محاولة نظرية
في فهم الاتجاهات العامة في السياسة الأميركية والدولية
12/ 7/ 2004م
يستند مشروع »القرن الأميركي الجديد« إلى إيديولوجيا مميَّزة في تاريخ أميركا. وكانت نتيجة تراكمات متواصلة لثقافة رجال الأعمال والصناعيين الكبار تعود إلى إيديولوجيا الغزو الاستيطاني وطلائع الغزاة الأوربيين للقارة الأميركية التي كانت حمراء أصلاً، فأصبحت بيضاء بعد انتصاراتهم على السكان الأصليين. والتحول من إيديولوجيا حمراء (رمز السكان الأصليين وهم كانوا متخلفين أصلاً) إلى الإيديولوجيا البيضاء أي النقيض الحضاري والأخلاقي ضد كل الألوان الأخرى غير البيضاء. وهي قائمة أصلاً على الغزو والاحتكار واحتقار الألوان الحمراء والسوداء، فالمنتمون إليها كما يصفهم وليم كورز أحد غلاة »مشروع القرن الأميركي الجديد« مخاطباً العبيد الأميركيين قائلاً: »إحدى أفضل الأشياء التي قام بها تجار العبيد بحقكم هي جرّ أجدادكم المكبلين حتى وصلوا بهم إلى هنا«.
صحيحٌ أن المستوطنين الأوروبيين كانوا من صناعة مرحلة النهضة في أوروبا، إلاَّ أنهم كانوا يعبِّرون عن أفكار الطبقة البورجوازية التي كانت نتاجاً لمرحلة النهضة التي أسقطت تعسف ديكتاتورية الإقطاع وجرائم محاكم التفتيش في الكنيسة المسيحية، لتُحِلَّ مكانها ديكتاتورية بورجوازية تمهِّد لقيام ديكتاتورية رأسمالية.
عندما غزا المستوطنون الأوربيون أميركا الحمراء كانوا يحملون إيديولوجيا الاستغلال والاستثمار الاقتصادي فأدَّت سيطرتهم على القارة إلى تطبيق إيديولوجياتهم البورجوازية التي عرفت طفرة نوعية في التصنيع والإنتاج الصناعي فشكَّلت مرحلة انتصار الرأسمال في داخل حدود القارة، وراحت تفتش عن أسواق جديدة بدلاً من التفتيش عن تفاعل حضاري إنساني بين الأمة الأميركية وأمم العالم الأخرى. فانحرفت إيديولوجيا الطبقات العليا في الولايات المتحدة الأميركية نحو المزيد من التراكم الرأسمالي وبالتالي نحو الجنوح باتجاه بناء إمبراطورية أميركية تسيطر على العالم فيصبح العالم كله ميداناً لنشاطها واستغلالها.
فالعلاقة الجدلية التي ربطت بين الانتصارات الأميركية في ميدان الحضارة المادية وصانعي تلك الانتصارات من الصناعيين والرأسماليين زرعت المزيد من الطموحات في مشاريع الإدارات الأميركية المتعاقبة مما قاد إلى عدة من التناقضات داخل المنتسبين إلى نادي الطبقة ذاتها. وراحت الشرائح الصناعية الكبرى في أميركا تتشرذم تسابقاً وتزاحماً حول الأرباح بحيث أفرزت الكارتلات الكبرى، كأحد وجوه توحيد المنتسبين إلى تلك الطبقة، تناقضاتها الذاتية في التأسيس لبدايات التفسخ في صفوفها. وكانت أولى ملامحها قد جاءت بعد الاندحار الأميركي في فييتنام في العام 1973م.
كانت وحدة أصحاب الكارتلات منشدَّة نحو تهديم التيارات الاشتراكية في العالم، وكانت وحدة الخطر هي التي تجمعهم. وبانهيار وحدة الاتحاد السوفييتي زال أهم عامل كان يجبر أصحاب الكارتلات على العمل جبهة واحدة، فانقسم الحلف إلى تيارين رئيسين، وإن لم تكتمل تشكيلاته وأدواته حتى الآن إلاَّ أن هناك ما يشير إلى حصول مثل هذا التفسخ في داخله.
تقوم معالم التفسخ في داخل وحدة الطبقات الصناعية والرأسمالية الأميركية إلى جملة من العوامل من أهمها:
-لا ينفصل التنافس بين الرأسماليين، القائم على قاعدة الغلبة للأقوى، عن المعادلة ذاتها. فالمنتسبون إلى طبقة تقوم على استغلال الآخر لا بُدَّ من أن تنعكس على العلاقات بينهم، إذ لا بُدَّ من أن يقود الطبقة ذاتها نخب تعمل على إضعاف الآخرين وتزيحهم عن طريقها لمنعهم من الحصول على أسباب القوة التي تؤهلهم لقيادة الطبقة النخبوية.
-إن التنافس الحالي قائم على قاعدة حزبية تنقسم إلى قوتين: الحزب الجمهوري والحزب الديموقراطي. وبعد زوال الخصم المشترك، راح الحزبان يفتقدان عامل توحيدهما في تجميع قوتيهما تحت محاربة »مصدر الخطر الواحد« فدخلا في معركة منافسة من المتوقع لها أن تشتد على المدى الطويل.
من خلال حركة التنافس الجديدة سوف تدخل عوامل تقوي مواقع هذا الطرف أو ذاك. ومن أهم تلك العوامل:
-التكتل الدولي غير الأميركي الذي لا يتنكر لانتمائه الرأسمالي، لكن لا يريد أن يشكل انتماؤه أداة تخضع لسيطرة نخبة أميركية تؤدي به إلى لعب دور التابع وليس الشريك.
-الصهيونية العالمية التي تعمل على الاحتفاظ بشراكة الطرفين المتنازعين في داخل النخب الرأسمالية الأميركية، لأنها ليست أمينة لأخلاقيات الشراكة، بل هي أمينة على مصالحها والمحافظة عليها، والتي تقوم على قاعدة »اليهود شعب الله المختار«. وبالتالي العمل من أجل تطبيق الأمر الإلهي على مستوى العالم كله.
-الأصولية المسيحية المتمظهرة بتيار المبشرين المسيحيين. هذا التيار ليس قائماً بذاته بل يتنازع عليه كل من اليمين الأميركي المتطرف للاتكاء إليه في معركة التنافس بين النخب الرأسمالية الأميركية من جانب، والصهيونية العالمية في تعميق إيديولوجيته الدينية اليهودية من جهة أخرى، فبينهما عامل إيديولوجي مشترك هو ظهور المسيح المخلص والحاسم بين الخير والشر.
وفي موازنة جذب عوامل الاستقواء بين النخبتين الرأسماليتين في أميركا يتميَّز الطرف المستقوي بعامل الدول الرأسمالية الأخرى بأنه الأقوى على المدى الطويل.
ليست الغاية في الموازنة بين الطرفين العمل من أجل ترجيح كفة أحدهما على الآخر، بل من أجل الموازنة بين السيئ والأسوأ. فانتصار السيئ يختزل مسافات الصراع بين قوى التحرر وقوى رأس المال، لكنه لن يلغيها. وهذا لا يعني إلاَّ أن على قوى التحرر أن تستفيد من الصراعات الداخلية التي تدور داخل قلاع الرأسمالية الأميركية من جهة، وبين القلاع الرأسمالية العالمية والقوى الأميركية التي تسعى لاحتواء القرار العالمي على قاعدة: قطبية أميركية يمينية واحدة وقطبية عالمية واحدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق