-->
-->
فصائل المقاومة العربية:
أفكار في التمايز والتكامل والتوحَّد
21/ 10/ 2006
تمهيد وأمنية
يحدونا إلى البحث، والكتابة، عن واقع التنسيق بين المقاومات الثلاث، في فلسطين ولبنان والعراق، هموم التجارب السلبية بين أطراف حركة التحرر العربي السابقة. حيث كان من أهم نتائجها أن البديل لوحدتها، في مواجهة وحدة المشروع المعادي، كانت الفرقة والتفسخ، وهو ما نلاحظه من واقع مأساوي تعاني منه تلك الحركات من دون استثناء.
ليس ما سنقوم بتقديمه من أفكار إلاَّ إسهام في ورشة حوارية ابتدأت في أعقاب العدوان الصهيوني، في الثاني عشر من تموز من العام 2006، على لبنان، ومنه سُلِّطت الأضواء على أهمية استراتيجية الكفاح الشعبي المسلَّح وتأثيرها على إحراق أصابع الاستعمار الأميركي في العراق، وإحراق أصابع ربيبته الصهيونية في فلسطين ولبنان. ولهذا نأمل متابعة الحوار حول هذه الظاهرة المضيئة في ليل هزيمتنا العربية، وهو ما يقوم بمتابعته عدد من المثقفين والسياسيين العرب، وأكثر من حركة حزبية أو سياسية على طول مساحة الوطن العربي.
تمايز حركات المقاومة العربية
تتمايز حركات المقاومة الشعبية الوطنية، بسقوفها الاستراتيجية الفكرية من خلال مدى قربها أو بعدها عن السقف الاستراتيجي القومي، وهذا لا يعني أن نزول بعضها تحت هذا السقف أنها لا تصب في مصلحته، إنما حيث إنها تقاوم أعداء الأمة الاستراتيجيين، حتى ولو كانت في ظرف ومكان محدوديْن، فنتائجها ستصب في المصلحة الاستراتيجية العليا طالما أنها تعمل على إنهاك أولئك الأعداء. أما الصورة الأفضل، والأمل المرتجى، فهي أن تكون لكل فصائل حركة المقاومة العربية أفقها الاستراتيجي القومي لأنها بمثل هذا الأفق تصبح أكثر إنتاجاً ثورياً وأقربه إلى النصر.
أما وأن القاعدة الأساسية هي في أن تكون مقاومة الاستعمار والصهيونية قومية شمولية، لأن المستهدف هو الأمة كلها، وليس بعض أقطارها فحسب، فمن المنطقي والواقعي أيضاً أن تستند كل المقاومات الظاهرة في بعض أقطار الأمة إلى استراتيجية ذات آفاق قومية فتتكامل أدوارها وتصبح أكثر تأثيراً.
ولأن واقع تأثير مقاومة فلسطين ولبنان والعراق موجود بقوة الأمر الواقع، وينعكس سلباً على مخطط الصهيونية والإمبريالية، إلاَّ أنه ليس مبنياً على تخطيط نظري استراتيجي، ولا بناءً على اتفاق جبهوي قومي مُعلَن. وفي هذا ما يُهدِّد النتائج التي تنجزها هذه المقاومة أو تلك بالتآكل حينما تعتبر أن ما أنجزته ضمن مساحتها الجغرافية المحدودة هي نهاية المطاف، حينئذٍ تسترخي هذه أو تلك متناسية أن نجاحاتها مهدَّدة بالذوبان في مراحل لاحقة.
تدور على أرض الوطن العربي الآن ثلاث معارك ضد الاستعمار والصهيونية في كل من لبنان وفلسطين والعراق، وإن كان يجمعها سقف أسلوب سياسي وعسكري واحد، أي بكونها تُخاض ضد الثنائي (الاستعمار والصهيونية) بأسلوب الكفاح الشعبي المسلَّح، إلاَّ أنها تتمايز بسقوف استراتيجية سياسية وعسكرية ونضالية تطبع بعضها بالطابع المرحلي، وبعضها الآخر بالطابع الاستراتيجي، وفي واقع الأمر فهي لا تستند إلى سقف استراتيجي فكري واحد.
التكامل بين المقاومات الثلاث حاجة قومية
ولأن الاستراتيجية الفكرية تشكل البوصلة لأية استراتيجية سياسية أو عسكرية، ولأن واقع القوى المقاومة الثلاث تضع ثقلها، كل منها في موقعها الميداني وضمن حدودها الفكرية في مواجهة الثنائي المعادي المذكور، فهي أيضاً تفتقد عامل التنسيق المباشر.
إن غياب التنسيق بين قوى عربية تقاوم مشروعاً واحداً برأسين لهو من الظواهر التي علينا أن نبحث عن أسبابها، ونتقدَّم بتفسير لها، لأنه بغير البحث عن أجوبة لتفسير هذا الغياب ستبقى تلك الظواهر من الإشكاليات، التي سنقضي العمر كله في رفع علامات الاستهجان والاستغراب كلما اكتشفنا وجودها، وستبقى حركة التحرر العربية تائهة بين المقاومات الثلاث، مشيدة بهذه أو منتقصة من قيمة تلك، أو محيِّدة نفسها عن مظاهر الاختلافات بين المقاومات الثلاث، أو محرجة من اتخاذ موقف موضوعي خوفاً أو مجاملة. بل ستبقى كل مقاومة تنافس الأخرى، أو تنفي تأثيرها في مجريات ساحة المواجهة القومية.
إن تحديد أسباب غياب التنسيق الفعلي المباشر بين تلك المظاهر، سوف تساعد قوى وأحزاب حركات التحرر العربي على تحديد موقف موضوعي، أي الموقف الذي يبغي توحيد الجهد المقاوم والرؤية المقاومة، من أجل مساعدة الفصائل المقاومة على تخطي الحواجز فيما بينها، أي تلك العوائق التي تحول دون إعلان وحدتها، لأنها بغير ذلك ستبقى حركات التحرر وقواها عالقة في دائرة مفرغة، ولن تستطيع القيام بفعل إيجابي من أجل توحيد طاقات الأمة الشعبية، الماثلة في جهد المقاومات الثلاث وجهادها.
إن وجود هذه الإشكالية أصبح أكثر وضوحاً من خلال مواقف تلك الحركات والقوى التي أُعلنت حول أحداث العدوان الصهيوني الهمجي على لبنان، كما رافقت واقع البطولات التي ميَّزت أداء مقاتلي حزب الله في التصدي والمواجهة. حينذاك تلقَّت مقاومة حزب الله تأييداً واسعاً، لبنانياً وعربياً، وهي تستأهل ذلك بالتأكيد، ولكن بعض تلك المواقف غيَّبت وتجاهلت ما تقوم به المقاومة الوطنية العراقية التي تضرب رأس الأفعى الأميركية في العراق. كما أنها اعتبرت أن نتائج المعركة الدائرة في فلسطين ولبنان، وكأنها ستغيِّر وجه تاريخ المنطقة عموماً، وتاريخ الصراع العربي ضد الصهيونية والإمبريالية في الوطن العربي خصوصاً. وبهذا المجال تناست أو أغفلت، بعضها لأسباب مقصودة وبعضها الآخر لسهو غير مقصود، أن ما يُغيٍّر وجه الصراع ليس الانتصار في ساحات محدودة المكان والزمان ضد الصهيونية، أحد طرفيْ ثنائية (الصهيونية والإمبريالية)، بل اعتبار أي انتصار محدود يجب أن يصبَّ في استراتيجية طويلة الأمد تستمر بشتى الأشكال والوسائل حتى اجتثاث آخر معقل مباشر أو غير مباشر للاستعمار والصهيونية على الأرض العربية.
غياب الرؤية القومية سبب يؤدي إلى استراتيجية جزئية عند فصائل المقاومة العربية
كان اللافت في الأمر هو أن بعض تلك القوى ظهرت وكأنها تمارس حالة انفصام في الأحكام الموضوعية، أو المواقف الموضوعية. ونحن نردُّ سبب ذلك إلى مواقف مسبقة، أو إلى تجاهل عن سابق إصرار وتصميم، إذ مارست بعضها ذلك لأسباب قطرية، وبعضها الآخر لأسباب إيديولوجية مُغلقة وتعصبية، وبعضها الثالث لأسباب انعكاسات سلبيات مرحلة التنافس الفئوي السابقة التي طبعت تاريخ العلاقات بين التيارات الفكرية القومية العربية والتيارات الفكرية الأممية بالسلبية والتنافس الفئوي.
إن العوامل اللافتة في هذا الانفصام، هو تجاهل الحقيقة الموضوعية والرزينة التي تنص على أن التكامل بين مقاومة حزب الله والمقاومة الفلسطينية والمقاومة الوطنية العراقية هو الأرضية الأساسية في النضال من أجل مواجهة التحالف المعادي الذي يجمع بين الصهيونية، في فلسطين المغتصبة ولبنان المهدَّد، ومشروع الأمركة في العراق المحتل. فلا يجوز الفصل بينها على الإطلاق لأن في الفصل بينها ما يثير الشبهات والاستهجان.
من أجل العمل على تأسيس رؤية فكرية استراتيجية واحدة، جئنا نسهم ببعض الجهد لعلَّه يصيب الهدف الاستراتيجي في انطلاقة مقاومة عربية، تتمايز كلٌّ من فصائلها بخصوصياتها الذاتية كشرط إنساني وواقعي، وتتلاقى باستراتيجياتها العامة كشرط لتعميمها على المستوى الأشمل، على أن يحتضن تحت سقفه الاستراتيجيات الخاصة للأجزاء التي تقاوم الآن، أو تلك التي ستتشكل في المستقبل من أجل التصدي لأي نية في الغزو أو العدوان أو الاحتلال المباشر، أو الاحتلال المقنَّع، الذي قد يقوم به ثنائي (الاستعمار والصهيونية) متَّحدين في التدخل المباشر أو منفصلين.
نقطة انطلاق التوحُّد الأولى تبدأ في الاتفاق على تحديد ثوابت الصراع
بداية، ومن منطلق التأكيد على ما هو حاصل لا بدَّ من أن نثبِّت سقفين اثنين، وهما:
الأول: إن ثنائية الاستعمار والصهيونية أصبح حلفاً ثابتاً تتلاقى أهدافه الاستراتيجية في العدوان على الوطن العربي، وتتوحَّد جهوده الاستراتيجية في تنفيذه.
الثاني: إن استراتيجية الكفاح الشعبي المسلَّح، الذي وضع حزب البعث العربي الاشتراكي أسسه الفكرية والسياسية، منذ العام 1948، أصبحت استراتيجية العصر العربي الجديد في مواجهة ثنائية الاستعمار والصهيونية.
ومن هذين السقفين نرى أنه لم تتغيَّر استراتيجية التحالف المعادي، في الأهداف والوسائل، وهذا السبب يجعل منه حلفاً قوياً. ولما فشلت وسائل المواجهة التقليدية في كبح جماح ذلك التحالف، ابتكرت العبقرية العربية استراتيجية المواجهة القومية بحيث نقلت قضايا الأمة من أنظمتها الرسمية المتواطئة، التي عجزت أو برَّرت عجزها، إلى أيدي الشعب العربي مباشرة، وهذا ما هو حاصل الآن في المقاومات الثلاث في لبنان وفلسطين والعراق.
نقطة الانطلاق الثانية: تحديد مفاهيم المقاومات الاستراتيجية والفرعية
من مبادئ الحدود الدنيا في دائرة المواجهة بين المشروعين: القومي العربي، ومشروع الأمركة والصهينة، هو اعتبار المواجهة من واجب كل عربي على كامل مساحة الوطن العربي. وتتراوح وسائلها بين المواجهة الاقتصادية والسياسية والثقافية، والمواجهة العسكرية وهي أعلى درجات النضال وأكثرها تأثيراً. واستناداً إليه نرى أنه حيثما يتواجد احتلال عسكري مباشر لا بدَّ من أن تكون المواجهة عسكرية أولاً، وخلاف ذلك تقتصر الوسيلة على أسس المواجهات الأخرى. وتطويراً لتلك الوسيلة، ولأن المواجهة العسكرية أكثر حاجة للدعم والإسناد، على الساحات الوطنية العربية أن تعمل على توفير كل وسائل الدعم السياسي والإعلامي والمادي لفصائل المقاومة العربية أينما وُجدت.
واستطراداً، نرى أنه حيثما حصل احتلال عسكري مباشر لأحد طرفيْ التحالف المعادي، منفرديْن أو متحديْن، فهناك يقع عامل المواجهة الاستراتيجية العسكرية، وحيثما حصل تطبيع استعماري وصهيوني لوضع سياسي أو اقتصادي أو أمني مع أحد الأنظمة، فهناك يقع عامل المواجهة المرحلية سياسياً واقتصادياً وأمنياً.
أما المواجهة العسكرية الاستراتيجية فتتدرَّج بدءًا من مقاومة الطرف الرئيسي في التحالف، أي الاستعمار، وطليعته الولايات المتحدة الأميركية، لأن إضعافه إضعاف للطرف الثانوي وهو الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وإصابة الطرف الرئيسي بمقتل ينعكس تلقائياً، بشكل سلبي، على الطرف الثانوي.
ليست تلك المعادلة، التي قد يحلو للبعض أدلجتها، إلاَّ معادلة علمية وموضوعية أيضاً. وعلى أساسها يمكن استشراف ما يجب أن يكون عندما نضع إشكالية العلاقة بين شتى فصائل المقاومة العربية على طاولة المعالجة، التي تأتي المقاومات العربية الثلاث، في فلسطين ولبنان والعراق، في طليعتها.
وضوح المركزيات في القضايا ثوابت للمشروع القومي في مواجهة العدوان
في معرفة ترتيب الأولويات الاستراتيجية السياسية للمقاومة، في مواجهة أولويات الاستراتيجية المعادية، نرى ما يلي:
1-المركزية الأولى هي قضية فلسطين كونها كانت الهدف المباشر للاستعمار والصهيونية، التي أكَّدتها اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور. ولأنها كانت مبرَّرَة بوضع حاجز جغرافي يحول دون وحدة الأمة العربية السياسية، ولأنها تعبِّر عن موطئ القدم الرئيسي للتواجد الاستعمارى الصهيوني في الوطن العربي، أصبحت مسألة تحرير فلسطين مسألة قومية لها الأولوية المطلقة في النضال العربي. والعرب، في هذا الجانب، مُستهدفون جميعهم، لا يمكن استثناء أحد منهم. ومن بديهيات الأمور أن نرى في المقاومة الوطنية الفلسطينية رأس حربة يجب أن تجمع من حولها الطاقات العربية الشعبية التي من واجبها أن تدعمها وتشاركها...
إن مركزية القضية الفلسطينية في الصراع العربي ضد الصهيونية والإمبريالية آتية من كون تحرير فلسطين يمثِّل تحريراً للأمة من الأطماع الصهيونية، ومن بوابة تحريرها تنفتح أمام الأمة كلها وسائل وحدتها وحريتها واشتراكيتها.
قد يقول البعض، وهم كُثُر، أما آن للفكر القومي أن يتخلَّص من رومانسيته؟
هل نقضي حياتنا كلها ننتظر الوعود الرومانسية لكي يتحقق تحرير فلسطين؟
هل يرى أحفادنا، أو أحفاد أحفادنا، مرحلة تحقيقها؟
كل تلك الأسئلة المطروحة، عن طيب نية أو خبثها، تستند إلى أنه لا يمكن تحقيق النصر على التحالف المذكور لأنه يمتلك القوة العسكرية الهائلة التي لن نستطيع توفير مثيل لها. تلك الذرائع، التي هي علمية من دون شك، تؤسس لحالة انهزامية، كما توفِّر غطاء لتقاعس الأنظمة الرسمية أمام جماهيرها.
وردَّاً على ذلك، ليس لنا أكثر من أن نجيب:
أوَ ليس من المعيب أن يصبح منطق الاغتصاب مفهوماً قيمياً ندافع عنه؟
وهل قضية تحرير فلسطين إلاَّ تحريراً من الاغتصاب الصهيوني؟
وهل الخلل في موازين القوى العسكرية أصبح مكيالاً نقيس به القيم الإنسانية؟
وهل إذا حلَّ مفهوم «الحق للقوة» بديلاً لـ«قوة الحق» سيبقى لنا ما ندافع عنه في وجه الإعصار الرأسمالي: إعصار قوة «الأمركة»، وإعصار قوة «الصهينة»؟
إن الحد الأدنى من نتائج سلوكنا «أسلوب النعامة» هو أننا نتنازل عن حقنا في السيادة الوطنية عندما يأتي دور أرضنا الوطنية في الاغتصاب. كما نتنازل عن حقنا في القرار الوطني المستقل، سياسياً واقتصادياً وأمنياً وثقافياً، تحت ذريعة الحق للأقوى.
إن في التنازل عن القيم الإنسانية، عندما نعترف بحق الآخر في الاغتصاب، عار يدفعنا إلى اعتبار الاحتكار واستعباد الشعوب وسرقتها...و ... من القيم الإنسانية العليا؟!!!
وعلى هذا الأساس نعتبر أن تجريد المقاومة الفلسطينية من عمقها القومي العربي نتيجة حالة التخلي النظامي الرسمي العربي عنها، كما هو واضح الآن بشكل جلي، أو استرخاء الشعب العربي واستسلامه أمام منطق الهروب والاستسلام حسب المنطق القطري، أو إلغاء أهمية هذا العامل من استراتيجية فصائل المقاومة الفلسطينية بحجة اليأس من توفير موجباته، لهو إهمال السلاح الأقوى والأكثر فعالية في معركة تحرير فلسطين.
2-المركزية الثانية هي مواجهة الاستعمار: وللمواجهة وجهان:
-الأول: سياسي واقتصادي وثقافي، عندما يكون الاحتلال سياسياً واقتصادياً وثقافياً، كما هو الحال منذ بداية تكوينه في الوطن العربي.
-الثاني: عسكري عندما يتحول الاستعمار إلى احتلال عسكري مباشر، كما هو حاصل حالياً مع احتلال الولايات المتحدة الأميركية للعراق.
في الحالة الراهنة لمواجهة الاستعمار، وحيث إن الاستعمار هو أعلى درجات الرأسمالية، والاحتلال العسكري يفوقها درجة، تصبح مقاومته عسكرياً أعلى درجات المواجهة.
لما عجزت الصهيونية عن أداء دورها كقاعدة عسكرية متقدمة في الوطن العربي ليس لحماية مصالح الاستعمار بالنيابة عنه فحسب، وإنما ظلَّت بحاجة إليه لحماية أمنها الذاتي أيضاً. ولما كانت مشاريع توفير الأمن للعدو الصهيوني قد تعرقلت من جهة، واستتباعاً ظلَّت تلك المشاريع عاجزة عن توفير أمن النفط من جهة أخرى.
ولما كانت المقاومة العربية في فلسطين تمثل أحد أهم تلك العراقيل على المستوى الشعبي، ويمثل العراق، بقيادته الوطنية، الجانب الرسمي النظامي في مقاومة تلك المشاريع ورفضها، تدخَّلت الإدارة الأميركية بشكل مباشر وقامت باحتلال العراق لاستكمال حلقة توفير الأمنين معاًً حيث إن العراق كان، بمنظور التحالف المعادي، يهدِّد أمن النفط وأمن «إسرائيل».
منذ تحوَّل الاستعمار إلى مظاهره العسكرية، باحتلال العراق، للقيام بما عجز العدو الصهيوني عن القيام به، أصبحت الساحة العراقية، بقيادة المقاومة الوطنية، مركز الثقل الأساس في المواجهة الدائرة الآن، ففي نتائجها لا يتقرر مصير العراق فحسب وإنما يتقرر مصير الوطن العربي، وعلى رأسه قضية فلسطين، أيضاً، وتأتي حماية الإنجازات التي حققتها المقاومة اللبنانية ضمن ما سوف تنتجه المقاومة العراقية. هذا ناهيك عن أن مصير النظام العالمي الجديد سيكون أفضل من دون «قطبية أميركية متفردة» وأكثر أمناً، ولن يتحقق ذلك الآن لا في فلسطين ولا في لبنان، لكنه سيصبح الحلم الذي يتحقق على أرض الواقع بعد أن ينهزم الاحتلال الأميركي في العراق.
لكن، وفي الوقت الذي تنتصر فيه المقاومة الوطنية العراقية، وتنهزم فيه الإدارة الأميركية، لا يعني أن حالة الاسترخاء ستكون الحل الأفضل للشعب العراقي. لأنه لو كانت الحسابات تخضع لتجزئة القضايا القطرية وعزلها عن مفاهيم المصير القومي الواحد لكان يمكن للعراق، بعد التحرير، أن «ينام» على حرير ثروتيه: «النفطية»، و«انتصاره الوطني».
إن هذا يصح عراقياً لو كانت حدود المطامع الصهيونية ستتوقف عند حدود فلسطين الجغرافية، ولو كانت المطامع الإمبريالية ستتوقف عند حدود العراق الجغرافية أيضاً.
ولكنها لن تصح لأن هزيمة الصهيونية والاستعمار في ظرف معين وفي مكان جغرافي معيَّن، سواءٌ أكان في لبنان أم في العراق، لا يعني أنهما ستتجاوزا هزيمتيهما في العراق وفي لبنان، بل سيُعدَّان نفسيهما لجولات أخرى على أساس وسائل بديلة لن تفتقد وجود ملفاتها في أدراج وزارتيْ الدفاع والخارجية في كل من أميركا و«إسرائيل».
على أساس هذه القاعدة، لن يشعر العراق، أو أي قطر عربي آخر، بالاطمئنان إلاَّ بعد اجتثاث مطامع الصهيونية، وكيانها المغتصب في فلسطين المحتلة. ولهذا نرى أن قضية فلسطين ستستعيد مركزيتها الأولوية في سلَّم النضال القومي العربي، وعلى رأسه سلَّم أولويات النضال العراقي، واللبناني، و..و...كل قطر من أقطار الأمة العربية.
إن أولوية النضال المرحلي، الآن، لا يجوز أن تكون أدنى من سقف تحرير العراق، لأننا في تحريره الآن نضرب رأس الأفعى التي توفِّر للعدو الصهيوني كل إمكانيات البقاء وشروطه. ومع بقاء الاحتلال الأميركي في العراق، وهو ما لن يحصل، ستبقى أية انتصارات على العدو الصهيوني في كل من لبنان وفلسطين عرضة للاهتزاز والتآكل طالما أن القوة الأميركية، سبب بقائه وديمومته، لم يُصب بأذى، ونحن لن ننسى أن احتلال العراق يحمل أحد أهم هدفين للاستعمار الأميركي: أمن النفط، وأمن «إسرائيل»، ولا أمن للنفط من دون أمن «إسرائيل». فطالما ظلَّت الساحة العربية مُستباحة أمام القوة الأميركية سيبقى أمن «إسرائيل» محمياً، ومُصاناً من الأذى.
إن هذه النتيجة لا تعني أيضاً، وهو ما لا يجب أن يخفى على اللبيب الذي عليه أن يتفهَّم مقاصدنا في هذا التحليل، أي أننا لا نقصد أن نجمِّد كل نضالاتنا الفرعية حتى يكتمل النصر في العراق، بل العكس هو الصحيح لأنه في كل ثغرة، ومن كل كوة، وعبر كل جبهة، واستناداً إلى كل وسيلة سياسية أو عسكرية، إشغالاً للعدو المشترك، وإنهاكاً له، وهذا بدوره يقدِّم أيضاً أكبر أنواع الدعم للمقاومة الوطنية العراقية، وأكثرها تأثيراً. فمن لا يستطيع القتال على أرض العراق لمساعدة العراقيين على تحرير أرضهم، فإن القتال على أية أرض عربية هو قتال يوازي القتال على أرض العراق. وهذا يشمل كل أنواع المقاومة، سواءٌ أكانت سياسية أم عسكرية...
3-المركزية الثالثة هي جبهة المواجهة في لبنان، وفي فلسطين، والجبهات العربية الأخرى، ضد الاحتلال الصهيوني وضد التواجد الأميركي بشتى أنواعه وأشكاله.
قياساً على ما تقدَّم نعتبر أن القضية اللبنانية، عدواناً واحتلالاً وتهديداً، مرتبطة بالقضية الفلسطينية، كونها تشكل المركزية الاستراتيجية الأولى، إذ أن العدو الصهيوني يعمل لتطبيع الوضع اللبناني، كما فعلها مع مصر والأردن، وتطويعه بشتى الوسائل من أجل تثبيت حزام أمني عربي يحمي حالة اغتصاب فلسطين ويعترف بها. وبعد أن يصبح الكيان محمياً بأيدٍ عربية كان من المفترض أن لا تفعلها، بل العكس هو الأسلم والأصوب، ستمتدُّ أيدي العدو لاستكمال مشروعه الأساس في تحويل الأمة العربية إلى ملحق يأتمر بتعليمات السياسة والاقتصاد التي تخدم مصالح تحالف العدو الصهيوني مع الرأسمالية الأميركية. ولهذا نعتبر، قياساً على معرفتنا بأهداف التحالف المعادي، أن حالة استرخاء لبناني في التقوقع خلف حدود جغرافية، نعتبرها من جانبنا وهمية وهشَّة، لهو استرخاء مرحلي يحمل حقيقة تفجيره عندما يستكمل العدو الصهيوني حزامه الأمني.
ما لم تتوحَّد المركزيات المقاومة، أهدافاً نظرية وعملية، ستبقى انتصاراتها عاجزة عن إحراز النصر الاستراتيجي
لقد سجلت مقاومة حزب الله انتصاراً في دحر العدو الصهيوني في العام 2000، وأعطت الأنظمة الرسمية درساً في تموز من العام 2006، مضمونه أنه يمكن مواجهة ترسانة العدو الصهيوني. لكن في الحالتين، وعلى الرغم من أن الانتصار قد حصل فإنما هو قياساً إلى الثوابت القومية لا يزال يشكل انتصاراً جزئياً، وجزئيته آتية من أن العدو الصهيوني ظلَّ مستوطناً أرض فلسطين، وأطماعه لا تزال حية، وحمايته الأميركية لا تزال متوفِّرة وقائمة، كما أنه لا يزال يهدد الوحدة القومية ويمنعها، ويهدد مباشرة الدول العربية المحاذية لحدود فلسطين الجغرافية. وهنا يبرز التساؤل الأساسي: ماذا لو فرضت مصلحة أنظمة التحالف الرأسمالي، ومنها الولايات المتحدة الأميركية، على العدو الصهيوني أن يقدِّم تنازلاً في تحرير الأسرى اللبنانيين في سجونه من جانب، وانسحب من مزارع شبعا من جانب آخر، خاصة وأن الأمرين يشكلان السقف الأعلى الذي حدَّده حزب الله لأهدافه، فهل يبقى من مبرر لأن يستمر حزب الله في المقاومة؟
إذن، وحيث إن نتائج مقاومة حزب الله لم تُصب في المشروع مقتلاً، وبهذا لا يزال يمثل التهديد المباشر للبنان، تكون مقاومة حزب الله قد حققت إنجازات تكتيكية لا شك بقيمتها العالية، ولكن لو تُرك الواقع على ما هو عليه في ظل محافظة العدو الصهيوني على قوته، فهو لا شك في أنه سيلتف على الانتصارات التكتيكية عبر أكثر من وسيلة وعامل، ومن أهمها: التسلل عبر إرهاب الأنظمة الرسمية العربية، والاستقواء بالدعم غير المحدود للنظام الرأسمالي العالمي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية.
أما على صعيد المقاومة الوطنية الفلسطينية، لو أنها خفَّضت سقف أهدافها إلى ما دون سقف تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، هل يمكننا أن نعتبر حصولها على سلطة حتى ولو كانت بحجم دولة فلسطينية مستقلة وكاملة السيادة على جزء من أرض فلسطين هو الحل الاستراتيجي لقضيتها؟
إنه ما لم تتخلَّ الصهيونية عن استراتيجيتها، وهي لن تتخلى عنها، فستبقى إنجازات المقاومة الفلسطينية هشَّة وعُرضة للتآكل للأسباب ذاتها التي تواجه المقاومة الوطنية اللبنانية.
وفيما يعني المقاومة الوطنية العراقية، التي أوصلت الاحتلال الأميركي إلى نهايات الهزيمة، فستبقى معرَّضة إلى العدوان الاستعماري والصهيوني بشكل أو بآخر حتى بعد إلحاق الهزيمة بالاحتلال الأميركي، وإرغامه على الانسحاب، إذا ظلَّت الاستراتيجيا الاستعمارية والصهيونية من دون تبديل أو تغيير. ولهذا فإن المقاومة الوطنية العراقية، جمعت بين أهدافها الاستراتيجي الوطني، تحرير العراق المحتل، إلى جانب الاستراتيجي القومي، تحرير أرض فلسطين من النهر إلى البحر. وبهذه الاستراتيجية لا تفصل المقاومة العراقية بين مقاومة العدو الصهيوني في فلسطين ولبنان، ومقاومة الإمبريالية الأميركية في العراق المحتل، أو مقاومتهما معاً في أية بقعة أرض في الوطن العربي.
وحول هذا الأمر فقد عبَّر الرئيس صدام حسين، الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي ومؤسس المقاومة الوطنية العراقية وقائدها، عن الأمرين معاً، عندما كان، ولا يزال يتوِّج خطابه، بتحية إلى فلسطين «حرة عربية من النهر إلى البحر»، كما يُرسل من أسره تحية إكبار وإعجاب بمقاومة حزب الله في جنوب لبنان، ويشدُّ على أيدي أمينه العام السيد حسن نصر الله، وفي اطار تعليقه على العدوان الاسرائيلي على لبنان وجَّه الرئيس تحية للشعبين الصامدين في فلسطين ولبنان، «مؤكداً أن كل من يحمل البندقية في مواجهة العدوان الإسرائيلي -الامريكي هو في الصف الوطني، وله علينا حق المساندة والدعم، ..، مطالباً بدعم سوريا ومؤازرتها لأنها قد تتعرض الى العدوان لتظل المعادلة مختلة في المنطقة لصالح العدو الإسرائيلي».
إن أسباب احتمال التحضير لمحاولات أميركية وصهيونية لاحتواء العراق، العراق المقاوم استراتيجياً، تبرهن عليها مرحلة ما قبل الاحتلال. لقد كان العراق دولة مستقلة ونامية وتؤسس لأكبر مشروع نهضوي عربي، في ظل حالة أمنية مستقرة. ومع ذلك فقد كان مستهدفاً باستمرار لامتناعه عن السير على خطى تلك الإستراتيجية المعادية. فكان العدوان مُبيَّتاً طالما أن النظام الوطني في العراق كان رافضاً لكل أنواع التسويات والمساومات السياسية حول هدفيْ التحالف الأميركي – الصهيوني: أمن النفط، وأمن «إسرائيل». وللسبب ذاته سيبقى مستهدفاً بعد التحرير.
أفكار في صياغة الحل؟
إن حقيقة القضايا الفكرية التي تقاوم من أجلها حركات المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق، كما تبيَّن لنا، تقع على مستوى سقف ثابتين استعماري وصهيوني: أمن هيمنة الاستعمار الأميركي على اقتصاد العالم، وأمن تثبيت اغتصاب الصهيونية على أرض فلسطين. وبدلاً من مواجهتها على قاعدة الوحدة القومية، بثوابتها الاستراتيجية الفكرية والسياسية، ووحدة الجهد المقاوم بثوابته النضالية العربية، ستبقى في داخل أسوارها القطرية، وخصوصياتها الوطنية، تتنافس بدلاً من أن تتكامل. وهذه ستبقى ثغرة ونقصاً في تجربتها. وهنا نرى أنه ما دامت نتائج المقاومة في جانبيها العسكري والسياسي لا تتجاوز الأهداف القطرية فستبقى عرضة للتآكل والذوبان. أما الحل فهو أن ترتقي حركات المقاومة بسقفها من الانتصار التكتيكي المرحلي إلى السقف الفكري الاستراتيجي، وبغيره ستعود حركات المقاومة إلى الانشغال بهمومها القطرية، ولدى التحالف بين الاستعمار والصهيونية الكثير من بدائل الإشغال وإغراق الحركات القطرية في مزالقها.
على تلك القاعدة نرى أن تسلك تلك المقاومات طريق العمل من أجل وحدتها الاستراتيجية، وسلوك الخطوة الأولى على طريق الألف ميل في هذا الظرف بالذات يؤسس لعمل جبهوي قومي مستقبلي يُعتبر جامعة للشعب العربي المقاوم، وهو ما سوف يؤسس إلى تجديد جامعة الدول العربية ووضعها على سكة القرار العربي المستقل.
ليست المهمة بالسهولة الميسورة فوراً، ولكنها ليست بالمستحيلة أيضاً. فصعوبتها تكمن في كثرة الإيديولوجيات التي ترسم خطى تياراتها، ورفض استحالتها يكمن في أن الشعب العربي سيكون الداعم الأكبر لها، فهو مع أية وحدوية في مواجهة العدوان الخارجي بغض النظر عن شكلها ولونها. فعند الشعب العربي الاستعداد والجهوزية لالتقاط كل نتائج النصر الذي يقوم بأوده شبان وقادة عرب نزلوا إلى خندق المقاومة، فتعذبوا واستشهدوا ولاقوا أمرَّ المعاناة، وكانت بوصلتهم أنه لا تحرير من دون دم يُراق، ومن دون حياة تُبذَل.
فتحية، وألف رحمة على كل نفس عادت إلى ربها من خلال خندق الدفاع عن حياض الأمة العربية، تلك النفس التي غيَّرت وضع الأمة من موقع الدفاع الضعيف، أو المشبوه أحياناً، إلى موقع الهجوم لتحريرها من كل معتد أثيم لوَّث ترابها.
أمتنا حيَّة حيثما «يحمل أبناؤها السلاح»، من مارون الراس في لبنان، إلى جينين في فلسطين، إلى أم قصر في جنوب العراق. مروراً بكل معارك الأمة في تلك الأقطار التي تُمثِّل مارون الراس وجينين وأم قصر رموزاً من رموزها. وقد شكَّلت رموزاً معاصرة كانت قد تأسَّست على خطى معركة بور سعيد في مصر، ومعركة الكرامة في الأردن، وكفار يوفال في فلسطين المحتلة، وكفركلا والطيبة في جنوب لبنان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق