-->
-->
الحلقات المفقودة في المواجهة الدائرة
في لبنان وفلسطين والعراق
19/ 7/ 2006
إن لحظة المواجهة الشاملة في هذه المرحلة قد نقلت الأمة العربية، وحركة الثورة العربية، بطليعتها المقاومة الشعبية المسلَّحة، إلى مصاف الجبهة غير المعلنة، بدءًا من الساحة الفلسطينية، على الرغم من وجودها تحت رقابة العدو الصهيوني وقمعه المباشر، مروراً بالساحة اللبنانية، على الرغم من أنها ممنوعة من أن تتحول إلى إجماع وطني، انتهاء بأهم مفاصلها في العراق كونها تطول رأس الأفعى بشكل مباشر.
في هذه اللحظة التي تشتعل فيها ثلاث جبهات معاً، وفي وقت واحد، فيها ما يدعو إلى الاعتزاز والفخر، يُعيد فيها المقاومون الأبطال صياغة جديدة لآليات المقاومة لم يعهدها تاريخ المواجهة مع المشروع المعادي الأم الماثل بالمشروع الاستعماري – الصهيوني.
ونحن نتابع ما يجري على الساحات الثلاث، على الرغم من المآسي والتدمير التي يُلحقها العدوان الأميركي والصهيوني في أرواح الناس وكراماتهم وممتلكاتهم، نرى أن هذه اللحظة تعبِّر تمام التعبير عن إمكانيات الأمة العربية التي استحضرت عوامل القوة الكامنة فيها. تلك العوامل التي لو استثمرتها الأنظمة الرسمية، وهي لن تفعل، لوضعنا الأمة على سكة التاريخ المعاصر بدلاً من وضعها في موقع الخادم، غير الشريف، لأباطرة الأمركة والصهينة.
فإذا كان الحد الأدنى من التنسيق مفقوداً بين ثلاثية المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق إلاَّ أنه أعطى زخماً كبيراً لحالة المواجهة الراهنة، فهي ستكون أكثر تأثيراً، وأشد إيلاماً، إذا كان التنسيق حاصلاً بينها الآن أم في المستقبل.
الحلقة المفقودة بين المقاومين
إن الحلقة الأولى المفقودة هي إذاً حلقة الاعتراف بأن على المقاومين أن يشكلوا جبهة واحدة تتبادل الأدوار وتوزعها على قاعدة أن احتلال العراق وفلسطين، والعدوان على لبنان، يتم من قبل تحالف واحد يجمع الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني، حيثما ينجح يشكل ضعفاً لجبهتيْ المقاومة في الساحات الأخرى، وحيثما يفشل يشكِّل عامل قوة للمقاومة في تلك الساحات.
لقد جاء توقيت تفجير ثلاث جبهات في المواجهة، سواءٌ أفرضته المتغيرات أم جاء صدفة تاريخية، فأعطى الأنموذج الواضح الأمثل في أن المقاومة القومية الشاملة هي الحل المطلوب لإلحاق التراجع والهزيمة في المشروع الأميركي – الصهيوني.
إن للحلقة المفقودة الأولى أسباب، وقد يكون لها نتائج لا ترتقي إلى مستوى الآمال والطموحات. ومن أجل ذلك، لا يمكننا تقدير الموقف الاستراتيجي إلاَّ بتبيان تلك الأسباب كخطوة أولى على طريق تصحيح المسار من أجل ردم حفر الحلقات المفقودة الأخرى ليكتمل، ولو ببطء وطول صبر، العَقد الاستراتيجي المطلوب بين كل تيارات المقاومة على أية أرض عربية.
كيف نحوِّل الدعم التكتيكي لصالح الهدف الاستراتيجي
من الثغرات الأولى في مظاهر العمل المقاوم الآن في فلسطين ولبنان هو اعتماده على دعم خارجي يتأكَّد يوماً عن يوم أنه دعم تكتيكي وليس دعماً استراتيجياً. وإذا اعتمدنا أسلوب التصريح، وليس التلميح، لقلنا إن الدعم الإيراني لتيارات المقاومة فيهما يُعد الدعم الأساسي إذا لم يكن الوحيد. لكن هذا الدعم ليس مرفوضاً بل هو مطلوب، لأنه في مواجهة إمكانيات التحالف المعادي الهائلة لا يمكن إلاَّ أن تكون إمكانيات المواجهة الشعبية متوفرة في حدها الأدنى. وقد أثبتت التجربة أن «حزب الله» في لبنان لم يكن ليحصِّل على نتائج التحرير لولا توفُّر الدعم الإيراني الواسع له، أو من دون الدعم السوري، أو من دون وضع إمكانيات الدولة اللبنانية بتصرفه.
وفي جميع الأحوال نرى أنه على الرغم مما نحسبه دعماً تكتيكياً إيرانياً لـ«حزب الله»، بشكل أساسي، ولتيارات المقاومة الفلسطينية الأخرى بشكل عام، لا يمكننا أن نقلِّل من شأن إيجابيات هذا الدعم على القضيتين اللبنانية والفلسطينية. ولكن لكي لا تكون تلك الخطوة تكتيكية أو منقوصة، نرى ما يلي:
ما يجمعنا مع حزب الله أكثر مما يفرِّقنا
-إن تكتيكية الدعم الإيراني لا تدعنا نشكك بما وفَّره حزب الله من إيجابيات تمثَّل في الإسهام بشكل أساسي بتحرير الأراضي اللبنانية المحتلة. بل تجعلنا نفصل بين تكتيكية الدعم الإيراني له وبين النتائج الاستراتيجية التي وفَّرها للبنان خاصة والأمة العربية عامة. ولهذا ندعوه إلى الأخذ بعين الاعتبار لكي يكون حذراً، إذا استطاع، من استثمار دوره لاحقاً في مشاريع إيرانية قد تصب في غير مصلحة الأمة العربية.
-إن ما يجمعنا مع «حزب الله» في لبنان جوامع مشتركة أساسية طالما استمرَّ بدوره الاستراتيجي، ليس في تحرير الأرض اللبنانية فحسب، بل في استمراره بمقاومة العدو الصهيوني أيضاً إلى أن تصبح فلسطين حرة عربية من النهر إلى البحر.
-وانسياباً منطقياً مع اعتبار العدو الصهيوني غاصباً استراتيجياً مدعوماً من الأمبريالية الأميركية لا يمكن فصل المواجهة معه عن المواجهة مع العدوان الأميركي في العراق. فنحن نعتبر أن تحالف الصهيونية والاستعمار كأفعى يمتد رأسها من واشنطن ليصل ذنبها إلى أرض فلسطين المحتلة دعماً وحماية واحتضاناً، ومن دون كل ذلك لا يملك ذَنَبُ الأفعى عوامل الاستمرار ومقوِّمات وجوده بعد قطع رأسها. أما الآن فقد احتل رأس الأفعى الأرض العراقية بشكل مباشر، وتحت حمايته امتدَّ التأثير الصهيوني إلى كل مفاصل التأثير في العراق المحتل. وقد تأكَّد وجوده الرسمي في مدينة «أربيل»، إضافة إلى ما تُسمى «المنطقة الخضراء» في بغداد.
ما ليس متوفراً في نوايا إيران يجب أن يكون على جدول أعمال حزب الله في المستقبل
نتيجة لذلك لا بدَّ من أن نضع «حزب الله» أمام مسؤولياته. إذ ليس المطلوب أن ينقل مقاومته إلى العراق، لأن المقاومة الوطنية العراقية كفيلة بكل ذلك، ولا تنقصها الإمكانيات على شتى الصُعًد، بل إن المسؤوليات الأخلاقية المترتبة عليه هو أن يعترف بأن المقاومة العراقية تمثِّل المفصل الأساس في سحق رأس الأفعى، الذي إن سُحق، وهو سيُسحق، سوف يوفِّر على المقاومة في لبنان وفلسطين الكثير من الجهد والتضحيات، كما أنه سيقصِّر مسافات الوصول إلى بوابات النصر والتحرير في كل من القطرين معاً.
أما الاحتمال الأسوأ، أي في الحالة التي يبقى فيه رأس الأفعى في العراق من دون سحق يُفقده حتى سُبُلَ المناورة، فستتعرَّض كل الانتصارات على الساحات الأخرى، وخاصة في لبنان وفلسطين، إلى التآكل والانهيار بفعل إعادة اجتياحهما من جديد. فالاستعمار الأميركي إذا انتعش من جديد في العراق، فسينتعش في العالم كله، وستظهر أبرز معالمه في الوطن العربي. ومعه سينتعش المشروع الصهيوني ليخوض معارك حاسمة، على أن يكون أكثرها حسماً في لبنان وفلسطين كونهما القطرين الصامدين المقاومين.
إننا، ومن خلال تلك الحقيقة التي لا يختلف حولها عاقليْن، مؤكدين أننا في استشرافنا لمستقبل الصراع لن نشكك بأهمية الدور الذي يقوم به حزب الله في هذه المرحلة، والمرحلة التي سبقتها، بل نضعهما في الموقع الذي نحترم، يحق لنا أن ندعو إلى توظيف تلك الإنجازات لمصلحة الصراع الاستراتيجي بين أمتنا والتحالف الاستعماري الصهيوني.
إن الكسب الذي يحققه «حزب الله» على الجبهة اللبنانية يصب في المصلحة القومية من دون أدنى شك، وحتى لا يتم توظيفه لمصالح الآخرين من دول الجوار الإقليمي بالتفاف عليه من خلال الصراع الدائر الآن بين النظام الإيراني والإدارة الأميركية فيعمل على إيقاف الإنجازات التي تتحقق وتجميدها عندما تصل المساومات الجارية الآن بينهما إلى نهاية سعيدة للنظام الإيراني، نضع أمام أعين الجميع أن هناك حلقات أخرى مفقودة في خطة المواجهة ضد المشروع المعادي الأم.
الحلقات المفقودة في وعي أهداف النظام الإيراني وفهمها
ليس من قبيل التكرار أن نؤشر إلى التناقض بين الخطاب الإيراني المُعلَن وبين حقيقة ممارساته.
ففي خطابه المُعلن يعتبر أن الولايات المتحدة الأميركية هي بمثابة «الشيطان الأكبر»، وأن «إسرائيل غدة سرطانية» يجب اجتثاثها من المنطقة. ونحن نرى أن هذا الخطاب يحدد الثوابت التي ننطلق منها تماماً، ونؤيدها ونعتبرها خطنا الاستراتيجي، وليس هذا فحسب، بل إننا نضع كتفنا إلى جانب كتفه للنضال من أجلها أيضاً.
وإذا كانت الاستراتيجية ليست خطاباً فقط، بل تكتسب مصداقيتها في ميدان التطبيق. فنحن متفقان حول ثوابت الاستراتيجية، ولكن لا بدَّ من تساؤلات مشروعة حول وسائل التطبيق التي يمارسها النظام الإيراني، سواءٌ أكان بالواسطة أم كان بشكل مباشر.
أولاً: في لبنان: كان للمساعدات الإيرانية لـ«حزب الله» في لبنان الأثر الأكبر في تحرير الأراضي المحتلة في الجنوب, ونحن خلافاً لكل الآراء لا نرى في قبول «حزب الله»، أو غيره، لمساعدات من إيران أو غيرها لتوظيفها في تحرير أرض وطنية محتلة ما يستوجب الملامة أو «القدح والذم». وليس هذا فحسب بل إن تقديم مساعدات مماثلة هو واجب مطلوب تقديمه على كل من وقَّع على الشرائع الأممية التي تعتبر أن مقاومة الاحتلال هو واجب وطني وإنساني مشروع. ومن أجل ذلك يقتضي الواجب منا أن نوجه الشكر للنظام الإيراني لأنه أقدم على ما أقدم عليه عندما قدَّم لحركة تحررية مساعدات توفِّر لها الانخراط في واجب تحرير أرضها الوطنية. وهذا يستدعي رفع التحية لـ«حزب الله» لأنه استطاع الحصول على تلك المساعدات ووظَّفها توظيفاً سليماً من أجل الهدف الذي صُرفت له. من كل ذلك نستنتج أن حلقات المعادلة كانت متكاملة في لبنان، بين المساعدات الإيرانية وأهداف تقديمها إلى «حزب الله». وهو ما يجعلنا نقتنع بأن الخطاب الإيراني المُعْلَن مطابق تماماً لوسائل تطبيقه.
الحلقة المفقودة الأولى لفهم حقيقة الأهداف الإيرانية
ثانياً: في العراق: لقد احتلَّ رأس الأفعى «الشيطان الأكبر» العراق، وأصبح جاراً لإيران. وتحت حمايته تسلل ذَنَبُها «الغدة السرطانية» إليه. ففي العراق الآن موجود «الشيطان الأكبر» و«الغدة السرطانية» معاً. ومنه يمكننا أن نقارب بين الخطاب والتطبيق العملي.
فهل ما شهدنا حسن تطبيقه في لبنان هو الأنموذج الذي يسلكه النظام الإيراني في العراق؟
أما بالنسبة لـ«الشيطان الأكبر» فلم نر ما يقنعنا بأن العلاقة بين الخطاب الإيراني والتطبيق متكاملان أو منطقيان. وإنما الواقع أن هناك تنسيقاً متكاملاً بين النظام الإيراني و«الشيطان الأكبر». وقد مهَّد هذا التنسيق للعدوان على العراق، واستكمله العدوَّان اللدودان بالتنسيق أثناء احتلاله. فهل نستعيد حكاية جبران خليل جبران الرمزية التي أقنعنا فيها بإمكانية عقد تحالف بين «الخوري والشيطان»؟ لنقتنع بإمكانية التحالف بين المنطق واللامنطق؟
هذه هي الحلقة المفقودة الأولى بين ما يجري في لبنان وما يجري في العراق.
الحلقة المفقودة الثانية لفهم حقيقة الأهداف الإيرانية
أما بالنسبة لـ«الغدة السرطانية» فهي انتقلت إلى العراق لتصبح «غدَّتين سرطانيتين» واحدة اغتصبت جسد فلسطين منذ العام 1948، والثانية تغتصب جسد العراق منذ العام 2003. والمفارقة في الأمر هو أن النظام الإيراني قدَّم مساعدات مشكورة لـ«حزب الله» في لبنان لاقتلاع «الغدة السرطانية» من لبنان. بينما «الغدة الأخرى» في العراق تعيش في أمان واطمئنان من دون أدنى إزعاج إيراني. وليس هذا فحسب بل وقائع الأمور تبرهن على أن التسميات التي أطلقها النظام الإيراني على «حلفائه» العراقيين كمثل «فيلق بدر»، و«حزب الدعوة الإسلامية» يقتاتون من دم الضحايا العراقيين جنباً إلى جنب جراثيم «الغدة السرطانية» التي تنتشر في مفاصل حياة العراقيين.
تلك هي الحلقة المفقودة الثانية بين ما يجري في لبنان وما يجري في العراق.
تلك الحلقات المفقودة وغيرها مما سلَّط عليه الأضواء الكثير من الكُتَّاب والباحثين نضعها برسم «حزب الله»، ونحن لن نطالبه بأكثر مما يستطيع أن يتحمَّله في هذا الجانب، إذ يكفيه شرف أن مناضليه ومجاهديه يقفون في خندق مواجهة «الغدة السرطانية» بشرف وإباء. إلاَّ أن حقائق المستقبل ستفرض عليه أن يقف أمام نفسه ليساعدنا على فهم ما لا نستطيع فهمه من سلوكات النظام الإيراني.
ردم النظام الإيراني للحلقات المفقودة هي الخطوة الأولى على الطريق الصحيح
ومن منطلق حسن النية، وحسن النية مشروع دائماً بين أصحاب قضية «جوارية» واحدة، نسأل سواءٌ من يقف على رأس السلطة في إيران أم الشعوب الإيرانية، إذا كان ما تمارسونه من دهاء في سياسة ميكيافيلية تستند إلى مقولة «مصائب قوم عند قوم فوائد» من أجل تحصيل أكبر مصلحة ممكنة لإيران، نرى نحن بدورنا أن العكس هو الصحيح، «فوائد الجار عند الجار فوائد» لأن المصائب لن تبقى مصائب، والفوائد التي تُجنى من مصائب الآخرين ستتبخَّر أيضاً.
فهل يسلك النظام الإيراني مسار المنطق في العراق، التوليف بين الخطاب المعلن والسلوك الشاذ، فيوظِّف مساعداته لـ«حلفائه» من أجل تحرير العراق من الاحتلال الأميركي، وليس من أجل إنتاج احتلال جديد؟
ودعاؤنا الأخير، بمعزل عن إضاءتنا على الحلقات المفقودة في الصراع الدائر على ساحتنا القومية على قاعدة الكفاح الشعبي المسلَّح، أن تتوحَّد جهود المناضلين والمجاهدين على سابق تصور وتصميم في مواجهة «الشيطان الأكبر»، و«الغدة السرطانية» خير وأفضل من حالات الصدفة. وهي صدفة مهمة اكتشفنا من خلالها أن وحدة جهود المقاومين لهي أجدر وأبقى وأشد تأثيراً فيما لو تجاوزت خصوصيات الحالات وقطريتها، والانتقال بها إلى مستوى الوحدة النضالية والجهادية القومية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق