-->
-->
في مواجهة الخطر الداهم من الخارج
والاستغلال القابع في الداخل
لا بُدَّ من حركة حزبية عربية سليمة ومتعاونة وناشطة
29/ 11/ 2004
»
إن الأحزاب هي أساس داء الفرقة والتفتيت المنتشر في الجسم العربي«. هذا ما روَّجت، ولا تزال تروِّج، له أوساط عديدة في داخل الأمة وخارجها:
-النخبة في الحركة الثقافية العربية المنضوية في أندية المستفيدين من استمرارية النظام العربي الرسمي الراهن. وهي –بالأساس- من تصنيعه وإعداده لوضعها في طلائع المواجهة مع أية حركة ثقافية ذات اتجاهات اعتراضية عليه.
-الحركات الدينية السياسية متخفية تحت غطاء الدين، لأن أية حركة حزبية خارجة عن طاعة النصوص الجامدة تصب في غير مصلحة المؤسسات الدينية التي تحوَّلت إلى بُنى رسمية تطمح إلى الاستئثار بالحكم أو –على أقل تقدير- تكون في موقع المؤثر على الأنظمة السياسة بما يخدم طموحاتها.
-وفي استراتيجية المشاريع الخارجية المعادية، التي تعمل من أجل حماية النظام العربي الرسمي خاصة وأنه يشكِّل حليفاً وصديقاً صدوقاً ترتبط مصالحه مع الحركة التجارية والصناعية لشركات الخارج الكبرى.
-ونتيجة لأهمية الإعلام والثقافة والتوجيه في كسب المعركة، أولت القوى الخارجية الطامعة في ترسيخ الهيمنة على الأمة العربية، والحصول على المزيد منها، أهمية للربط في عجلتها كل من تستطيع الحصول على قبوله التعاون معها، من النخب الثقافية والإعلامية العربية، على قاعدة تبادل الخدمات المدفوعة الأجر. فحقَّق المشروع الخارجي المعادي الكثير من النجاحات فاستقطب مؤسسات إعلامية ومثقفين كثيرين من بين الناطقين باللغة العربية.
خطاب واحد جمعهم كلهم على الرغم من تفاوت مصالحهم بغض النظر عن الدين أو العرق أو اللون والرائحة. وفي هذا الإجماع ما يثير التساؤلات والاستغراب.
وما يكشف الغطاء عن أسرار ما يجمع تلك التيارات لا بُدَّ من استذكار أن الحركة الاستعمارية، بالأمس، قادت تحالفاً يجمع بعض الأوساط السياسية الرجعية، وعدداً من الأصوليات الدينية، وبعض النخب الرسمية العربية، وبعض الأندية الثقافية الليبرالية المتحالفة مع نخب المال والاقتصاد والسلطة. بحيث كانت من أهم أهداف التحالف المذكور اجتثاث طلائع الحركة الحزبية العربية من شتى التيارات، لأنها طرأت على الساحة العربية متحدية تحالف الاستعمار والرجعية والنخب الحاكمة وبعض الأوساط الأصولية الدينية ذات المشاريع السياسية.
لقد كان التحالف المذكور عميق الجذور في تاريخ المنطقة، حتى وإن تلوَّنت مظاهره وتغيرت ألوانه، فهو تحالف تاريخي قاد شتى مراحل التاريخ السابقة واستفاد منها، وجاء من ينغِّص عليه استفراده بالابتزاز والاستغلال في بيئة أمية تربَّت على ثقافة الطاعة لأولي الأمر من دون سؤال أو تشكيك.
استناداً إلى ما سلف جاءت الحركة الحزبية –كأهم حركة تنظيمية في العصر الحديث- لكي تعمل على تنظيم أصوات المعترضين على سؤ أداء البنى السياسية والثقافية والفكرية في العصور السابقة.
لقد دفع المشككون –سابقاً- من النخب التي وعت حجم التخلف الذي نال من مجتمعاتنا ومن جهد الشعوب وعرقها، ثمناً غالياً لأن النظام السياسي الاجتماعي الاقتصادي السابق كان يأكلهم حبة حبة. أما وأن تظهر حركة حزبية تدعو إلى توحيد جهود المناضلين من أجل التغيير فهو تجاوز خطير لخط مصالح التحالف الأحمر.
بدأت حركة هجومية ضد أية نوايا أو تشكيلات حزبية منذ ولادة الأجيال الجديدة في ظل مراحل الاستقلال السياسي في القرن العشرين، تحت عنوان واحد وهدف واحد هو التحريض ضد الحركة الحزبية خاصة تلك التي تتبنى شعارات »الوحدة العربية«، و»الاشتراكية«، و»الديموقراطية«، ومن أهمها شعار التحرر من »الاستعمار«. فنال التياران »الماركسي« و»القومي« حصة كافية من محاولات التشويه والملاحقة والاضطهاد والتفكيك والتشكيك.
صمد التياران على الرغم من توزيع أوراق النعوة بوأدهما، ولكن الصمود كان مشوباً بالكثير من العثرات والثغرات التي يتحملان المسؤولية فيها. ومن هنا تبدأ حكايتنا، وتبتدئ مسؤوليتهما في المعالجة.
إن بداية المسير على السكة لا بُدَّ من أن تستند إلى رؤية نقدية ذاتية، وهذا ما يدفعنا إلى القول بأنه لا يمكن للحركة الحزبية العربية ومناصريها وأصدقائها وحلفائها من قوى وشخصيات وأوساط فكرية وثقافية أن تخوض معركة ذات جانب واحد وهو ما له علاقة بعامل الإعاقة الخارجي، بل لا بُدَّ لها –أيضاً- من أن تخوض معركة ضد عوامل الإعاقة الداخلية الذاتية.
يبتدئ تشخيص ومعالجة هذا العامل أولاً على صعيد كل حزب أو حركة، وينتهي بتشخيصه ومعالجته على صعيد علاقة أعضاء نادي الحركة الحزبية بشكل واسع ثانياً.
أولاً: على صعيد تشخيص عامل الإعاقة الذاتي على صعيد كل حزب أو حركة:
ليس من الخطورة أن تتعثَّر المسيرة التنظيمية والفكرية والسياسية لحزب ما، بل الخطورة تبتدئ عندما لا تخضع تلك المسيرة إلى حركة نقدية داخلية مستمرة على القاعدة الديموقراطية الواعية الناضجة الموضوعية. وحول هذه الزاوية، ومن خلال مراجعتنا لبعض تجارب بعض الأحزاب النقدية، نرى أن ما حصل مشجَّع ولكنه غير كاف، بل يعتوره النقص، وهو يحتاج إلى متابعة دؤوبة. وإذا كنا لن ندخل في التفاصيل فإنما الإشارة إلى بعض الأهداف الكبرى هو ما يؤشر إلى أهميتها وإلى ما يدعو إلى التفاؤل: كمثل الخروج من الجدل حول الأولويات –في بيئة سياسية واقتصادية كالبيئة العربية التي تمر بمرحلة التحرر من قبضة الاستعمار- فأصبحت لمواجهة الاستعمار أولوية تستقطب قبول أكثر ما يمكن من الدعاة السياسيين والمناضلين للتعاون والتنسيق في ساحة المواجهة بغض النظر عن ألوانهم الفكرية والثقافية والسياسية. وقد جاء هذا التطور في أعقاب مرحلة جدلية طويلة كانت رحاها تدور حول أولوية التحرير أم الديموقراطية
وإذا كنا قد أعطينا أهمية لمثل هذا التحول إلاَّ أنه ليس الوحيد، بل قاد هذا التحول إلى توحيد آخر هو انتهاج أسلوب الكفاح الشعبي المسلَّح بعد أن كان الانقسام حول جدواه قد استهلك أجيالاً من عمر الحركة الحزبية العربية. وفي مثل هذا التحول ما يوجب على الأوساط الفكرية، المناصرة للضرورة النضالية على قواعد التنظيم الحزبية، أن يعكفوا على دراسة موضوعية للتطورات الإيجابية في شتى مناحي التطور الفكري والسياسي والاقتصادي في مسيرة الحركة الحزبية العربية.
ومن جانب آخر تاهت بعض الحركات أو الأحزاب انبهاراً بوصولها إلى السلطة أو بعضها، وتناست أنها ذات أهداف تحررية من هيمنة الخارج أولاً، وبدلاً من أن تعد نفسها وأعضاءها لمواجهة غير متكافئة مع الخطر الداهم من الخارج، وهي حتماً غير متكافئة، تحوَّلت أهدافها إلى الدفاع عن السلطة على حساب الانحناء أمام العواصف الخارجية. وفي هذا الجانب كان لا بُدَّ من التحذير إلى خطورته، لأن من يريد أن يحافظ على السلطة على حساب المواجهة مع الخارج سوف يكون خاسراً في المواجهتين معاً.
أما على صعيد الوصول إلى السلطة، كهدف وليس كوسيلة، فنرى أن انحراف البوصلة الثورية عند الأحزاب أو بعض أفرادها يتمثَّل أحياناً في العمل من أجل الوصول إلى موقع سلطوي هنا أو هناك –وهماً منهم أنه بوابة للتغيير- لن يكون مربحاً، فالأفراد مهما تميزوا بمواهب وقدرات فهم سوف يكونون أعجز من أن ينافسوا تحالف رأس المال والسلطة الرسمية القائمة.
أما على صعيد العلاقات الديموقراطية في داخل الأحزاب، خاصة أنها كلها من دعاتها، فلم تستطع أن تنتج أعضاء ديموقراطيين. ونحن نرى أن من أولى الشروط التي يوجبها تطبيق المبادئ الديموقراطية أن تنتج الأحزاب ثقافة ديموقراطية واضحة، وعلى أسسها تبني الحزبي الديموقراطي في أن تفسح له المجال في التعبير عن رأيه في شتى نشاطاتها وعلاقاتها التنظيمية الداخلية. وما نلمسه –في كثير من الأحيان- في داخل الحزب الواحد أن لكل حزبي أو شريحة حزبية مفهومها الخاص للديموقراطية وأسلوبها الخاص وتطبيقاتها الخاصة. وبالتالي يكون لكل حزب مفاهيمه الديموقراطية المتنوعة المشارب والمفاهيم والتطبيقات، وهذا يندرج في دائرة فوضى الحرية المنفلتة. وغالباً ما يكون لمثل تلك الفوضى انعكاسات لا ديموقراطية تصيب بنتائجها السلبية، فيما تصيب، عدداً واسعاً من كوادرها باليأس والقنوط تدفع بهم إلى التنحي والإحباط فالخروج إلى العمل الفردي، هذا إذا بقي لدى أحدهم همة للجهد والعمل.
ولكي لا نضع كل الوزر في »ظهر القيادات«، لا بد من الإشارة، هنا، إلى أن كثيراً ممن أصابهم اليأس من العمل، أو أنهم فقدوا الدافع الذاتي كحافز أساسي للنضال، أو لم يتسنَّ لهم الوصول إلى مواقع حزبية متقدمة، يندفعون –غالباً- إلى تبرير أزماتهم الذاتية بالاتهام الجاهز هو فقدان الديموقراطية من العلاقات الحزبية الداخلية. ومثل تلك الظواهر نشاهدها اليوم هنا أو هناك، في هذا الحزب أو ذاك، على هذه الساحة أو تلك.
وإذا أعطينا عدداً من الأمثلة حول بعض مظاهر التجديد، وبعض مظاهر القصور، عند الحركة الحزبية العربية، فليس ما نقوم إلاَّ إشارات لا يُعتمد عليها في تشخيِص كل الأزمة داخل الأحزاب العربية، بل هي نماذج تشكِّل مدخلاً –كما نحسب- لتشخيص الأزمة بشكل أوسع وأكثر شمولاً.
ثانياً: في عامل الإعاقة الذاتي على صعيد العلاقات بين شتى الحركات الحزبية:
في الوقت الذي تتعمَّق فيه أواصر التحالف بين قوى النظام الفكري والسياسي والاقتصادي، تحالف الداخل العربي مع قوى الاستعمار الغربي (وعلى رأسه الأميركي – الصهيوني). ومن خلال متابعة عدد من جوانب العلاقات بين تيارات الحركة الحزبية العربية، نرى التوتر في العلاقات بينها هو السائد، وبهذا واجهت الحركة الحزبية العربية تحالف الآخرين المتماسك بقوى مفتتة ومتناحرة فيما بينها، وفي هذا النوع من المواجهة ما تتحمَّل كل الأحزاب العربية وقواها الوطنية كل المسؤولية.
لن نتطرَّق، هنا، إلى الأسباب والخلفيات، بل لا بُدَّ من أن نؤشر إلى أن التيارات جميعها تتحمل مسؤولية إغراق نفسها في التعصب الإيديولوجي. و لا بُدَّ للخروج من أزمة الثقة التاريخية بين شتى التيارات إلاَّ بالخروج أولاً من قمقم التعصب على قاعدة أنه لا يمكن لحزب واحد أن يواجه عبء المسؤولية الكبير والضخم بمفرده، بل لا بُدَّ من أن تتضافر جهود كل القوى على قاعدة التنوع في داخل المسلَّمة » الوحدوية«.
إن كل حزب بات، وبقي مصراً، على تعصبيته لن يحصد إلاَّ الوهم. ومن بات مصراً على أنه يستطيع أن يبني المجتمع بدون تنوعات فكرية وسياسية فلن يحصد إلاَّ الوهم أيضاً، لأن التقدم والتجديد لن يتم إلاَّ من خلال وجود تلك التنوعات في الأفكار والتوجهات، لكن كل ذلك لن يتم إلاَّ على قاعدة الوحدوية في بناء المجتمع.
فكيف تتم الوحدوية في ظل التنوع؟
إذا كنا لن نتكلم بتفاصيل ما نراه حول هذا الجانب، فإننا لا بُدَّ من أن نرسم الخطوط العامة لبعض جوانبه:
نحن لا نحسب أن الاتجاهات القطرية، في حالة الوضع الذي نعيش فيه كعرب، هي من التنوعات الصحية. ونحن لا نحسب أن التنوعات المتعصبة على صعيد المذهب أو الدين هو من التنوعات الصحية.
فالاتجاهات القطرية هي –بالمنطق والقياس والواقعية- النقيض للوحدوية القومية.
والتنوع في الاتجاهات السياسية المذهبية الدينية، أو التنوع في الاتجاهات السياسية الدينية، التي تدعو إلى بناء كيانات مذهبية دينية أو كيانات دينية، ولكل منها مذاهب سياسية وعقائدية لا تعترف بالآخر، فهي –بمثل تنوعاتها تلك- لن تكون عاملاً جاذباً للوحدوية، بل سوف تكون –بلا شك- عاملاً منفراً للوحدوية الوطنية.
أما التنوعات التي نرى أنها صحية وسليمة وتصب في الوحدوية هي تلك التي تعمل من أجل الاعتراف بالآخر، وتكون من المبادئ الجامعة التي تستجيب لمصالح الجميع.
ولأن المقال لا يتسع إلى أكثر من فتح نافذة للحوار حول العمل من أجل تجاوز أزمة الأحزاب العربية، نترك الأمر لما يمكن أن تجمع هذه الدعوة من أصوات وأقلام وكتابات تتجه نحو المشاركة في تشخيص الأزمة ووضع حلول تتناسب مع تفصيلات التشخيص، وهذه مهمة طويلة وصعبة ولكن على الرغم من ذلك فهي الخطوة الأولى والضرورية كما نراها بمنظارنا الشخصي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق