المقاومة الوطنية في فلسطين والعراق:
وحدة الاستراتيجية ووحدة النتائج
تسير المقاومة في كل من فلسطين والعراق على خط استراتيجي واحد من أجل هدف واحد ومواجهة عدو واحد. فكل منهما يواجه عدواً واحداً تحددت معالمه منذ اتفاقية سايكس بيكو. حينذاك كانت مهمة الاستعمار الأكثر إلحاحاً في المنطقة العربية هو زرع حاجز بشري في فلسطين بين شطريْ الوطن العربي الإفريقي والآسيوي، على أن يكون استيطانياً، ومدعوماً عسكرياً وأمنياً وسياسياً من منظومة الدول الاستعمارية. فيحمي حالة التقسيم التي حددتها اتفاقية سايكس بيكو، فيحول دون وحدة أقطار الأمة العربية. لهذا السبب شكَّلت القضية الفلسطينية قضية العرب المركزية. وتميَّزت ثقافة الأجيال السابقة بعمق رؤيتها لتلك القضية. فأصبحت سدى الثقافة القومية ولحمتها فلسطينية النسيج واللون والهوى. وكانت مقاييس التقدمية والرجعية تُكالان على مقاييس القرب من القضية الفلسطينية أو البعد عنها. فبها تُكال صدقية الموقف من الاستعمار وصدقية الموقف من القضية القومية والوحدة القومية.
ولأن بدء المؤامرة مرَّ عبر اغتصاب فلسطين، ولا يمكنها أن تكتمل إلاَّ باجتثاث كل الحركات التي تنادي بتحريرها، استمرت فصولها بالترهيب والترغيب، فنالت النجاح في معظم تراكيب النظام العربي الرسمي، لكنها عجزت عن النيل من مواقف الحركات والأحزاب الثورية، لذا ظلت المخرز الذي يؤذي المخطط الإمبريالي الصهيوني، ويحول دون إتمامه واكتماله.
كان الأشد تأثيراً بين تلك الحركات والأحزاب تلك التي تدعو إلى الاستعاضة عن الحروب النظامية النظامية بأسلوب الكفاح الشعبي المسلح. ولأن المقاومة الفلسطينية كانت في طليعة تلك الحركات توجَّهت كل الجهود من أجل إنهائها عبر سياق تآمري طويل ومرير من كل الساحات التي نمت فيها وشقَّت طريقها النضالي ضد العدو الصهيوني. كما عملت المؤامرة على اجتثاث كل الحركات والأحزاب التي تساندها أو تشاركها طريق الكفاح الشعبي المسلَّح. فطالت المؤامرة القطر العراقي من ضمن مهماتها من أجل عاملين لعلاقتهما بهذا الجانب، وهما: رفضه لكل الحلول التسووية أولاً، ودعمه المطلق لكل الحركات التي تمارس الكفاح الشعبي المسلح ثانياً.
بالأمس أعرب جورج بوش عن أن أهم أسباب احتلال العراق هو أنه كان يقدم المساعدة لعائلات الاستشهاديين الذين يصنفهم المذكور إرهابيين. فمن أجل حماية الأمن الأميركي –طبعاً المرتبط بالأمن الصهيوني كاستراتيجية أميركية معلنة- قال بوش: كان يجب القضاء على النظام في العراق ليصبح العالم أكثر أمناً.
في خطاب لرئيس أكبر دولة في العالم وأكثرها قوة لا يستأثر باهتمامه إلاَّ الفرد الذي يفجِّر نفسه دفاعاً عن وطنه، والحركة المنظمة التي تدعمه،لنعلم كم هو أسلوب المقاومة الشعبية مؤثر ومخيف. ولهذا السبب وحده نركِّز على مسألة المقاومة.
بداية لا بُدَّ من أن ندعو إلى تجديد آليات النقد في الخطاب السياسي العربي لكي يرفق نقد الأنظمة، وهو الجزء السلبي من الخطاب النقدي، مع الجزء الإيجابي منه وهو الدعوة والتبشير بصلاحية حرب التحرير الشعبية كأسلوب لمواجهة الاستعمار بشتى أشكاله وألوانه.
تشكل حرب التحرير الشعبية البديل للحروب النظامية وهي التي يستحيل على العرب تأمين موجباتها. ويأتي على رأس استحالة تأمينها هو أن الحصول عليها خاضع لقرار دول الاستعمار لأنها الوحيدة التي تنتجها من جانب، وتحول دون أن ينتجها العرب ثانياً. ولأن الهدف من امتلاكها هو محاربة الاستعمار فمن الغباء أن يمكننا من الحصول عليها أو يسمح لنا بإنتاجها.
استساغ الاستعمار واقع غياب التوازن بالقوى فراح يعربد في السماء والبر والبحر، ووجد أن أحلامه لن تقف دونها حدود. خاصة وأن الأنظمة العربية الرسمية استسلمت وانبطحت لمنطق اللاتوازن في القوى وراحت تدعو إلى الواقعية في نسج علاقة مع الاستعمار تسلِّم فيها سيادتها وثرواتها له، بحيث يدفع أولياء الأمور فيها من ثروة أوطانهم ما يحدده الاستعمار وهم صاغرون.
أصبحت حرب التحرير الشعبية القنبلة النووية للشعوب التي لا تستطيع أن تمنع الجيوش الاستعمارية من احتلال أراضيها. وفي تجربة الأمة المخزون الكبير حول هذا الشأن، وقد أثبت فعاليته وجدواه، وأعطى نتائج باهرة وواضحة، وفيها أثخن المقاومون العرب جسد الاستعمار والصهيونية بالجراح، وكبَّلوا آلته العسكرية، فأمَّنت كلمة الرفض، وحجر الفتى، والبندقية العادية، والعبوة الناسفة التي يزرعها أشباح، التوازن مع الآلة المعقَّدة وأبطلت مفاعيلها.
بمثل تلك النتائج لم يعد الردح بالأنظمة ودعوتها إلى تكديس السلاح النظامي ذو جدوى، بل الدعوة إلى تأهيل المواطن العادي وتعبئته إيديولوجياً بفكر المقاومة الشعبية، وتدريبه على أبسط وسائل القتال هو الأجدى، والأكثر فعالية من كل آليات النقد السابق. فهل لنا من رجاء أن يسود خطاب المقاومة، ويصبح الخطاب الأساس في آليات تيارات حركة التحرر العربية؟
إذا كانت بداية المؤامرة قد انطلقت من فلسطين فإن اكتمال نجاحها ينتهي في العراق، فتحوَّل العراق اليوم إلى قبلة لكل المراهنين على إسقاط المشروع الأميركي الصهيوني. ولهذا السبب كان الترابط وثيقاً بين المقاومتين. وإذا كانت المقاومة في فلسطين قد وصلت إلى حدود من الثبات يصعب وقفه، وتحوَّلت ثقافتها إلى ثابت في فكر الحركة العربية الثورية، فإننا نتساءل عن موقع المقاومة العراقية في رحلة النضال القومي الطويل ضد الاستعمار.
لأن المعلومات حول القضية العراقية، التي تناولتها شتى الوسائل الإعلامية والثقافية، كانت في غاية من السعة، التي تسمح لنا بوصفها بأنها كانت كالسيول التي تساقطت على ذاكرة المتابع، وبدلاً من توضيح الصورة الحقيقية أمامه، فهي قد ضلَّلته ووضعته أمام حيرة وارتباك. وبكثرة الأخبار تضاءل حجم التحليل الموضوعي أمام الشريحة الكبرى من الرأي العام، وبشكل خاص منه الرأي العام العربي والإسلامي.
لمثل هذا السبب كان اختياري عدداً من العناوين الكبرى التي سأتناول بعض جوانبها بالتحليل المستند إلى الوقائع والوثائق والمعلومات وإعادة ربطها من جديد لتقريب الصورة الحقيقية عن المقاومة العراقية على أساس العناوين التالية:
1-الأسباب الحقيقية لاحتلال العراق:
لقد ضلَّلت الأهداف المعلنة لاحتلال العراق الرأي العام العربي بشكل خاص، فانحازت –ويا للأسف- أكثر الحركات الحزبية والأوساط المثقفة العربية إلى جانب تصديق تلك الذرائع وغزل المواقف على منوالها. وغلَّفت شعاراتها بغطاء هشٍّ من الكره للديكتاتورية ومحبة الديموقراطية. فجاءت تلك الشعارات بغير محلها لأن فيها ما يغيِّب حقيقة الأهداف الأميركية، أو على الأقل يقلِّل من حجم جريمة الاحتلال في نظر المتابع الأمي أو صاحب الإيديولوجيا المتعصبة.
كان كشف حقيقة المعارضة العراقية دليلاً على حجم المبالغة في الاتهامات التي سيقت ضده. واستهلكت جهدنا من دون طائل مسألةٌ يغيب فيها الطرف الذي نريد أن نحاكمه فبعضه موجود في خندق المقاومة وبعضه الآخر في الأسر. فيأتي هدف محاكمته –الآن بينما الاحتلال ينوء بثقله على أرضنا- في موقع من يريد أن يريح الاحتلال. فلنصرف الجهد إلى طرد الاحتلال أولاً كما فعلت التيارات العراقية المعارضة الوطنية. تلك التيارات وجدت أن توزيع الجهد لن يخدم الديموقراطية ولن يضر بالاحتلال. ورفعت شعارات أساسية تستند إلى أنه لا ديموقراطية في الوقت الذي يمسك به الاحتلال بقرار الجميع.
إن أساسيات ثوابت الاحتلال تصبح أكثر وضوحاً إذا انكشف الغطاء عن الأطراف المتحالفة لتنفيذ مشروع الإدارة الأميركية الحالية. وتلك الأطراف هي:
-اليمين الأميركي المتطرف أي نخبة النخبة في الطبقة الرأسمالية الأميركية وهي التي تأسست إيديولوجيتها على العداء الطبقي والعداء الإيديولوجي ضد كل الشعوب. فتلك الإيديولوجيا تؤمن بمصلحة اللون الأبيض عموماً ونخبة النخبة فيه على وجه الخصوص.
-الصهيونية العالمية وهي الجامع المشترك بين كل الإدارات الأميركية.
-اليمين المسيحي المتطرف، أي المتصهين، وهو اليمين الذي ينتظر ظهور المسيح المخلَّص ليحسم الصراع بين الخير والشر في معركة وهمية تقع فصولها في هرمجدون كما تبشر بها التوراة.
-تحالف المافيات الاقتصادية العالمية التي تتبنى إيديولوجيا تحصيل الأرباح وتراكمها من خلال الحروب. لذا فهي تعمل من أجل التخطيط لها وتأمين مستلزماتها السياسية والعسكرية. وهي دائماً تكون الرابحة أياً تكن نتائج الحروب التي تخطط لها.
ليس في الأهداف المعلنة لتلك المنظومة الخبيثة ما يدل على أن العدوان على العراق، كمثل نشر الديموقراطية ومحاربة الإرهاب، هي أهداف حقيقية.
من خلال معرفة خطورة الأهداف التي حددتها أطراف التحالف المساهمة في احتلال العراق ما يدفعنا إلى دعوة من يرفعون شعارات غير شعار مقاومة الاحتلال أن يسهموا في طرد الاحتلال أولاً، ويبقى صراع التناقضات الداخلية أكثر يسراً وأكثر جدوى، وهو خاضع لعملية نقد شاملة غير انتقائية بين منقود بمبالغة شديدة أو مسكوت عنه بانتهازية مقيتة. فالحوار والنضال من أجل التغيير الديموقراطي يستند إلى حالة تغيير اجتماعي وسياسي وثقافي متواصل وطويل يبدأ من تثقيف القاعدة الشعبية، ويمر بنقد التجارب الحزبية، وينتهي بنقد الأنظمة الرسمية والسلطات السياسية.
2-تاريخية المقاومة العراقية:
لم تنطلق المقاومة العراقية بقدرة عصا سحرية. ولم تكن طفرة مقطوعة الجذور عن أسباب وعوامل أسهمت في تكوينها. بل مرَّت عبر مخاض طويل وإعداد مترافق معه. وتعود جذورها إلى أنها ثابت استراتيجي في فكر حزب البعث العربي الاشتراكي. وثابت نضالي وسم تاريخ الحزب بسماته منذ العام 1948م حتى اليوم. أما الإعداد لها فيعود إلى اللحظة التي تأكدت فيه قيادة الحزب والثورة في العراق من أن العدوان والاحتلال واقعان لا محالة. وتعيدها بعض الوثائق إلى العام 1991م.
منذ تلك اللحظة أولت القيادة إعداد المقاومة اللوجستي أهمية قصوى من حيث تأمين إمكانياتها البشرية والتسليحية بسرية وجهود متواصلة. ووُضعت تلك الخطة كمرحلة مكملة لمفصل الحرب النظامية النظامية. وهي في المفهوم الاستراتيجي المرحلة الأساسية التي بها وحدها تستطيع قيادة الحزب –بعد أن رفضت الإملاءات الأميركية كلها- أن تؤمن التوازن في القوى مع العدوان الأميركي. وتأمين التوازن يتم على قاعدة منعه من تثبيت احتلاله أولاً ومن تحقيق أهدافه الحقيقية ثانياً.
هذا ما حصل على أرض المعركة أيها السادة. فمنذ أن استنفذت المواجهة النظامية دورها المرسوم، وبعد أن أصبحت تشكل عامل استنزاف غير محسوب للطاقات البشرية العراقية حينما استخدمت القوات الغازية أسلحة فتاكة، حصل الانتقال الطبيعي إلى المرحلة الأساسية منذ العاشر من نيسان من العام 2003م.
3-تأثيرات المقاومة العراقية:
سجَّلت المقاومة العراقية نقلة نوعية لم تعرف سرعتها كل الحركات والثورات الشعبية في العالم. فبعد أقل من شهرين –ويتأكد هذا من خلال العودة إلى الوثائق ذات العلاقة- أخذت ثوابت الاحتلال تهتز بفعل ضربات المقاومة. تلك الثوابت تتعلق بمنع القوات العسكرية من الاستقرار لأن فيه حمايةً للخطوات السياسية والاقتصادية اللاحقة، وبدون تأمينه يمتنع على الاحتلال أن يحرز النصر. أما الثابت الثاني، وهو الهدف الأساسي من الاحتلال فهو منعه من الاستفادة من ثروات العراق ومن أهمها الثروة النفطية.
كانت استراتيجية المقاومة واضحة منذ البيانات الأولى التي صدرت عن قيادة المقاومة والتحرير ويعود أولها إلى تاريخ 22/ 4/ 2003م، وبيانات القيادة القطرية لحزب البعث في العراق ولرسائل الرئيس صدام حسين. فبهذا تكون ثوابت المقاومة الاستراتيجية قد دفعت بثوابت المشروع الأميركي إلى الانكفاء مما نتج عنه تداعيات على شتى الصُعُد:
أ-انتقلت تأثيرات المقاومة العراقية إلى الداخل الأميركي على مستوى الرأي العام من جهة وإلى كواليس الإدارة الأميركية من جهة أخرى، وتصاعدت حدتها بالتوازي مع استمرار أداء المقاومة الرائع. وتتعمَّق تداعياتها أكثر فأكثر إلى المستوى الذي أخذت تتسرَّب فيها مشاريع عروض للخروج من العراق. ولكن التفتيش حاصل على قاعدة كيف يتم الخروج من دون إعلان لهزيمة الجيش الأميركي.
ب-إعادة الحيوية إلى الشارع العراقي، وهو ما أخذ يستنهض كل الحركات والقوى الوطنية العراقية الشريفة التي انحازت بالكامل إلى جانب المقاومة العراقية. وقد ضمَّت تعدديات حزبية وشعبية ودينية، وهي لا تزال تتوسَّع كلما تقدَّم الوقت والزمن.
ج-إعادة الحيوية إلى الشارع العالمي. وهنا لا بُدَّ لنا من الإشارة إلى أن الشارع العالمي يعرف خطورة المشروع الأميركي أكثر بكثير من الشارع العربي، جماهير ونخباً، ولهذا التقط الشارع العالمي إيجابيات وتأثير المقاومة العراقية على الاحتلال الأميركي، وكان أكثر حركة من الشارعين القومي العربي والإسلامي.
د-إعادة الحيوية إلى منظومة الدول الممانعة للحرب على قاعدة مكافحة مشروع حكم العالم بأوحدية أميركية. وهذا النادي يراهن على نتائج انتصارات المقاومة العراقية –حتى ولو كانت بحدود- من أجل إعادة صياغة العلاقات الدولية على قواعد جديدة تضمن فيه دول العالم توازناً بالقوى.
4-خصائص المقاومة العراقية
إن انطلاقنا من النتائج التي حققتها المقاومة العراقية يدفعنا إلى التذكير بخصائصها التالية:
أ-تكامل السلطوي مع الثوري في تجربة حزب البعث: على العكس مما أسرت فيه العديد من الأصوات نفسها بأن النظام العراقي هو من عجين النظام العربي الرسمي، أثبتت تجربة المقاومة العراقية أن الأولوية في فكر الحزب حتى لو كان في السلطة هي للثورة، وما الوصول إلى السلطة إلاَّ من أجل الإفادة من إمكانياتها لصالح الثورة.
سوف يكشف التاريخ حقيقة هذا عندما تشعر القوى المشككة أن عليها -بعين الموضوعية ما رفضته بعين الهوى- أن تعرف حجم الإنجازات القومية في خلال خمسة وثلاثين عاماً من تجربة دؤؤبة كانت محاطة بكثير من المؤامرات والأفخاخ.
إن الدليل الأبرز على معادلة الاستفادة من إمكانيات السلطة ووضعها في مصلحة الثورة هو المقاومة العراقية. فلو كانت قيادة الحزب تولي اهتماماً للسلطة لكان القرار ملك يديها، ولم يكن هناك ما يمنعها من محاباة المشروع الأميركي. ولكن الذي منعها هو إيمانها المطلق بمبدأ مقاومة الاستعمار والصهيونية. ولهذا أعدَّت لمقاومته إعداداً رائعاً، وفضَّلت النزول إلى خنادق النضال على قاعدة مواجهة الاستعمار بأسلوب الكفاح الشعبي على البقاء على كراسي السلطة.
فالإعداد لحرب التحرير الشعبية بديلاً للحرب النظامية هو من ابتكارات نظام عربي استفاد من وجوده على رأس السلطة السياسية للإعداد للحرب الشعبية. وقد لعبت التعبئة بإيديولوجيا المقاومة دوراً مؤثراً في تحفيز الشعب العراقي للالتفاف حول المقاومة بسرعة قياسية. لذا لم يتصرف الحزب في العراق كنظام رسمي بل تصرَّف كحزب للثورة الدائمة، فوضع إمكانيات السلطة في خدمة الإعداد للثورة.
ب-الأنموذج العراقي هو حالة بناء جديدة تقترب من البناء المؤسسي وتبتعد عن البناء الفردي. وليس من دليل أوضح من أن شتى القيادات التي كانت متهومة بالفردية قد وقعت في الأسر. بينما المقاومة استمرت، وهي بدلاً من أن تتراجع فقد تصاعدت. وهذا دليل على بنيان مؤسسي لا تهتز أركانه إذا ما غابت قياداته لأنه قادر على إنتاج البديل عنها.
ج-حالة التراكم النضالي السريعة كان فرض التراجع على الاحتلال بشهور قليلة نتيجة منطقية وبرهاناً عملياً على صحة الإعداد المسبق للمقاومة. فحالة التراكم النضالي بمثل تلك السرعة على مخططات الاحتلال لم تعرفها التجارب الأخرى في العالم. وهناك مقارنات عديدة توصلت إليها بعض الأبحاث ذات العلاقة.
د-المنهج السياسي الاستراتيجي للمقاومة العراقية:على العكس مما تشيعه بعض القوى والحركات الصديقة للمقاومة أو تلك التي تريد بها شراً، فقد وضعت قيادة المقاومة منذ التاسع من أيلول من العام 2003م، منهجاً سياسياً استراتيجياً من أهم ثوابته:
-الأولوية لقتال مستمر ضد الاحتلال وعملائه، حتى خروج آخر جندي من أرض العراق.
-وضع قوات الاحتلال وعملائها في كفة واحدة، سواء من الذين كانوا من المقيمين أو من القادمين على دباباتها. بمن فيهم الدول والمؤسسات الدولية التي تساعد الاحتلال على الاستقرار على أرض العراق.
-منع الاحتلال من تحقيق أهدافه بتضييق الخناق عليه من خلال مفصلين رئيسين: إيقاع أكثر ما يمكن من القتلى في صفوف جنوده، ومنعه من استغلال ثروات العراق ومن أهمها الثروة النفطية. أي ضربه في أكثر الجوانب حساسية وتأثيراً عند المواطن الأميركي، إي إغراقه في مستنقع يدفع فيه الدم والمال.
5-الاتجاهات الجبهوية في عمل المقاومة العراقية وواقعها الراهن:
منذ البيان الأول لقيادة المقاومة والتحرير، في 22 نيسان من العام 2003م، ظهرت الاتجاهات الجبهوية واضحة في نداءات القيادة، وخاصة في المنهج السياسي الاستراتيجي الذي أعلنته في 9/ 9/ 2003م. أما الواقع الجبهوي كما هو حاصل اليوم فهو حالة الفرز الواضحة بين حدين: الاحتلال وعملاؤه، والمقاومة وأنصارها. وليس بينهما خط رمادي. فإما المقاومة وإما الاحتلال. أما الانتظار في الوسط فهو حيلة المترددين العاجزين عن رؤية استراتيجية لحقيقة الصراع بين الاحتلال وقوى التحرر القومي والوطني.
ولهذا يقوم العمل الجبهوي على ساحة المقاومة في العراق بجهود أساسية من البعثيين ومشاركة ملحوظة من تيارات قومية وشيوعية وإسلامية ورؤساء عشائر، ومن عموم أبناء الشعب العراقي من شتى الأديان والعرقيات والمناطق.
ومن أهم مظاهر الحالة الجبهوية هي تلك التي أُعلِن عنها في بيان الأول من نيسان من العام 2004م، وفيه كُشف النقاب عن وجود مجلس تنسيق أعلى للمقاومة منذ الأشهر الأولى للاحتلال. ويضم المجلس شتى أطياف التنظيمات الحزبية والعسكرية التي أعدَّتها قيادة الحزب والسلطة في العراق مع تنظيمات قومية وشيوعية وإسلامية حسمت خياراتها إلى جانب الدفاع عن الوطن وتحريره قبل أية مهمة أخرى. كما أن كل المعلومات تؤكد أن الحالة الجبهوية تنمو وتتزايد وتنتشر في شتى أنحاء العراق.
6-إحتمالات المستقبل
في صراع الثوابت بين الاحتلال والمقاومة سيكون النصر لمن يفرض على الآخر التراجع عن ثوابته. ولأن صورة الصراع بين الثوابت –ثوابت المقاومة وثوابت الاحتلال- أصبحت بغاية من الوضوح، أصبحت نتائج الصراع واضحة أيضاً.
لم يستطع الاحتلال أن ينجز عامل الأمن لقواته، وإدامة المنع هو بيد المقاومة، ويراهن الاحتلال في هذه المرحلة على احتواء المقاومة أو تصفيتها بأقذع أنواع القسوة والإرهاب، فلو نجح في تحقيق هذا الهدف فلن نستطيع الادعاء بأن الاحتلال سيكون إلى زوال.
ولأن لتيارات حركة التحرر العربية كافة، ولتيارات حركة التحرر العالمية، مصلحة كبرى في هزيمة الاحتلال، لأصبح علينا أن نعرف أنه من الواجب أن لا تُترَك المقاومة العراقية وحيدة مستفردة محاصرة إعلامياً ومادياً، فعلى الجميع أن يبادر إلى ابتكار الوسائل التي تؤمن دعمها وإسنادها، حتى لا نصل إلى اليوم الذي نبكي فيه بدموع النساء مقاومة لم نستطع أن نحافظ عليها بجأش الرجال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق