«نيرون» أميركا يحرق العالم ويتفرَّج عليه
11/ 3/ 2005
يروي تاريخ «نيرون»، إمبراطور روما في أواسط القرن الميلادي الأول، أنه كان يشارك بتمثيل المسرحيات، والعزف على الناي والأرغن. وكان النظارة من الرومان يغتبطون إذ يشاهدون إمبراطورهم «يُعنى بتسليتهم، ويركع على المسرح أمامهم، ويطلب إليهم أن يصفقوا له حسب مألوف عادتهم». ومن كثرة إنفاقه أفقر خزانة الدولة. وأحاط نفسه بطائفة من قرناء السوء ذوي الغلظة والفظاظة.
لم يجد «نيرون» في روما إلاَّ العيوب. ولأنه كان ينظر إلى نفسه على أنه إله وفنان، أو هكذا كان شيوخ روما يرونه ويخاطبونه، كان يحلم بإعادة بناء روما من جديد ليسميها «مدينة نيرون». ويُقال أن إحراق روما لم يكن بعيداً عن فعل يديْ «نيرون». ولكي يدفع التهمة عن نفسه ألصقها بطائفة من المسيحيين من الذين يحقد الشعب عليها. فعثر على جماعة من الفجَّار والسفلة، وأغراهم على أن يعترفوا بأن تلك الطائفة هي التي أشعلت النار في المدينة. وأُدين أفرادها بتهمة أنهم يكرهون الجنس البشري كله. واستخدم «نيرون» في إعدامهم أفانين من القسوة المتناهية، ومنها أنه تركهم للكلاب لكي تلتهمهم، وصلب البعض، ودفن البعض أحياء، ودهن أجسام البعض الآخر بالمواد الملتهبة وأُشعلت فيها النيران.
ونظَّم «نيرون» مدينة روما –بعد إحراقها-على الشكل الذي كان يحلم به. وازداد إسرافه وكثر ظلمه وكثرت أخطاؤه، فثار الشعب عليه. فهرب خائفاً. وأمام ما سمع من قسوة الوسائل التي ستُتَّبع في تنفيذ الحكم بإعدامه الذي أصدره «مجلس شيوخ روما» فضَّل الانتحار. فطعن نفسه بخنجر في «حلقه»، ولكن يده اضطربت، فساعده أحد معاتيقه على أن يدفع «سن الخنجر إلى نهايته». وهكذا مات «نيرون»، الإله – الفنان، غير متَّعظ بمن سبقه من أباطرة العالم.
لم يكن «نيرون» روما هو الأول من أمثاله في التاريخ، ولن يكون آخرهم. فنيرون موجود في كل العصور، طالما أن لدى النخب في المجتمعات طموحاً ببناء إمبراطوريات تسخِّر شعوبها، والشعوب الأخرى، من أجل مصالح بذخها وملذاتها. كما أنه ليست نهاية أي «نيرون» آخر بأفضل من نهاية «نيرون» روما.
وعلى خطى «نيرون روما» يسير «نيرون واشنطن» مع فارق وحيد. فإذا كان «نيرون الأول» قد أحرق روما، كعاصمة للإمبراطورية الرومانية ليعيد بناءها على الأنموذج الذي يُرضي ساديته، فإن «نيرون الثاني»، أحرق «ناطحات السحاب في نيويورك»، كما برهن الكاتب الفرنسي «تييري دي ميسان» كفاتحة تبرر له «إحراق العالم» ليبنيه على الأنموذج الذي يُرضي سادية أصحاب أكبر إمبراطورية صناعية في العالم. فتتكاثر ملياراتهم، ويزداد ترفهم وبذخهم، ويشبعون –حتى التخمة- من دعاراتهم وفسقهم فتزداد شهيتهم لامتصاص دماء الشعوب حتى آخر قطرة.
وهكذا تبتدئ حكايات الإمبراطوريات الكبرى في التاريخ، تلك الإمبراطوريات التي تقوم على إيديولوجيات الطبقات الاقتصادية، فتستعبد الشعوب، وتلقى مباركتها، وتجد من يركع أمام أباطرتها تستجدي منه النعمة، وتسبِّح بحمده، وتشكره لأنه إله يستحق العبادة. فعصاه قادرة على التأديب، ولأن كلمة منه إما أن تحمل الحياة أو تحمل الموت. وسلطانه لا يُقهر، وهو القاهر الوحيد الجبار، من يستطيع أن يأمر غيره، ومن يستطع أن يرهب الآخرين غيره؟
يا «نيرون أميركا»، يا ملهم العالم وآمره. يا آمر ال«حلف الأطلسي». ويا قاهر «حلف وارسو». أيها الجبار العنيد، من مثلك يستطيع أن يوزِّع هبات «الديموقراطية» غيرك؟ من يستطيع أن يعزف على الأرغن أمام الجماهير الشاخصة، بآذانها، إليه؟ من يستطيع غيرك، إذا عزف على أرغن الدولار، على أن يُضحك عبيده؟
لا تتخلى يا «نيرون واشنطن» عن النظر إلى عبيدك، وعتقائك، بعين الرأفة. من غيرك يستطيع أن يوزِّع البسمات يميناً وشمالاً لكي يُطمئن قلوب الخائفين الخاشعين من رهبته؟ من يستطيع أن يوزِّع الضحكات فتصل صداها إلى أوروبا تارة وإلى الشرق الأقصى تارة أخرى؟ من يتجرأ على أن يقول أن بسمتك ليست إلاَّ عطفاً ورأفة بعبيده؟ في يدك الاستعباد، وبيدك العتق. أنت من تسمح للعالم أن يكون حراً، وبدون نشرك للديموقراطية عبثاً يكون جهد الآخرين. برضاك يمر «الجمل الديموقراطي» من «سُمِّ الإبرة»، وما لم تضع إمضاءك الكريم عليه لا يمكن أن يكون ديموقراطياً. فسبحانك يا «إله الديموقراطية» ما أعظم شأنك.
يا «نيرون واشنطن»، أيها الشاغل على مسارح أميركا وأوروبا. لقد استعرت «أرغن نيرون روما»، ونايه. رحت تنتقل من مسارح نيويورك إلى مسارح أوروبا، لكي تثلج قلوب «النظارة» في أميركا وأوروبا وهم يرون «إمبراطورهم يُعنى بتسليتهم»، فيأسرهم بابتساماته التي يوزعها يميناً ويساراً، لينتزع منهم التصفيق الحاد. أليس هذا ما كان يفعله «نيرون روما» متنقلاً –بعد إحراق مدينته-بين اليونان وبينها؟
لم يفكر «نيرون روما» أن أحداً من مواطنيه، وعلى رأسهم مجلس الشيوخ في روما، سيتجرأ على إمبراطوره «الإله الفنان». فراح يعيث فساداً وقمعاً. وكانت الأنظار ترنو إلى «نيرون الإله» لتحظى بنظرة إلى وحهه. وكانت الألسن تتسابق في الثناء عليه بالحمد والشكر طالبة الغفران من جبروته. وتتسمَّر «الدمى» في مقاعدها حتى ينتهي إمبراطورهم من «معزوفته» حول الديموقراطية، فيسبِّحون بإنسانيته، ويشكرونه على عطاءاته.
أنت غارق –اليوم- يا «نيرون واشنطن» في أحلام «نيرون روما». بين يديك الخصيان والعبيد، القريبين منك والبعيدين. ومن يلومك على تأديب هذا، أو تعذيب ذاك؟ تأمر هذا بأن يتجرَّع السُم، وذاك بأن يدهن جلده بالنفط لتشتعل النار فيه. وماذا يهم جلالتك إذا كان يملك هذا القدر من العبيد والجبناء من كل صنف ولون. فكل هؤلاء لا يفكرون بأن «سبارتاكوس» ينمو ويحضِّر نفسه للثأر لهم. لكنهم أيها «الإله - الفنان» لا يستأهلون أن يصبحوا أحراراً، لأنهم يرفضون حتى التلميح إلى اسم «سبارتاكوس» فهم قد ألفوا العبودية، واستأنسوا بها.
أيها «الإله - الفنان»، يا «نيرون واشنطن»، لقد عاد «صلاح الدين»، و«المثنَّى»، و«القعقاع»، و«المعتصم». وهذا «خالد»، و«علي» رافعون سيوفهم على أرض العراق. وذاك صدام حسين، الثائر في أسره، والثائر –برفاقه- على كل شبر من أرض العراق.
وهذا يوسف العظمة لمنتظر على تلال ميسلون.
وهذا عبد الناصر يرصد حركتك في «بور سعيد».
وشهداء المقاومة الفلسطينية –من كل الفصائل- ينتظرون على كل أرض عربية ارتوت من دمائهم. والشيخ أحمد ياسين يرقب حركتك على تلال أريحا وغزة، وحيفا ويافا.
ولا تنسى أن تسأل شارون «نيرون الصهاينة» عن كل شبر في لبنان روته دماء الشهداء.
يا «نيرون واشنطن» إننا نرى في الأفق «سبارتاكوس العربي» يحضِّر لولادة «سبارتاكوس أميركا». وهو قد بشَّر بولادة «سبارتاكوس الأوروبي». فابشر بقرب النهاية البائسة. ولعلَّك تجد بعض عبيدك يأويك في كوخه، ولعلَّه يساعدك على أن يدفع «سن الخنجر إلى نهايته» في حلقك عندما ترتجف يدك عن القيام بمهمتها الحتمية في الثأر لنا فيك.
وإذا كانت ديموقراطية أصحابك الذين يملكون أكبر الإمبراطوريات الصناعية في العالم، والذين يملكون «الإيديولوجيا النيرونية» في إحراق «العالم» من أجل مصالحهم، فإن محاكم «جرائم الحرب» لن تعفو عنك، كما أنها لن تعفو عنهم.
فاحرق يا «نيرون» ما شئت، فأنت لا بدَّ من أنك واقع في شر أعمالك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق