واحدة من كل تلك التيارات من حيث الحقوق والواجبات.
2-هل تجد نفسك مقيَّداً في أبحاثك؟ أي هل تجد عقبات تحول دونك والتعبير عن آرائك؟ وما هي مساحة الحرية التي تتحرك فيها، سواء من حيث الحريات الديموقراطية السياسية التي يسمح بها النظام العربي الرسمي الآن، أو من حيث البيئة الفكرية، بتياراتها المتشعبة؟
-كثيرة هي العوائق التي تقف في مواجهة الفكر الوحدوي: المشاريع السياسية الدينية، والمشاريع السياسية المذهبية، والمشاريع السياسية القطرية، والمشاريع السياسية التي تتجاوز أهدافها حدود القومية العربية، ومشاريع العولمة والهيمنة على المستوى العالمي، ويأتي على رأس كل هؤلاء النظام العربي الرسمي الذي هو نسيج يجمع واحداً أو أكثر من كل تلك المشاريع التي أشرت إليها.
أما وسائل مواجهتها لأية دعوات وحدوية فهي متعددة ومتنوعة، وقد تستند إلى وسائل مشتركة أو تتنوع أساليب مواجهتها لأية حركة وحدوية وطنية أو قومية.
ليس النظام الرسمي العربي بأجهزته القمعية- هو المذنب الوحيد. وهو إن كان يتحمَّل الجزء الأكبر من المسؤولية، فهو يمثِّل واحداً أو أكثر من تلك التيارات الفكرية والسياسية. ونحن نتناسى أن التيارات الفكرية والسياسية تقمع بعضها البعض الآخر بشتى الوسائل والأساليب، ولا يعني أن وسائلها تتميز بالديموقراطية لأنها لا تستخدم البوليس أو أجهزة المخابرات، فليس البوليس والمخابرات هي الوسيلة الوحيدة في القمع. فللقمع أوجه أخرى، وهذا ما يطرح على الحركة الفكرية العربية أن تعمِّق وتوحِّد مفاهيمها للديموقراطية. وفي هذا المجال أطرح جملة من الإشكاليات، ومنها:
-هل من الديموقراطية في شيء أن نعتبر الخيانة الوطنية، على قاعدة الأهداف الأممية، وجهة نظر لأصحابها الحق في الدفاع عن سلوكهم بالتعاون مع قوى الاحتلال؟
-وهل من الديموقراطية في شيء أن نعتبر الخيانة الوطنية، على قاعدة الأهداف الأممية الدينية أو المذهبية، وجهة نظر لأصحابها الحق في الدفاع عن سلوكهم بالتعاون مع القوى التي تحتل أو تعمل من أجل احتلال أرضهم الوطنية؟
-هل من الديموقراطية أن يستعين الوطني، لأي دين أو مذهب أو تيار سياسي معارض انتمى، بالأجنبي في سبيل إسقاط نظام سياسي يدَّعي أنه لم يشارك في اختياره، أو هذا النظام قد أنزل الظلم به؟
-هل من الديموقراطية في شيء أن تهيمن الطبقات والنخب، ذات المصلحة في تجميد وضع الأمة، على شتى وسائل الإعلام المسموع والمقروء والمرئي؟ وأين هي المساحة التي تركتها تلك النخب لقوى التغيير؟ من أين تأتي قوى التغيير بمنبرها الإعلامي؟ من أين تحصل على الإمكانيات التي تؤهلها لامتلاك تلك الوسائل؟ (وهنا نشير إلى معاناة وسائل الإعلام التي لا تستطيع أن تستمر بدون دعم مادي إذا لم تروِّج لإيديولوجيات التيارات التي تملك الإمكانيات المادية).
ليس دفاعاً عن وسائل القمع التي يمارسها النظام العربي الرسمي، نقول: ليست مظاهر القمع البوليسي أو المخابراتي النظامية، هي القامع الوحيد على ساحتنا القطرية والقومية، بل تشارك كل التيارات الفكرية والسياسية بوسائل القمع. وهنا تتحمَّل الحركة الفكرية العربية مسؤولية كبرى، خاصة تلك القائمة على بناء فكر فلسفي عربي لا يتأثر بالإيديولوجيات المنحازة المتعصبة التي تتميز بها كل الحركات والتيارات السياسية والحزبية العربية.
3-هل توجِّه خطابك الفكري إلى الجميع؟ ومن تخاطب أولاً؟
-إنني أحسب أن أجوبتي على السؤالين السابقين تحدد كثيراً من جوانب الإجابة حول هذا السؤال. ولذا أضيف: إن خطابي يتوجَّه أولاً للمفكرين العرب، خاصة أولئك الأكاديميين، (الذين على الرغم من أنهم يتعرَّضون لسهام الحركة السياسية العامة، و على الرغم من أن التيارات السياسية لم ترتق بعد- إلى مستوى العمل الفكري المجرد فهو يشكِّل حصانة لها) أن يقوموا بدورهم وهو أساسي- من دون خوف أو لومة لائم.
وثانياً أتوجه بخطابي إلى كل الحركات الفكرية السياسية، هيئات وقوى وأحزاب، إلى تعميق فكرها العام، وفكرها السياسي الخاص، وتخرج من بعض عوائق التعصب الإيديولوجي. لأنه ما لم ترتق إلى هذا المستوى، فهي حتماً- سوف تنتج مؤيدين يتَّصفون بالتعصب والتشرنق والجمود. وتكون النتيجة إنتاج ثقافة شعبية عاجزة عن مواكبة التغيير، وعاجزة عن تحقيق الحد الأدنى من التوجه الوحدوي السليم. وساعتئذٍ سوف تبقى ثقافة كل شريحة شعبية تنادي بوحدويتها على طريقتها الخاصة. وعندما تتشرذم الرؤى التوحيدية على المستوى الشعبي، سوف نبقى في حالة من التخبط والعشوائية التي هي الأساس في أن تسقط بيزنطية كل يوم والبيزنطيون غارقون في خلافاتهم وعصبياتهم وأوهامهم، يوجِّهون الشتيمة إلى قوى الاستعمار والاستغلال، متهمينها بأنها تحول بينها وبين التقدم والرقي والحضارة!!!

4-صدر لك كتاب، الأول من نوعه في هذه المرحلة، حول المقاومة الوطنية العراقية. فهل تعتقد أن لتلك المقاومة حظ بالاستمرار في مواجهة التحديات على المستوى العالمي والعربي والعراقي؟
-لقد استند حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي يقود المقاومة في العراق، إلى رؤية استراتيجية في تغيير معادلة موازين القوى (النظامية النظامية) إلى معادلة أخرى تستند إلى موازين القوى (النظامية الشعبية). واستند في تغيير تلك المعادلة إلى قناعته باستحالة أن تحصل الشعوب الخاضعة لرحمة التكنولوجيا الرأسمالية على توازن في القوى (النظامية النظامية). فمن أهم نتائج بحثي وجدت أنه  في أثناء استلامه للسلطة السياسية في العراق- أعدَّ الحزب موجبات خوض حرب تحرير شعبية؛ على أن يتحوَّل إلى ممارستها في الحالة التي تستنفد فيها الحرب (النظامية النظامية) وسائلها وإمكانياتها. وهو عندما وجد أن أنموذج معارك مطار صدام الدولي قد تحولت إلى حرب استنزاف كبيرة لقواته النظامية بعد أن استخدمت لجأت القوات الأميركية الغازية قنابل غير تقليدية أبادت آلاف الجنود العراقيين بلحظات، انتقل فوراً- إلى أسلوب المعارك (النظامية الشعبية)، وهذا الانتقال المفاجئ أثار في وقته كثيراً من علامات الاستفهام والتعجب والاستياء. وكان السبب هو الجهل باستراتيجية الحزب في الصراع مع القوى المعادية.
ففي التاسع من نيسان، الذي نعت فيه حتى النخبة المثقفة- نظاماً عربياً آخر، كان البعثيون يقاتلون العدو المحتل على قاعدة حرب التحرير الشعبية، وهذا ما أخذ يتنامى ويتسع إلى ما أثار الاعجاب واستعادة الثقة بالنفس.
أما ردَّاً على السؤال: هل تستمر المقاومة وتصمد؟ فأنا أحيلكم إلى ما تتناقله وسائل الإعلام الأميركية والغربية لتروا كما هي مؤثرة حرب التحرير الشعبية في العراق. وهذا يجعلني أذكِّر بما فعل الفيتناميون، والجزائريون، واللبنانيون وما يفعله الفسطينيون.
من المؤكد أن إمكانيات سلطة نظام البعث في العراق قد وُضعت في خدمة هذه المرحلة: سواء بإعداد مئات الآلاف من المقاتلين، أو بتخزين كميات هائلة من السلاح، أو بإعداد من ينتجون وسائل تصنيع السلاح البسيط الذي يستخدمه الثوار في حرب التحرير الشعبية.
ونحن نراهن بكل ثقة موضوعية، وليست سوريالية أو رومانسية.. على نتائج الصراع الذي تخوضه المقاومة الوطنية العراقية الآن، فهي منتصرة في النهاية. لكن الرهان لدينا ليس الظن في هل تنتصر أم لا. وإنما الرهان لدينا يدور حول الزمن الذي سوف تستغرقه معركة النصر.

5-هل يؤثر اعتقال الرئيس صدام حسين على مستوى فاعلية المقاومة: استمراراً وأداء؟
-أعتقد أن جوابي السابق يصلح كجزء للجواب عن هذا السؤال. أما ما أريد أن أضيفه، فهو التالي: من خلال بحثي الذي نشرته في كتاب »المقاومة الوطنية العراقية« وجدت أن صدام حسين قائد متميز لمؤسسة حزبية، وليس قائداً فرداً. فالمقاومة العراقية تستند إلى عمق مؤسساتي، ومن يعمل على قاعدة المؤسسة فلن تموت استراتيجيته إذا غيَّب الأسر أو الشهادة أو الاعتقال أفراداً أو قادة، لأن المؤسسة تنتج الكثيرين. وما كان يُقال عن شبيهين لصدام حسين، بالمعنى الأمني، لهو نوع من السطحية والسذاجة. لكن في داخل المؤسسة تجد شبيهين فعليين، بالمعنى الاستراتيجي، أي الذين يتابعون تنفيذ استراتيجية المؤسسة، على الرغم من غياب بعض القادة.
في كتاب المقاومة الوطنية العراقية، وجَّهت الأنظار نحو لعبة الشطرنج الأميركية في العراق، والتي تقوم على العمل من أجل اصطياد الملك، الذي باصطياده تنتهي اللعبة لمصلحة الصائد. وبرهنت على لا صوابيتها لأن لعبة الشطرنج القديمة كانت تستند إلى فردية الملك أو الامبراطور، بحيث كانت تنتهي المملكة أو الامبراطورية بسقوط الفرد. أما لعبة الشطرنج الحديثة والمعاصرة، بمفهوم التنظيمات المؤسسية لا تنتهي المعركة إلاَّ باصطياد كل القوى (الوزير والقلعة والأفيال والمجانين والبيادق)، وهل بإمكان قوات الاحتلال الأميركي أن تصطاد مئات الآلاف من أعضاء المؤسسة التي أسهم صدام حسين، بعقل مبتكر ومؤسساتي، في تأهيلها لممارسة حرب التحرير الشعبية؟
6-ما هي الأسباب التي دفعت بالنظام العربي الرسمي للرضوخ للإدارة الأميركية على القبول بنزع أسلحة الدمار الشامل، إن وُجدت، وهي لا تضغط من أجل إلزام العدو الصهيوني بنزع أسلحته وهي موجودة بالفعل؟
إذا عدنا لما ذكرناه من أجوبة سابقة لوجدنا ما يلي:
-تقوم استراتيجية النظام العربي الرسمي على نظرية التوازن في الحروب (النظامية - النظامية). ولأنها لن تستطيع الوصول إلى مثل تلك الحالة، لأكثر من سبب، فهي ترى نفسها عاجزة عن المواجهة. ولأن أركان وإدارات النظام العربي الرسمي تنتمي  كما ذكرنا في أجوبة سابقة- إلى أكثر من تيار يرى مصلحته خارج دائرة الوحدوية العربية فهو لن يتَّخذ من حرب التحرير الشعبية استراتيجية له لأنه غير مستعد أن يطلِّق القصور وبهارج الحياة ومظاهرها من أجل تحرير الشعب الذي يعمل، أو يساعد، على سرقته واستغلاله.
ولأن مصلحة أولئك مرتبطة باستمرار النظام الرأسمالي العالمي، فمن غير المستحيل أن ينخرطوا مع من يعمل من أجل تهديمه. وهنا أذكر ما قاله هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركية الأسبق: »على حلفاء أمريكا أن يواجهوا حقيقة أنهم جنود في إمرة القائد الأمريكي، وأن يقوموا بالتالي بأداء المهام المطلوبة منهم لأن في ذلك ضماناً لمصلحة أمريكا ولمصالحهم هم«.
ولأن الكيان الصهيوني مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمشروع الهيمنة الرأسمالية العالمية، يعتبر الكثيرون من أصدقاء أميركا في النظام العربي الرسمي أن ترسانة  »إسرائيل« النووية لا تشكل تهديداً لمصالحها، فلذلك نراها غير جادة في المطالبة بنزعها، وهي إن طالبت فليس إلاَّ من القبيل تضليل الرأي العام العربي، وهي تعرف أن ما هو مسموح لها على القاعة الديموقراطية الأميركية- هو حرية القول وليس حرية الفعل.
7-من موقعك الفكري، ومن موقعك كمواطن لبناني من جنوب لبنان، بحيث ذقت معاناة الاحتلال وحلاوة دحره، كيف ترى الترابط بين التجربتين: المقاومة الوطنية اللبنانية والمقاومة الوطنية العراقية؟
-أنا فقدت الأمل مما يطالب به البعض في نقد الأنظمة بسبب عجزها عن تأمين توازن على قاعدة الحروب (النظامية النظامية) لأنه لن يحصل. وبالتالي أصبحت من المؤمنين بأن على حركة التحرر العربية أن تبتكر صيغاً ووسائل تعيد حالة التوازن في القوى للقيام بمهماتها في التحرير ضد قوى الاحتلال والهيمنة والاستيطان. وبها تنتقل إلى صياغة مفاهيم جديدة لمعاني النصر والهزيمة تتجاوز فيها تقليدية حركتها النقدية التي غرقت في ما يُسمَّى ب»نقد الهزيمة«؛ فهي بمثل تلك الحركة النقدية التقليدية لم تصل إلى نتائج محسوسة وملموسة لأن النظام العربي الرسمي لم، ولن، يستطع تأمين حالة التوازن (النظامي النظامي)، فأصبح على حركة التحرر أن لا تبقى أسيرة آلياتها السابقة في التفكير والعمل، وأن تستنبط من تجارب الأمة العربية، ومن التجارب العالمية، التي مارست النضال الشعبي المسلح، دروساً وعبر، وهي وحدها التي حققت انتصارات للشعوب. ومن هذا المنطلق كنت أمارس دوري في جنوب لبنان المحتل، منذ أوائل السبعينيات.
وقياساً على اعتناقي استراتيجية حرب التحرير الشعبية، فكراً وممارسة، لم تصبني المفاجأة عندما اندحر العدو الصهيوني عن أرض الجنوب، بل ما شعرت به هو الفخر واجتاحتني موجة الفرح العارم، وجعلتني أقتنع أكثر فأكثر- بأن البندقية والعبوة الناسفة تواجهان أحدث المعدات العسكرية وأكثرها تعقيداً. فما حصل في لبنان، هو ذاته ما سيحصل في العراق.

8-كيف تنظر إلى العلاقة بين واقع الثقافة العربية والعولمة؟ وما هي أسباب القصور في الثقافة العربية التي تحول دون مخاطبة العالم الغربي؟
-إن الثقافة العربية هي كعك من عجين المنهج المعرفي الذي تستند إليه. وللعبور إلى المنهج المعرفي الصحيح لا بُدَّ من تأسيس حركة نقدية فكرية على شتى المستويات. وهي الانتقال من تكديس المعارف إلى إنتاجها. فالحركة الثقافية العربية، هي حالة من التكديس الثقافي؛ ولم ترتق حتى الآن- إلى مؤسسة فكرية إنتاجية لها خصوصيات قومية تستفيد من مناهج الآخرين.
إن الثقافة العربية حركة مستهلكة، سواء من الموروث أو من المستورد. وهي لم تتجرأ حتى الآن- على نقد الموروث إما لعجزها عن النقد أو لخوفها ممن صنَّموه؛ وهي قاصرة عن نقد المستورد لانبهارها بنتائجه على حركة المجتمعات التي أنتجته قبل تصديره. والاستناد إلى حركة نقدية للموروث، والحضارة العربية مليئة بالموروث الذي نعتز به، كما هي مليئة بالموروث الواجب نقده والخروج من أسره، مسألة أساسية في حركة بناء معرفي سليم، لأن ما لا تنقده سيبقى ذا تأثير على الثقافة المتداولة.
لقد تفاعلت معظم الحركة الثقافية العربية بالبنى المعرفية العالمية ذات الاتجاهات في العولمة السائدة، كما بناها خدَّام العولمة بمضامينها الاقتصادية، وراحوا يبثُّون تلك الثقافة من خلال امتلاكهم لمعظم وسائل الإعلام والتثقيف. بينما بقيت الأقلية، التي تنشد التغيير، قاصرة -وفي أكثر الأحيان- لأسباب موضوعية، عن مواجهة ضخامة القوى التي تنشر فكر العولمة الاقتصادية وتروِّج له.
وهنا تستحضرني فكرة المقارنة بين اللا توازن على صعيد الإمكانيات العسكرية في الصراع بين الجيوش، مع واقع اللاتوازن على صعيد الإمكانيات التسويقية على الصعيد الثقافي. وهنا يرتفع السؤال: هل على الحركة الثورية العربية، فكرياً وسياسياً وإعلامياً، أن تستسلم أمام واقع اللا توازن بينها وبين قوى العولمة الاقتصادية؟
إنني أرى أن وسائل استعادة التوازن على الصعيد العسكري تأتي من معادلة (النظامي الشعبي)، تؤدي إلى تعزيز ثقة الشعوب بمقدرتها على المواجهة الشعبية للآلة العسكرية الحديثة، وهذا ما سوف ينتج ثقافة جديدة بوسائلها ومقاييسها ووظائفها. وإذا ما نالت الشعوب ثقتها بأنها تستطيع أن تحقق إنجازات لم تستطع أن تصل إلى تحقيقها بالوسائل التقليدية التي أسرتها الثقافة العربية التقليدية في داخل أسوارها، فهي تُعدُّ بلا شك- نقلة نوعية وثورية في بنى المعرفة العربية وفي بناها الثقافية وفي إمكانية انعكاس تلك الثقة على إمكانية تحقيق تغيير في الداخل على شتى الصُعُد، إذ يصبح بإمكان الشعوب أن تبتكر وسائلها الثقافية والمعرفية البسيطة لمواجهة الواقع السياسي لمعظم الواقع الذي يعاني منه النظام العربي الرسمي.
وهنا تأتي المقاومة الشعبية العسكرية وغيرها ضد قوى الاحتلال عاملاً مهماً في توفير بناء معرفي وثقافي شعبي يلعب دوراً مؤثراً في الصراع من أجل التغيير في الداخل.
بيروت: حسن جوني
***




حمل الأن Emoticons عربية جديدة للماسنجر! حمل الأن

ليست هناك تعليقات: