ملامح الثقافة العربية المعاصرة:
نحو تأسيس مفاهيم جديدة للصراع مع المشاريع المعادية
لا تنفصل الثقافة العربية عن مشروع ثقافي تنموي يعي القضايا القومية، على أن يبلغ عمقها بما يولِّد حرارة الإيمان بها ليشكل دافعاً للالتزام بالدفاع عنها. وإذا لم تتحوَّل الثقافة العربية إلى مشروع يهدف للدفاع عن قضايا المجتمع العربي، بما فيه الدفاع عن قضايا الأمة في الصراع مع المشروع الاستعماري والصهيوني، لن يكون أكثر من مشروع ترف فكري.
فإذا كانت عناوين أهداف الثقافة الملتزمة بقضايا الأمة واضحة، فإن مضامينها هو ما تتمحور حولها الجهود لتحديدها، وهي مهمة موضوعة أمام التيارات الفكرية العربية وحركاتها السياسية. وفي سبيل الإسهام بدور في التأسيس لتلك المضامين، نرى أن من أهم أسس توليدها أن تستند إلى وسائل نقدية موضوعية لكل التجارب القومية السابقة من دون ممارسة أسلوب بترها وإلغائها.
لقد انفتحت، في القرن العشرين، بوابة المعرفة العامة على مصراعيها بعد أن انتشرت وسائل إيصالها إلى الجميع. واكتسبت سمة الثقافة الموسوعية، من دون تحويلها إلى ثقافة عامة تخدم المشروع المعرفي العربي، الذي من أهم أهدافه أن يتحول إلى حقل معرفي يرتقي بوعي المثقف إلى معرفة قضايا المجتمع العربي بوعي، وإدراك، يزرع الحماس الثقافي لمعالجة تلك القضايا بدراية وموضوعية، والانتقال بهذا الوعي إلى مستوى الالتزام بالدفاع عنها.
إذا كانت ركائز الثقافة تخضع إلى قواعد جامدة وصارمة في جمودها، وإذا كانت أسس الحركة النقدية تقوم على قاعدة بتر التجارب السابقة وإلغائها فسوف تقع الحركة النقدية في فخ تجميد مقاييس التجديد، وتبتعد عن ميزات الجدل وتتقوقع من جديد داخل مسلَّمات تمنعها من التوصل إلى نتائج جديدة بما يمنع من إنتاج مضامين معرفية تفيد حركة النضال العربي.
فإذا عمل المثقف من أجل تثبيت مقاييس النقد التي تتجاوزها –في أحيان كثيرة- طبيعة المراحل –بما تحمله من متغيرات مستمرة- فسيجد نفسه أمام نتائج لا تخدم مسار التجديد في البُنى المعرفية. وتجميد تلك البُنى يتعارض باستمرار مع أهداف توليد حركة معرفية عربية تصب في خدمة قضايا الأمة.
لقد مارست الحركة الثقافية العربية، منذ نكبة فلسطين في العام 1948م، نقداً طال تقصير النظام العربي الرسمي في مواجهة الحركة الصهيونية التي احتلَّت الأرض الفلسطينية. وتوصلت الحركة النقدية العربية إلى تحميل الأنظمة العربية مسؤولية خسارة حرب العام 1948م، فسقطت أنظمة وظهرت أنظمة جديدة، فطالبتها الحركة الثقافية العربية بالإعداد الجدي لتحرير فلسطين على قاعدة الحرب النظامية.
ولما كانت تلك الأنظمة تستند إلى شعارات قومية وأكثر تعبيراً عن مصالح الجماهير العربية،
ولما كانت الاتجاهات العامة لأهداف الأنظمة الجديدة، مترافقة مع النتائج التي حملتها الحركة الثقافية العربية -في تلك المرحلة- بالإعداد إلى حرب تحرير فلسطين على قاعدة التوازن في عدد القوات ونوعية الأسلحة النظامية مع قوات وإمكانيات العدوان الصهيوني،
ولما حمل الخامس من حزيران، من العام 1967م، هزيمة للجيوش العربية، راحت الحركة الثقافية العربية تمارس نقدها على أسس ومفاهيم الحروب النظامية، وعلى أساس أنه ليس هناك من وسائل ومفاهيم للتحرير إلاَّ الحصول على توازن عسكري نظامي.
بدا –في تلك اللحظة التاريخية- وكأن الأمل المنشود قد ضاع، وتعالت أصوات النقد بندب المشروع القومي ونعيه، فكراً وممارسة. وراحت القوى المعادية تؤجج نار النقد وتعمق –بدورها- الأصوات التي نعت المرحلة القومية. وإلى جانبها لاقت تلك الحركة النقدية إسناداً من النخب السياسية والاقتصادية العربية –المستفيدة من بقاء الهيمنة الاقتصادية الرأسمالية العالمية- وهكذا انتشرت في الأسواق الثقافية العربية ثقافة الهزيمة، التي كان النعي والندب من أهم سماتها.
ومن جديد راحت الحركة الثقافية العربية تفتش عن مشروع نظامي عربي جديد يعمل من أجل تحقيق التوازن العسكري على قاعدة المواجهات العسكرية النظامية. وكأنها –بمثل هذا التفتيش- قد جمَّدت مقاييسها النقدية على قاعدة مفاهيم جامدة من سبل الصراع ووسائله، وهي قاعدة توازن القوى العسكرية النظامية، وكأنه ليس هناك من وسائل لمتابعة الحركة النضالية العربية ضد المشاريع الاستعمارية والصهيونية غير تأمين في توازن القوى النظامية.
مراهنات نقدية خاسرة، مارستها الحركة الثقافية العربية، لأنها لن تجد بنياناً نظامياً عربياً رسمياً قادراً على إحداث حالة التوازن تلك. وعبثاً تفتش عن ذلك، ومن العبث أن يصل النظام العربي الرسمي إلى حالة التوازن تلك، لأن قوى العدوان وحدها هي التي يمكنها أن تقدِّم المعونة في ذلك. ومن المستغرب أن ننتظر أن تقوم تلك القوى بالسماح للعرب في الوصول إلى أي مستوى من التوازن، لأنها تكون بذلك كالصياد الذي يساعد فريسته على التخلص من مصيدته.
وهل على الحركة الثقافية العربية أن تواصل نقدها وندبها وتفتيشها عن حلول مستحيلة التحقيق؟
إذا كان على الحركة الثقافية العربية أن تكون صادقة في سعيها للدفاع عن قضايا المجتمع العربي وقضايا الأمة العربية، عليها أن تستخلص من تجارب الأمة دروساً تدفعها إلى التفتيش عن وسائل تكون أقرب إلى التحقيق منها إلى الفشل. فما هي –كما نحسب- تلك الوسائل؟
من أولويات الأسس الفكرية أن تعمل الحركة الفكرية والثقافية العربية من أجل إعادة النظر بالمفاهيم القديمة التي تأسست عليها الحركة النقدية العربية لتعريف وسائل الصراع مع المشاريع الاستعمارية، ومن أهمها التأسيس لمفاهيم جديدة حول وسائل الصراع. فكيف ننظر إلى تلك المسألة؟
بداية نرى أن الحركة النقدية والحركة الثقافية العربية لم تعترض على تثبيت الحق في متابعة النضال ضد قوى الاستعمار والصهيونية بغض النظر عن نتائجه وعن حجم التضحيات التي تتطلبها الحركة النضالية. لكن تثبيت الوسائل وحصرها بحالة التوازن في القدرات النظامية هو ما نرى أن نناقشه.
في تجارب العرب الحديثة والمعاصرة، نماذج من وسائل الدفاع التي تصلح –بعد استقرائها- لتشكيل قاعدة تسهم في صياغة أسس لمفاهيم جديدة. تلك التجارب تكررت في مظاهر المقاومة التي يُطلَق عليها (حرب التحرير الشعبية). وهناك تجارب معاصرة ثلاثة يمكننا الإشارة إليها، وهي:
-المقاومة الفلسطينية: لقد منعت ثقافة المقاومة الشعب الفلسطيني من أن يتنازل عن حقوقه المشروعة ومن أن يعترف للعدوان الصهيوني بمشروعية عدوانه. ولهذا لا تزال قضية فلسطين حيَّة تشغل بال العالم أجمع وتحوز على اهتمامه.
-المقاومة الوطنية والإسلامية في لبنان: وهي التي أحيت مشروعية حقوق لبنان في تحرير أرضه بشتى الوسائل والإمكانيات، ورفضت الاعتراف بمشروعية العدوان الصهيوني. ومن خلال إصرارها على ممارسة حرب التحرير الشعبية، حققت الكثير من أهدافها، ومن أهمها تحرير الأرض اللبنانية من الاحتلال الصهيوني.
-المقاومة الوطنية العراقية: منعت ثقافة المقاومة العراقية الشعب العراقي من التنازل عن حقوقه المشروعة، كما أنها منعت الاحتلال الإنجلو أميركي من اكتساب أية مشروعية إنسانية وأخلاقية. وهي اليوم تدفعه إلى المزيد من الغرق في معركة غير نظامية تلحق في صفوف قواته الخسائر البشرية، وتمنعه من تحقيق أهدافه في سرقة الثروة النفطية.
في مجال التوازن في القوى النظامية لا يمكن أن يحقق العرب توازناً مع قوى العدوان. ولكن على قاعدة المقاومة الشعبية –على شتى وسائلها وأنواعها- نجد أنها الوحيدة التي تعزز عوامل الصراع ضد العدوان وتديمه.
فلتخرج الحركة الثقافية العربية من إسار ندب الأنظمة الرسمية ونعيها، والخطورة الأشد تتمظهر في نعي الفكر القومي والتحرري، ولتنكبُّ على الترويج لثقافة المقاومة العربية الشعبية الطويلة الأمد والنفس، وتضع الجماهير العربية أمام مسؤولياتها في رفد حالة النضال المقاوم بالإمكانيات والقدرات، وهي –حتماً- قليلة التكاليف، وبمقدور الجماهير الشعبية أن تقدمها.
آن للحركة الثقافية العربية أن تخرج من أسار النقد للنقد، وأن تعمل على تجديد مفاهيمها ذات العلاقة بالدفاع عن الحقوق العربية المغتصبة واستعادتها، وأن تدخل بوابته من خلال تقديم البدائل لكل الأساليب التقليدية التي أثبتت التجربة عدم جدواها. وما يعيد الأمل إلى نفوسنا هو أننا نلمح ملامح ثقافة عربية معاصرة تتجه نحو تأسيس مفاهيم جديدة للصراع مع المشاريع المعادية، تلك المفاهيم ترتكز على الاستفادة من طاقات الجماهير الشعبية بعد أن تأكد أن أسس الصراع على قاعدة الحرب النظامية ليست هي الحل المنظور.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق