الجمعة، فبراير 26، 2010

تهافت نهاية التاريخ

-->
تهافت نهاية التاريخ
أسبابه وأبعاده
20/ 11/ 2007
فوكوياما يعلن تهافت «نهاية التاريخ» عند المحافظين الأميركيين الجدد
كمثل كل الأصوليات في التاريخ، جمَّد فوكوياما، رائد التنظير الفلسفي لجماعة الأميركيين الجدد، أو لأصحاب «القرن الأميركي الجديد»، نظريته وأعلن إفلاسها قائلاً: «خلصت الى أن المحافظين الجدد - رموزاً وافكاراً - يدورون حول شيء لا أستطيع بعد الآن أن أؤيده أو أقبله بتاتاً». وبتعبيره هذا، يكون فوكوياما قد طلَّق بالثلاث نتائج فلسفة المحافظين الجدد، التي وضعته على كرسي الشهرة، طلاقاً بائناً لا رجعة فيه. وتهافت هذه النهاية، والله، لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، فقد أفلست فلسفات قبلها في التاريخ وتهافتت، لكن أصحابها لم يعلنوا ذلك، وهم لم يكونوا بالجرأة التي تميَّز بها فوكوياما بإعلانه عن تهافت فلسفته.
«نهاية التاريخ» فلسفة لكل الأصوليات في العالم
فلسفة «نهاية التاريخ»، لم تكن مما يميِّز المحافظين الأميركيين الجدد، بل كانت استئنافاً للفلسفات السابقة التي أنهت التاريخ عند حدود إيديولوجياتها. وهو ما نراه في مرحلة الأصوليات الدينية، كما في مرحلة الإمبراطوريات في التاريخ، تلك التي كانت تعتبر أن التاريخ قد انتهى عند حدود فلسفاتها واتجاهاتها ومصالحها. فإذا كان فوكوياما قد عبَّر عن شوفينيته بمصطلح «الإنسان الأخير» الذي يعني الإنسان الذي يؤمن بالإيديولوجيا الرأسمالية المعاصرة، فإن غيره قد عمَّم مصطلحات أخرى تحمل المفهوم ذاته، شكلاً وروحاً، كمثل تفوق «الرجل الأبيض»، أو«خير أمة أخرجت للناس»، أو«شعب الله المختار»، أو«صفاء العرق الآري»، و... و...
لقد أفلست الإمبراطوريات، والأصوليات، التي سبقت إعلان «نهاية التاريخ» عند المحافظين الأميركيين الجدد، ولكن أتباعها لم يعلنوا إفلاسها، كما فعلها فوكوياما، متلطين تحت أكثر من ذريعة وسبب، لعل أكثرها وضوحاً، تلك الحجج التي تقول: لا يتحمل الفكر الإمبراطوري، أو الأصولي وزر أخطاء الماضي، بل الذي يتحمل وزرها هم أولئك الذين عملوا على تطبيقها.
ولقد تميَّز فوكوياما بجرأته عندما أعلن إفلاس تلك النهاية وتهافتها، بينما غيره لم يكن بمثل تلك الجرأة.
فوكوياما، الذي شغل الرأي العام الأميركي، منذ أوائل التسعينيات من القرن الماضي، يستقيل الآن ويترك كرسي الشهرة الذي احتله بعد إصدار كتابه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، ولعلَّه بانسحابه قد أثار زوبعة كثيفة من الدخان عتَّمت سماء بيت المحافظين الجدد في واشنطن.
وباستقالة فوكوياما، تاركاً كرسي فلسفة التنظير، أقال قبل استقالته أو بعدها معظم أقطاب منظومة الأميركيين الجدد السياسية، وبها انهارت الصورة المشرقة لرجال ملأوا الدنيا ضجيجاً، دمروا فيه ما دمروا في البلقان، وأفغانستان والعراق، مكمِّلين مشوارهم تجاه لبنان وفلسطين والسودان.
تلك الانهيارات المتتالية لفلسفة المحافظين الجدد، وإن حجبت خطورتها أخبار الحروب وفظائعها وويلاتها التي يستكملها رئيس إدارة تلك الشلة تحت ضجيج «نصر موهوم»، إلاَّ أنه من غير الطبيعي أن تمر مرور الكرام أمام عدسات الناظرين والحاسبين لتداعياتها الاستراتيجية على مجمل النظام الأميركي خاصة وعلى مجمل النظام العالمي عامة.
بداية، كان جوهر فلسفة «نهاية التاريخ»، بمفهوم المحافظين الأميركيين الجدد، قائماً على عامل الدفاع عن مصالح الشركات الكبرى، شريكة المافيات العالمية وصنوها الدائم، تلك الفلسفة التي عملت، ولا تزال تعمل، على تجميل استغلال كل لحظة من لحظات الفلتان الموضعي أو العالمي من أجل المتاجرة بكل لحظة من لحظاتها، واستنفاذها من أجل تكديس الثروات على الثروات.
الترويج لتحقيق نصر للمحافظين الجدد فرصة انتقالية لمافيات الحرب
إن شعار النصر الموهوم، الذي يعممه رئيس تلك الإدارة، ليس أكثر من فرصة يتيحها أمام تلك المافيات لسرقة ما يمكن سرقته من دماء الشعوب قبل إعلان إفلاس المشروع القائم تنفيذه الآن في العراق وأفغانستان. وهي تعمل على تكديس آبار الدماء انتظاراً لمراحل فلتان أخرى يقومون بالتحضير لها، تحت شعارات وفلسفات ومسميات أخرى.
بداية نرى أن الترويج للنصر، الذي يمارسه جورج بوش هو فرصة أخيرة لاستنزاف مليارات أخرى من خزينة الولايات المتحدة الأميركية، حتى ولو كانت مترافقة مع تقديم قرابين إضافية من أرواح الجيش الأميركي، طالما أن أباطرة الشر لا يدفعون من جيوبهم سنتاً واحداً، ولا من دمهم قطرة واحدة.
ومن قبيل الحظ أن شعب الولايات المتحدة الأميركية هو الذي يدفع من جيبه ومن دمه، و إلاَّ لكانت كل الجرائم التي يرتكبها أباطرة الشر الأميركيين، مدعومين بأباطرة المافيات عابرة القارات، نسياً منسياً. تلك الصدفة هي التي نقلت معركة المواجهة ضد إدارة الشر من العراق وأفغانستان، وغيرهما إلى عمق الشارع الأميركي. وبنقلها إلى هناك، دفعت إلى إظهار الجرائم والكشف عنها كوسيلة لإسقاط المشروع على أرض الولايات المتحدة الأميركية.
مواجهة الشعب الأميركي لمفهوم «نهاية التاريخ» إعلان لتهافته
لكن لحظة الحظ تلك لم يكن مصدرها صحوة ضمير عند معظم الشارع الأميركي، بل كان مصدرها تلك القوة التي منعت المحافظين الجدد من استثمار نفط العراق لتمويل الحرب، كما أثخنت جنوده بالجراح والعوق، كما أردت الآلاف منهم في المقابر. وبهذا تسجل تلك القوة، التي هي المقاومة الوطنية العراقية، فضل حفر البؤرة التي تعمل على دفن فلسفة المحافظين الجدد، وهذا يؤكد على أنه ليس من قبيل الصدف أن يُعلن فوكوياما تهافت «نهاية التاريخ»، فتتهافت معها رؤوس المحافظين الجدد السياسيين والعسكريين.
مواجهة الشعب الأميركي نتيجة لعوامل مواجهة أخرى
إذن، كان السقوط العملي، والنظري، للمشروع يدفعنا إلى التفتيش عن أسبابه، لأن سقوطه لم يستند إلى عوامل أميركية داخلية، أو عوامل مراجعة فكرية، أو سياسية، وإنما كان سقوطه مرتبطاً بعوامل أخرى أتت من خارجه.
كان المشروع النظري مبنياً على رؤى علمية، من أهمها التبشير بديموقراطية النظام الرأسمالي لأنه هو، دون غيره من الأنظمة، الذي قفز قفزات هائلة في الميدان الحضاري، وفَّر فيه كل وسائل الراحة المادية للبشر، كما وفَّر أوهام صناعة الإنسان، على الطريقة البيولوجية، صناعة خاصة يستطيع فيه العلم الأميركي أن يصنِّع إنساناً بمواصفات محددة وخاصة يكون خاضعاً فيها، بشكل مخطط ومبرمج للانصياع إلى فلسفة الصناعيين والتجار.
ونحن سنعمل على دحض تلك الادعاءات، مستندين إلى العوامل ذاتها التي أوقفت مشروع اجتياح العالم. والعوامل ليست إلاَّ رزمة واحدة تجمعها عامل المقاومة والمواجهة، وعوامل المقاومة مستندة إلى عامل إنساني غريزي عنوانه الحرية والكرامة والاستقلالية الإنسانية.
فإذا كانت الحضارة المادية، التي أنجزت خطوات نوعية ومتقدمة لخير البشرية، هي المقياس الذي كال به فوكوياما نظريته، وجعلته على مقدار من الانبهار، يسمح له بتعميمها وفرضها على البشرية، فهو قد قصَّر عن بلوغ الحقيقة لأن بناء تلك الحضارة لا يجوز أن يعطي الحق لأصحابها بالسيادة على البشر، فالله لم يأمر بسيادة شعب على شعب آخر تحت أي ذريعة كانت. وإذا كان العكس هو الصحيح فلِمَ خلق مع الإنسان، كل إنسان قيمة الحرية والعدالة؟
وإذا كانت الحضارة المادية قد استطاعت أن تتحكم بجزئيات من شؤون خلق البشر، من خلال امتلاكها تقنية تطوير الجينات واستنساخ ما تأمر المصانع بصنعه، فإن هذا الأمر قد أصبح بغاية من التعميم والانتشار في مختبرات الدول الأخرى، الأمر الذي يتيح لها أيضاً أن تقوم بتصنيع بشر تزرع فيهم مواصفات مضادة لـ«إنسان فوكوياما الأخير» والمحافظين الجدد، بحيث لن يصبح الأخير على الإطلاق.
لا تعطي هذه الحضارة، في هذه الجانب حقاً للنظام الرأسمالي باحتكار التحكم في صناعة الإنسان الذي تريد حسب مواصفاتها، لأن الاحتكار فعلياً أصبح بحكم الملغى، من خلال تعميم تلك التقنية أولاً، ولأن المصانع الرأسمالية إذا أرادت أن تصنع بشراً يلبون رغبات مالكيها، فهذا الأمر لن يكون واقعياً لأن عليها أن تصنع نوعين من البشر: «نوع الأسياد»، و«نوع العبيد»، انسجاماً مع مفاهيم النظام الرأسمالي القائم على ثنائية «المنتج السيد والمستهلك العبد». فهل من الممكن أن تفعلها مصانع الرأسمالية لصناعة البشر حسب نظام «التحكم الجيني»؟
لقد كانت فلسفة فوكوياما مفصَّلة على مقاييس فلسفة الشركات الكبرى، ونجاح فلسفة تلك الشركات كان مبنياً على أسس خطة متكاملة، خططوا من أجل بلوغه كشرط لازم له، أن يجتاحوا المفاصل الاستراتيجية في العالم بنوعيها، الجغرافي والاقتصادي. تلك الخطة التي شرعوا بتنفيذها منذ وصول المحافظين الجدد إلى استلام السلطة في أميركا. وكانت بداياتها الأسرع في بلاد البلقان وأفغانستان، ولم تكن لتحصل بمثل تلك السرعة من دون العون الدولي لمنظومة الدول الرأسمالية. لكنها وقفت عند عقدة العراق لأكثر من سبب لعلَّ أهمه إن لم يكن الأكثر تأثيراً هو عامل الشعور بالسيادة والعدالة عند من خطط لتفجير المقاومة في وجه الاحتلال.
فلسفة المقاومة، قائمة على مفهوم السيادة، تؤسس لـبداية التاريخ على أسس أخرى
كونها من أعاق تنفيذ المشروع، إن للمقاومة فلسفة مناهضة للمفاهيم الإمبراطورية والأصولية السياسية، وعماد تلك الفلسفة ومحورها، الشعور بالسيادة كعامل يتعلق بالحرية الإنسانية، السيادة سواءٌ أكانت بمفهومها الاجتماعي والسياسي أم بمفهومها الذاتي الفردي. وهي تمثل حالة تمرد على كل الأصوليات التي تعمل على تعميم ذاتها وتصديرها إلى الآخرين بحجة أوهام صلاحيتها لكل البشر.
إن هدف فلسفة المقاومة التجدد الذي يستحيل أن يحصل من دون صياغة مفاهيم تصلح لبناء العلاقات الإنسانية القائمة على احترام القيم الإنسانية عند الإنسان، كعامل يسبق كل قيم عرقية أو دينية، وهي تمهد بذلك لصياغة علاقات إنسانية بين الشعوب كافة.
فقيم المقاومة هي انقلاب على القيم الإمبراطورية والأصولية، واعتبار الإنسان أينما كان أخاً للإنسان.
ليس مفهوم السيادة مفهوم عام ومطلق، بل للسيادة ترجمة في الواقع، وإن ابتدأت أصلاً من مفهوم الحرية الفردية، أي سيادة الإنسان على نفسه، فإنها تكتسب أعماقها الاجتماعية أيضاً بكون إنسانية الإنسان لا تتحقق إلاَّ داخل جماعة، والجماعة لا تستطيع أن تميز نفسها إلاَّ في إطار جغرافي يوفر لها عامل حماية اقتصادية وأعلاها مرتبة حماية مادية ضد كل مخاطر التهديد من جشع الخارج وأطماعه. وهذا الإطار الجغرافي ما يُعبَّر عنه بمصطلح الوطن.
ونحن لا نستطيع أن نفهم وجود جماعة من دون ذلك الإطار. ولكن هل يتلازم هذا المفهوم، بالضرورة، مع نزعة الشوفينية والتعصب؟
على الرغم من أن الفلسفات الدينية قديماً قد صنَّفت هذا الإطار في دوائر إعاقة تصدير إيديولوجياتها، فحاربتها. وأن الفلسفات الحديثة، كمفهوم الأممية الماركسية، قد انتقدت كل تكوين وطني أو قومي ووصمته بالشوفينية والتعصب، فجنَّدت جزءاً مهماً من دعوتها لمحاربته أيضاً، إلاَّ أن واقع الأمر كما نفهمه نحن ليس فيه ما يخيف الأصوليات الدينية ولا الأصوليات المادية، لأن التجمع البشري المتجانس هو مسألة طبيعية، ونزعة إنسانية فطرية، لا يمكن بترها. ففي بترها إعادة لتصنيع إنسان مثالي لا يعيش إلاَّ في مخيلات صانعيه. وهم أشبه بفوكوياما الذي أراد أن يُصنِّع الإنسان الأخير في المختبرات العلمية على مثال الأنموذج الرأسمالي. وهؤلاء الذين غلَّبوا نزعات الإيديولوجيا الأممية يعملون على تصنيع الإنسان الأخير في مختبراتهم الإيديولوجية. وكلاهما متساويان في ضخ أفكار صعبة التطبيق لأنها تتنافى مع أدنى النزعات الإنسانية في طلب السيادة والاستقلال.
مفهوم السيادة ليس بالضرورة مفهوماً شوفينياً
لكن هل في السيادة، بالمفهوم الوطني والقومي، ما يعرقل بناء علاقات أممية إنسانية؟
إذا كانت السيادة نزعة فردية واجتماعية، فرد ينال حقوقه، أو مجتمع يحمي ذاته، فهي تبني مثالاً لعلاقات إنسانية سليمة في الوقت الذي تبني فيه علاقات سليمة بين أفرادها، وبهما يتم تشذيب التعصبية الفطرية من كل أنواع الشوفينية.
وفي النتيجة، نرى أنه في تهافت الفلسفات الأصولية الدينية السياسية والأصولية المادية، أنموذجاً لتهافت أصولية المحافظين الأميركيين الجدد، هو إحياء لنزعة السيادة على المستوى الفردي والمجتمعي المتجانس. وهذه النزعة بدورها قد خاضت حروباً كثيرة استخدمت فيه عامل التضحية لتضييق الهوة بين قوة القوي وضعف الضعيف.
في التاريخ البعيد والقريب أمثلة برهنت على صحتها في كل أنحاء العالم بشكل عام، وفي أمتنا العربية بشكل خاص، والأنموذج الأكثر وضوحاً لأننا نعايشه منذ خمس سنوات تقريباً يجري على أرض العراق، فهل يمكننا تجاهلها؟
إن في سطوع البرهان ووضوحه، ما يدعونا لأن نعلن ليس تهافت نهاية التاريخ بالمفهوم الإمبراطوري الأميركي فحسب، بل تهافت نهاية التاريخ في مفاهيم الأصوليات الأخرى أيضاً. وفيه ما يدعونا إلى إعلان بداية تاريخ جديد من خلال الاعتراف المتبادل بسيادات الشعوب، كخطوة أساسية في بناء علاقات إنسانية عامة تقوم على احترام متبادل لسيادة كل شعوب الأرض قاطبة.
فتحية للمقاومة الوطنية العراقية التي وأدت إيديولوجيا المحافظين الأميركيين الجدد في المهد.
وتحية لها لأنها تؤسس، من خلال إيديولوجيتها الوطنية والقومية، لبداية أخرى في تاريخ العالم، فهي تؤسس، إذاً، لـ«بداية التاريخ».
-->

ليست هناك تعليقات: