الجمعة، فبراير 26، 2010

المقاومة الوطنية العراقية

-->
المقاومة الوطنية العراقية
تعيد للفكر القومي العربي حيويته
23/ 9/ 2006
لما نعق « غربان البين» ونعوا الفكر القومي العربي وأعلنوا وفاته، فإنما فعلوا ذلك ليس لأن الفكر قد مات فعلاً، وإنما كان نعيقهم عبارة عن أمنية يحلمون بتحقيقها.
أما الواقع فهو ليس كذلك، وإنما ما بدا للآخرين موتاً إنما كانت عوارض من الضعف ميَّزت أداء القوميين العرب، منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي. أما أسباب الضعف فتعود إلى مواجهات عديدة ساقتها بعض التيارات السياسية والإيديولوجية العربية، ويأتي على رأسها تياران أمميا الأهداف والهوى وهما: الماركسيون العرب والتيارات السياسية الدينية العربية.
ولم تكن مواقف المناهضين للفكر القومي العربي تشكل عامل الإضعاف الوحيد، وإنما أيضاً شكَّل سوء أداء التيارات القومية نفسها سبباً مساعداً. ومن أهم معالم السوء فيه هو أنها غلَّبت الصراعات السياسية فيما بينها فأتت على حساب الفكر وأضعفت انتشاره خاصة وأن تلك التيارات أغفلت أهمية تجديد الفكر وإغنائه، إذ كانت تلك المهمة تأتي في نهاية اهتماماتها.
إننا نعتبر أن عوامل إعاقة الفكر القومي، ومنعه من الانتشار، يعود إلى سببين: الأول خارجي، والثاني داخلي.
فحول السبب الخارجي وكان مصدره المخططات الاستعمارية والصهيونية التي عملت منذ البداية على منع انتشار أي فكر وحدوي منذ اتفاقية سايكس بيكو. والتقطت نقاط الخطورة فيه، فوضعت الحواجز السياسية والجغرافية، وارتقت بها، في تاريخنا المعاصر، إلى صياغة حواجز فكرية وضعت لنشرها وتعميقها وترسيخها كل وسائل إعلامها، وظهرت بأوضح معالمها في إيديولوجيا «صراع الأفكار» و«صراع الحضارات».
أما السبب الثاني، فقد تلاقى السبب الخارجي على محاربة الفكر القومي مع تيارات سياسية ودينية داخلية يقودها عدد كبير من النُخب الدينية السياسية من جهة، وتيارات الماركسية وأحزابها الشيوعية من جهة أخرى.
وعلى الرغم من أن التيارات القومية لم تشكك بأن الفكر القومي هو فكر الحداثة والمعاصرة والمستقبل أيضاً، الذي لا يرى للأمة العربية مستقبلاً من دونه، فواجهت الآخرين بصفوف متفرقة السبب الذي جعلها تحصد الوهن والضعف في مواجهة التيارات الأخرى وتراكمها على الوهن الذي كان حصيلة الصراعات فيما بينها.
أولاً: تحالف أممي سياسي يقف في صف العداء للفكر القومي العربي
لقد انقسم « غربان البين» من الذين نعوا الفكر القومي إلى ثلاثة ألوان يجمعهم العداء له، وهم:
-الصهيونية والاستعمار صانعا سايكس بيكو بطبعتها القديمة، وهي سياسة استراتيجية لم تفقد أهميتها منذ مطلع القرن الماضي. وقد جاءت في حينها نتيجة طبيعية تنسجم مع إسقاط الإمبراطورية العثمانية وتفتيت وحدويتها، وبالأخص منها الجزء العربي لاعتبارات عديدة.
-التيارات السياسية الإسلامية، التي استفاقت على انهيار الدولة العثمانية، منذ أوائل القرن الماضي، وحلَّ بديلاً عنها نظام استعماري وصهيوني، فأعلنت هدف استعادة نظام الخلافة الإسلامية. ولأن هذا النظام كان نظاماً أممياً، تحول دون استعادته الدعوات القومية اعتبرت تلك التيارات أن أية دعوة قومية ستحول دون تحقيق الحلم السياسي الأممي الإسلامي.
-التيارات الأممية ذات المنحى المدني، وبشكل خاص الماركسية والأحزاب الشيوعية العربية، والسبب هو اعتبارها أن أية دعوة للقومية العربية سيكون عائقاً يحول دون تحقيق الحلم السياسي الأممي، أي بناء دولة عالمية تقودها طبقة البروليتاريا.
ثانياً: استعادة تاريخ العدائية لأنها لا تزال مستمرة في المرحلة الراهنة
1-تيار الأمميين الماركسيين: ليس تذكيرنا بالتاريخ آتٍ من أجل إحياء ما لا فائدة منه، بل لأنه على علاقة وثيقة ليس بحاضر الأمة فحسب، وإنما بمستقبلها أيضاً. وليس هدفه معالجة قضايا نظرية قومية فحسب، وإنما لأنه على علاقة وثيقة بمجريات الصراع الحاضر أيضاً.
ليس تذكيرنا بالتاريخ السياسي آتٍ من أجل النظر بالجملة إلى هذا الصراع فحسب، وإنما لأنه على علاقة وثيقة بتفصيلات هذا الصراع أيضاً، وهو لا يزال يترك تأثيراته السلبية على كل جوانب المواجهة التي تخوضها الأمة العربية ضد العدوان الإمبريالى الصهيوني المستمر والمتصاعد. خاصة وأن تفصيلات هذا العدوان الآن ماثلة في ساحات قطرية ثلاث: فلسطين ولبنان والعراق. وفي تلك المواجهة تخوض الحركة القومية العربية، إلى جانب المعركة مع الخارج، لا تزال الإيديولوجيا الأممية التي تنتشر في الداخل العربي، ماركسياً ودينياً سياسياً إسلامياً، تشكل معرقلاً لا يُستهان به في معركة المقاومة والتحرير.
فنحن إذا نظرنا إلى مواقف تلك القوى من الصراع الدائر على الساحات الثلاث سنخرج بانطباعات استراتيجية تدل بما لا يقبل الشك بأن للقوى الثلاث: الاستعمار والصهيونية من جانب والأمميتان الماركسية والدينية الإسلامية من جانب آخر، علاقة وثيقة بالصراع الدائر الآن، بحيث تصطف أجنحتها في مواجهة يقف فيها التياران الإسلامي والماركسي في مواجهة الاستعمار والصهيونية، ولكن لكل منهما رؤيته الخاصة واستراتيجيته الخاصة. وللأسف تتناقض استراتيجيتهما مع استراتيجية الفكر القومي في أكثر جوانبها.
إذا نحن قمنا باستثناء بعض القوى، من التيارات الإسلامية التي نستطيع تصنيفها في دائرة التوافق القومي الإسلامي وهم ليسوا قلة، ومن التيارات الماركسية التي تقترب مواقفها من الاستراتيجية القومية، وهم ليسوا قلة أيضاً، لا بدَّ من أن نشير إلى كثير من الزوايا الاستراتيجية الشاذة التي يعمل على هديها عدد من التيارات الإسلامية والماركسية.
وإذا استثنينا، لأغراض لها علاقة بحدود هذا المقال، كلاً من الساحتين اللبنانية والفلسطينية، سنحصر اهتمامنا بالقضية العراقية، التي من خلالها سنطل على مختلف جوانب التناقضات التي تحكم العلاقات غير السليمة بين التيارين الأممين والتيار القومي.
لقد حصر بعض التيار الماركسي نفسه في ثنائية «الاحتلال والديموقراطية» منحازاً بموقفه إلى جانب تحميل ما يسميه «الديكتاتورية» مسؤولية احتلال العراق، وبمثل هذا الموقف تاه عن سلوك الطريق الصحيح فشارك في العدوان على العراق، وساند الاحتلال الأميركي ووقف إلى جانبه. وبمثل هذا الموقف غلَّب القضية الديموقراطية على القضية الوطنية، فانحدر نحو الخيانة الوطنية. وإذا كانت الخيانة الوطنية مفهوماً تشريعياً حديثاً ترافق مع تأسيس الدولة القومية الحديثة ولا يفهمه بعمقه وروحه إلاَّ القوميون، فقد دلَّت تجربة العراق على قاعدة مفهومية الأمميين أن «الخيانة الوطنية» ليست مسألة ذات علاقة بقيمة إنسانية عليا.
وتبريراً لعزوفه عن الانخراط بمواقف نضالية تُرتِّب عليه مسؤوليات في التحرير وموجبات في الدعم والإسناد، حشر بعضه الآخر نفسه في موقف غير مفهوم، مدَّعياً أن جهله بطبيعة التركيبة الطبقية للمقاومة العراقية تشكل حائلاً دون اتخاذه تلك المواقف العملية. فهو لن يشارك في مقاومة قد تعود نتائجها لمصلحة البورجوازية. وبالأخص إذا عاد حصاد تلك النتائج لمصلحة حزب البعث العربي الاشتراكي الذي يمثِّل بمنظار هذا التيار ممثِّلاً للشوفينية القومية والطبقة البورجوازية.
ليس من المفيد الغرق في رد تلك الاتهامات، بل من المفيد أن نوجِّه النظر إلى أنه لا مصلحة لتغليب المطلب الديموقراطي، في أثناء مرحلة التحرر من الاستعمار والصهيونية على قضية التحرير الوطني، فكما أن الاحتلال لن يجلب الديموقراطية للشعوب المسلوبة أرضها، فإن الشعوب ستخسر سيادتها الوطنية ولن تربح الديموقراطية.
كما أنه من المفيد أن نوجِّه النظر إلى أنه لا مصلحة لتغليب المطلب الطبقي في أثناء مرحلة التحرر من الاستعمار والصهيونية على قضية التحرير، فكما أن الاحتلال لن يعمل من أجل الطبقات الكادحة بل هو احتل لكي يعيث فيها استغلالاً، ولا عجب من ذلك لأن الاستعمار هو أعلى درجات الرأسمالية. وتحت الاحتلال ستخسر الشعوب سيادتها الوطنية وهي لن تربح مصلحة الطبقة العاملة.
لقد عكست بعض التيارات الماركسية منطق العلاقة بين التكتيك والاستراتيجيا، حينما أعطت الأولوية للنضال من أجل «التكتيكي» الذي يمكن تأجيله، أي جانب التناقضات المطلبية الطبقية والديموقراطية، على النضال من أجل «الاستراتيجي»، أي التحرر من الاحتلال الرأسمالي الذي سيركل «البروليتاريا والديموقراطية» برجله، بينما كان المنطق يدعوها إلى أن تنخرط في معركة التحرر الوطني كونها التناقض الرئيسي، ومن بعد إنجازها تنتقل إلى مرحلة صراع التناقضات المطلبية كونها التناقض الثانوي. ومن أسوأ الأمور أن تنخرط بعض التيارات الماركسية تحت راية النظام الرأسمالي الاستعماري من أجل جلب الديموقراطية للشعوب.
إن ترتيب أولويات الصراع، بشكل منطقي، قد ميَّزت مواقف بعض تيارات الماركسيين والشيوعيين العراقيين ممن أدركوا حجم المخاطر التي تحيط بالأمة الواقعة تحت الاحتلال. ووجدوا أنه لا يمكن التفرغ للنضالات المطلبية في ظل الاحتلال، لأن الشرط الموضوعي والمدخل الطبيعي لها لن تكون من بوابة الاحتلال بل من بوابة التحرر الوطني وهو ما جعلهم يحسمون موقفهم إلى جانب مقاومة التناقض الرئيسي، خاصة وأنه تحوَّل إلى احتلال عسكري مباشر للأرض العربية، مروراً باحتلال العراق كخطوة أولى سيتفرغ بعدها لاحتلال كافة الأراضي العربية سواءٌ أكان عبر احتلال قمة الهرم السياسي للأنظمة العربية، أم كان باحتلال عسكري مباشر لأراضي الأقطار التي لا تستجيب أنظمتها للإملاءات الاستعمارية والصهيونية.
2-تيار الأمميين في الحركات الدينية السياسية: أما التيارت السياسية الإسلامية فلها شواذاتها الاستراتيجية أيضاً، ولنا على الساحة العراقية المثال الأبرز والأكثر دلالة على تلك الشواذات.
لقد اجتمع في تحالف واحد متناقضان، وقد جمعهما تحالف شاذ، لم يستطع أحد أن يقوم بتفسيره، وهما: التيارات السياسية الدينية «السنية»، والتيارات السياسية الدينية «الشيعية»، واجتمعا تحت سقف واحد «الاحتلال الأميركي» في العراق. وطريقة تعاملهما معه أكثر من واضحة.
إن التيارات السياسية الدينية «الشيعية» بكل تشكيلاتها ومسمياتها المعروفة في العراق، التي لم يكن لها وجود في أثناء الحكم الوطني، إذ كانت ممنوعة من النشاط، ليس لأسباب «ديكتاتورية» أو «ديموقراطية»، بل لأسباب تهديدها لأواصر النسيج الوطني في العراق.
وإن التيارات السياسية الدينية «السنية»، بتشكيلها الرئيسي «الحزب الإسلامي في العراق» المدعوم من بعض التيارات المنبثقة عن «الإخوان المسلمين» خارج العراق، التي لم يكن لها وجود في أثناء الحكم الوطني، فهي كانت ممنوعة أيضاً من النشاط، للأسباب ذاتها التي مُنعت لأجلها التيارات السياسية الدينية «الشيعية».
من المثير والمستغرب أن تلتقي حركتان دينيتان، تقوم أحدهما بـ«تكفير الأخرى»، في تحالف واحد. والأكثر استغراباً أن تقوما معاً بالتحالف مع ما تعتبرانه «عدواً كافراً».
إنهما تحالفا معاً تحت سقف «شاذ» على الرغم من أسباب تكفير أحدهما للآخر. كما تحالفا مع الاحتلال الأميركي تحت سقف «شاذ» على الرغم من أسباب تكفيره من قبل الطرفين معاً.
فإذا كنا من السذاجة بمكان، واستغفلنا الطرفان، لكي نصدِّق بأن مشروعهما الإسلامي واحد مُوحَّد ومُوحِّد، فهل تصل بنا السذاجة مبلغاً لكي نصدِّق بأن تحالفهما مع الاحتلال الأميركي «العدو الكافر» يتوافق مع استراتيجيتهما الدينية الإسلامية؟
إن من بديهيات الأمور، ومن أهم أركان الإسلام، عند الطرفين معاً، أن «الجهاد»، أي حماية «ثغور الإسلام»، هي الحد الأدنى الذي على «المسلم» أن يؤديه من دون نقاش أو تساؤل، فهو تكليف شرعي يمكن أن يتجاوز فيه كل الفتاوى الفقهية. أوَ ليس في هذا ما يدفعنا إلى الاستغراب والتساؤل عن أسباب تلك التحالفات؟
من بديهيات الأمور أيضاً أن تعمل الحركات السياسية الدينية، من أجل إسقاط الأنظمة العلمانية، كخطوة أولى وأساسية لبناء «دولة دينية»، ولكن هل يجوز من أجل إسقاطها أن تتعاون مع من لا ترتبط مع دعاتها بأي رابط ديني أو وطني؟
لقد اختارت الحركتان معاً أن تسقطا النظام العلماني في العراق، كنظام لا يتبنى الفقه الإسلامي مصدراً وحيداً للتشريع، ولكن أن يتعاونا ليس فقط مع احتلال «علماني» فحسب، بل يتبنى عقيدة دينية «أصولية مسيحية» يرفضها معظم المسيحيين أيضاً، فهنا تظهر وجوه الغرابة فيه.
ثالثاً: التحالفات الشاذة تقية يمارسها أصحاب عقائد متناقضة
لقد التبست وجوه التناقضات فيما نرى أنها «تحالفات شاذة»، وهي أن يلتقي على هدف واحد، محاربة الفكر القومي العربي، كل من الآتية مسمياتهم:
-تيارات الماركسيين دعاة «الدولة الاشتراكية» مع ظاهرة الاستعمار الأميركي الداعية إلى «الدولة الرأسمالية»، خاصة وأن في الفكر الماركسي يضع الاستعمار في «قمة الهرم الرأسمالي»، حيث إن الاستعمار هو أعلى درجات الرأسمالية.
-تيار الماركسيين دعاة «الدولة المدنية»، التي هي الحد الأدنى لقيام «دولة لا تعترف بالدين»، مع دعاة قيام «دولة دينية» تعتبر الماركسية عدوها «العلماني» الأول.
-تحالف التيارات السياسية الدينية: أنصار إيران بشتى مسمياتهم الذين يجاهدون من أجل تأسيس دولة إسلامية على قاعدة «ولاية الفقيه»، وتيارات تعود أصولها إلى إيديولوجيا الإخوان المسلمين الذين يجاهدون من أجل استعادة «الدولة الراشدة».
-هذا التحالف، بـ«شذوذية» قواعده وتناقض أهدافه، يتحالف، ليس مداورة بل مباشرة مع قوى الاحتلال الأميركي التي لا تتناقض معها بالأهداف الإنسانية فحسب بل بالإيديولوجيا الدينية أيضاً.
رابعاً: نقد التحالفات الشاذة بين العقائد الإسلامية المتناقضة خطوة على الطريق الوحدوي الصحيح
حول هذا الجانب قد يأخذه بعض «المصطادين بالماء العكر»، من الذين يزايدون على الآخرين بمحبة «الوحدة الإسلامية»، سبباً يرفعون من أجله إصبع الاتهام بالدعوة إلى التفرقة، فنجيب بأن ما نراه نحن لهو حقيقة ماثلة في نصوص كل تيار منهم، المنشورة منها والمستورة، بأنهم يمارسون جميعهم التقية على بعضهم البعض عن سابق تصور وتصميم. وإذا كانوا ينشدون «وحدة المسلمين» فعلاً، فعليهم قبل كل شيء أن يعلنوا على الملأ إلغاء تلك النصوص، التي شكَّلت بالفعل أساساً لدينا استندنا إليه في النتائج التي نعلنها.
إن ما أشرنا إليه من مظاهر تؤكد أن تلك التحالفات هي «شاذة» بالفعل. وقد التقت حول أهداف تكتيكية جامعة، يكمن أحدها للآخر، من بعدها ينقلب الواحد منهم ضد حليفه. أما المطلوب الرقم واحد فهو رأس الفكر القومي العربي، ورأس حلمنا الثابت في الوحدة العربية، ومن خلاله يستهدفون إحباط كل ما يمت بصلة إليهما. وليس من غرائب الأمور أن تكون المقاومة الشعبية العربية المسلَّحة على رأس تلك الأهداف، ليس لسبب آخر إلاَّ لأنها ذات هوى ولون وشكل وعمق وروح قومية وعربية.
فهل من تفسير لذلك؟
خامساً: العقائد السياسية الأممية والدينية لا تكترث بمصلحة الأمة العربية الواحدة
إن الاستعمار والصهيونية مذهبان استغلاليان، والاستغلال عندما يمتلك قوة التوسع يصبح عابراً للقارات. وتلك السمات والوقائع لا تنفصل عن حالهما في هذه المرحلة، ولا يمكنهما التمدد والانتشار من دون كسح الحواجز والعوامل التي تعيق حركتهما، والفكر القومي العربي، كفكر توحيدي إيديولوجياً وسياسياً ونضالياً، هو أكثر العوامل إعاقة لذلك المشروع.
أما التيارات الماركسية، كتيارات لها حلمها الخاص في بناء دولة البروليتاريا العالمية، فقد عبرت الحدود القومية وأصبحت لا تشكِّل لها حاجة إيديولوجية أو سياسية، طالما أن هدفها الاستراتيجي كسح كل العوائق من أمام أهدافها الأممية. وهذا ما عبَّرت عنه بوضوح في كل سلوكاتها الفكرية والسياسية والتنظيمية والنضالية. وهذا ما طبع مواجهتها في عشرات السنين الماضية ضد تيارات الفكر القومي العربي من دون استثناء.
هذا ناهيك عن التيارات الدينية السياسية الإسلامية التي انتشرت بعد انهيار ما اعتبره البعض منها مركزية الدولة الإسلامية، بانهيار الامبراطورية العثمانية، وكانت أهدافها تروم استعادة تلك المركزية ولكن على أن تبني نواة أخرى، مقامة على قاعدة بناء دولة «الخلافة الراشدة»، تشكل جاذباً مركزياً تعمل على نشر الإسلام على المستوى الأممي من أجل بناء دولة سياسية إسلامية عالمية. وتلك دعوة أيضاً لا يمكن إلاَّ أن تكون عابرة للقارات والحدود، فهي بالتالي عابرة للحدود القومية والوطنية، وأصبحت أية دعوة للقومية العربية عندها وكأنها بديلاً، أو نقيضاً مع الدعوة للإسلام، فوضعتهما في موقع العدوين المتنافسين بحيث لا يمكن أن يجتمعا تحت سقف واحد. ولا يمكن المرور على ذلك من دون التنويه إلى مقولات تلك التيارات التي تردد أن «القومية ما وُجدت إلاَّ لمحاربة الإسلام». وعلى خطى هذه التيارات، التي كانت محسوبة على الإخوان المسلمين بشكل رئيسي، انتشرت دعوات دينية سياسية أخرى محسوبة على نظرية قيام دولة إسلامية بمنطلقات فقهية جديدة وهي دولة «ولاية الفقيه».
تجمع هذه مع تلك الأهداف الأممية التي ترى في حدود الدولة القومية حائلاً دون ما يجاهدان من أجله. أما النتيجة التي نصل إليها من خلال النظر إلى استراتيجيتهما معاً فهي أنهما أحلاَّ الولاء للدين مكان الولاء للوطن، لا بل أحلاَّ الولاء للمذهب مكان الولاء للدين والوطن معاً.
ولن تكون نتائج محاكمتنا لكل من الأهداف الاستعمارية والصهيونية، ولأهداف الأممية الماركسية، بعيدة عن محاكمتنا لأهداف التيارات الدينية السياسية الإسلامية، فكلهم أمميون على الرغم من أن أهداف كل منهم الاستراتيجية تتناقض تماماً وتتصارع. أما المؤسف في الأمر فهو أن كلاً منها ينشد الحصول على رأس الفكر القومي وأهدافه.
فهل في هذا التوضيح ما يدفعنا إلى الاستغراب والاستهجان؟
يا وحدنا، لقد توحَّد الأمميون كلهم من أجل محاربة الفكر القومي العربي، نظرية طالما استرشدت بها التيارات القومية العربية. وقام الأمميون بنعيه وهم يتحالفون اليوم على وأده.
لن نقوم بمحاكمة هؤلاء محاكمة سياسية، من خلال نبش كل ما ارتكبوه من جرائم وخطايا وأخطاء من أجل الوصول إلى أهدافهم، بل عند المتتبعين لتاريخية الحالة ما يكفي من الأدلة والوقائع والبراهين. لكن لم يكن في نتائج مواجهة كل هؤلاء وأولئك ما يجعلهم مطمئنين إلى أن الفكر القومي العربي قد لفظ أنفاسه الأخيرة، ولا نجد فيها ما يدفع الحريصين على هذا الفكر وأهدافه إلى اليأس والقنوط. فعند المقاومة الوطنية العراقية الرد الذي يغيظ المتحالفين ضدها لأنها تهتدي بالفكر القومي العربي الأصيل، وفيها ما يُحيي الأمل عند القوميين العرب من أجل تحضير أنفسهم لاستئناف النضال والجهاد، في وحدة متماسكة متجددة، من أجل وحدة أمتهم وحريتها عندما تتكسر أجنحة الاستعمار وقرونه على أرض الرافدين، وعندما تنعكس نتائج نضالات المقاومة الوطنية العراقية، بكل فصائلها وأجنحتها، أملاً في لجم وحشية العدوان الصهيوني في كل من فلسطين ولبنان بعيداً عن هواجس اجتياح «الإمبراطور الأميركي» للأمة والعالم. فهو على استعداد لسلب ما حققته المقاومة الفلسطينية واللبنانية من انتصارات ستبقى انتصارات تكتيكية من دون استكمالها بالنصر الاستراتيجي الذي تعمل المقاومة الوطنية العراقية على حياكته من دم مناضليها وحياتهم وتضحياتهم في المعاناة وطول الصبر على الأذى الوحشي الذي يتعرَّض له الشعب العراقي.
ولكي تتّضح أمام رؤيتنا أهمية الفكر القومي العربي، كنظرية حديثة ومعاصرة، وكنظرية للمستقبل، وعلى قاعدة نفي النظريات الأخرى ونقدها، نتساءل: هل الفكر السياسي الأممي يصلح قاعدة لبناء دولة أممية؟
لما أثبت التاريخ العربي الإسلامي أن الدولة الأممية الإسلامية، على الرغم من أنها استهلكت قروناً كثيرة من التجربة، أنها لم توفر العدالة بين رعاياها. وإنما كانت في شتى جوانبها، وأكثرها وضوحاً مرحلة حكم المماليك والأتراك العثمانيين، وسيلة للاستغلال والاضطهاد لصالح الطبقة الحاكمة.
ولما أصبحت الدولة القومية، كمفهوم وتشكيل سياسي حديث، تحميها حدود جغرافية معترف بها دولياً، تجمع تعدديات دينية ومذهبية دينية، وأحياناً أقليات قومية، ألغت مفهوم الإمبراطورية، كشكل للدولة القديمة التي كانت حدودها تبقى مفتوحة طالما كان الإمبراطور يمتلك القوة العسكرية اللازمة لضم أراض أخرى.
ربما لا تزال الدعوات الأممية، الاستعمار، والماركسية، والتيارات السياسية الدينية، تحن إلى زمن الإمبراطوريات القديمة. وإذا كان للاستعمار قوة عسكرية تحفزه لتوسيع مناطق نفوذه بقوة السلاح، فإن التيارين الآخرين، ربما لديهما حوافز عقائدية تدفعهما إلى إبقاء الحلم الإمبراطوري ماثلاً للتحقيق.
ولما فشلت مركزية التجربة الماركسية في انهيار الاتحاد السوفياتي، إلاَّ أن ذلك لم ينه الحلم العقائدي الماركسي، وبدلاً من المحافظة عليه في إطاره الفلسفي الإنساني، إلاَّ أنه يبدو أن المشروع السياسي في أذهان الماركسيين لا يزال حياً.
ولما فشلت مركزية الدولة الأممية الإسلامية وانهارت بانهيار الدولة العثمانية إلاَّ أن المثال التاريخي لا يزال جاهزاً في طموحات التيارات السياسية الدينية المعاصرة، هذا في بعض الجانب السني أما عند بعض الجانب الشيعي فقد أحيت نظرية «ولاية الفقيه» في إيران المثال التاريخي الصفوي. وعلى حد سواء يواجه الجانبان مسألة بناء «دولة دينية». وإن أشد ما يضعنا أمام حيرة هو أن الجانبين لا يأخذان حدود الدولة القومية على محمل الجد بل يؤسس كل منهما نظرياً، وقد يربطانه بالإرادة الإلهية، مشروع بناء «إمبراطورية» إسلامية عالمية، أي إمبراطورية عابرة للحدود.
كان يكفي لبناء إمبراطورية دينية، أو أية إمبراطورية أخرى، امتلاك القوة العسكرية وهو الشرط الوحيد والكافي للتوسع الجغرافي. وسبب كفاية هذا الشرط كان غياب نظام دولي يحمي حدود الدول، بل أساساً لم تكن الدولة القديمة ذات حدود معترف بها، وإنما كانت الشعوب كلها مؤهلة لأن تكون غالبة، وتطمح لأن تشكل إمبراطوريات على حساب الشعوب المغلوبة. أما اليوم فقد تغيرت الظروف والأنظمة ومفهوم الدولة. إلاَّ أن أصحاب الدعوة إلى بناء دولة أممية دينية لم تشكل بعد حقائق العالم الجديد قناعة لديهم، بل هم لا يزالوا يعيشون في عصور عفى عليها الزمن. ومن تلك الحقائق التي أصبحت مرفوضة ومدانة وممنوعة هي أن تكون حدود الدول مُستباحة تحت أي ذريعة أو سبب.
وما لم يعترف أصحاب الأهواء الدينية السياسية بتلك الحقائق ستبقى حدود الدول والقوميات في نظرهم عرضة للاستباحة والغزو، وستبقى الدولة القومية غير ذات معنى لديهم، بل والأمرُّ من كل ذلك، وعلى الصعيد القومي العربي الخاص، أن تعتقد تلك التيارات بأن «القومية العربية ما خلقت إلاَّ لمحاربة الإسلام».
إن الاعتراف بالقومية أولاً، والقومية العربية ثانياً، والاعتراف بحقيقة أن النظام السياسي للقومية العربية هو نظام تتساوى أمامه كل التعدديات ثالثاً، هي من حقائق العالم الحديث. بينما كل تلك الحقائق مرفوضة من تلك التيارات، وهذا ما يفسِّر لدينا عدم اكتراثها بمفاهيم «الخيانة الوطنية»، لأنها لا تكترث بمفاهيم «السيادة الوطنية»، فحدود الوطن ليست حدودها، وإنما التعصب للمذهب والدين هي حدودها الوحيدة.
سادساً: الفكر القومي العربي بوصلة استراتيجية لحزب البعث والمقاومة الوطنية العراقية
لقد أخذ حزب البعث العربي الاشتراكي بحقائق العالم المعاصر، واعتبر أن القومية العربية حقيقة العصر، ولا يمكن مواجهة النظام العالمي الإنساني الجديد إلاَّ بفكر موحَّد وموحِّد، ولا يمكن تحقيق العدالة بين مواطني الدولة العربية بتشريعات تقوم على قاعدة المصالح الفئوية، سواءٌ أكانت قومية أم دينية أم مذهبية دينية، بل تستفيد من كل ما يوحِّد من تشريع قومي أو ديني أو مذهبي وتستبعد كل ما يزرع الشقاق والتنافر بين أبناء الدولة القومية المدنية الواحدة.
أما من أهم عوامل النصر الذي تصنعه المقاومة الوطنية العراقية، فهي أنها تسترشد بالفكر القومي العربي. وهو الفكر الوحيد الذي يضع كل إمكانيات الأمة في مواجهة العدوان الخارجي من دون «تقية»، فهي واضحة تمام الوضوح في أهدافها الاستراتيجية، كما هي واضحة كل الوضوح في وسائلها التكتيكية. وتسير على هدي «توظيف كل الإمكانيات في المعركة الكبرى»، وعلى هدي تغليب مصلحة الوطن والأمة على أي مصلحة أخرى، وهي ترى أن المصالح الفئوية، الطبقية والمذهبية الدينية، لا يمكن أن تتحقق في ظل وطن منقوص السيادة مرتهن للاستعمار والصهيونية.
أما التناقضات الأخرى، باستثناء ما وُظِّف منها لتبرير العمالة مع الاحتلال الأميركي، فهي شأن داخلي عراقي أو عربي فستبقى في دائرتها الطبيعية التي عليها أن تأخذ حقها الكامل في الحوار السياسي والفكري في مرحلة ما بعد تحرير العراق تحريراً غير منقوص.
تمتلك المقاومة الوطنية العراقية، عمقاً فكرياً ولوجستياً استراتيجياً، تشكل مبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي، كرائد أساسي من روَّاد الفكر القومي، القاعدة والأساس الفكري، وهو ما أسهم في وضع الأسس اللوجستية السياسية والعسكرية للمقاومة الوطنية العراقية.
لم ينصب حزب البعث العربي الاشتراكي والمقاومة الوطنية العراقية «فخاً» لأي كان، ولم يمارسا «تقية» في تحالفاتهما، بل هما واضحان تمام الوضوح، سواءٌ ما جاء في دستور الحزب، الذي أقره المؤتمر القومي الأول في العام 1947، أم ما جاء في المنهج السياسي الاستراتيجي الذي أعلنته المقاومة في 9/ 9/ 2003، حيث أكَّد الدستور على أن:
-«الاستعمار وكل ما يمت إليه عمل إجرامي يكافحه العرب بجميع الوسائل الممكنة»، لذلك يقرر الحزب «النضال ضد الاستعمار الأجنبي لتحرير الوطن العربي تحريراً مطلقاً كاملاً». ودعا إلى أن «يناضل العرب بكل قواهم لتقويض دعائم الاستعمار والاحتلال وكل نفوذ سياسي أو اقتصادي أجنبي في بلادهم».
وحسماً للجدل مع كل التيارات الأممية، ومنها التيارات السياسية الدينية، أكَّد الحزب على أن «الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة واحدة، وتكافح سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية». على أن « يجلى عن الوطن العربي كل من دعا أو انضم إلى تكتل عنصري ضد العرب وكل من هاجر إلى الوطن العربي لغاية استعمارية».
ومن أجل أن يتساوى مواطنو الدولة بالحقوق والواجبات اعتبر دستور الحزب أن «حرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفن مقدسة لا يمكن لأية سلطة أن تنتقصها». و« قيمة المواطنين تقدر، بعد منحهم فرصاً متكافئة، بحسب العمل الذي يقومون به في سبيل تقدم الأمة العربية وازدهارها دون النظر إلى أي اعتبار آخر». كما أكَّد على أن «تمنح حقوق المواطنين كاملة لكل مواطن عاش في الأرض العربية وأخلص للوطن العربي وانفصل عن كل تكتل عنصري».
فعلى تلك الأسس يطمئن كل صاحب مذهب على مذهبه، وكل من اعتقد على معتقده، فالدولة الوطنية حريصة على حمايتهم، وعلى مساواتهم بالحقوق والواجبات، ومنها تصبح حماية سيادة الدولة القومية أو الوطنية من واجبات جميع المواطنين، والاستقواء بأية قوة خارجية تُعتبر تهمة يعاقب عليها القانون بـ«الخيانة العظمى».
إن الرابط القومي، أو الوطني، إذا نال قسطه من الاهتمام تربوياً، سيكون النقيض الأساس لكل رابط آخر، وستُعتبر الحدود الجغرافية من الأسس الثابتة التي تجعل جميع الذين يسكنون عليها شركاء في الدفاع عنها وحمايتها. وخارج هذا المفهوم ستبقى الدعوات الأممية السياسية مناقضة للمفاهيم القومية تجيز لمواطن الدولة المدنية الحديثة أن يرتكب جريمة الخيانة الوطنية العظمى، لأن المخدوعين بتلك الدعوات سيفتقدون أي شعور بالانتماء إلى وطن، بل إلى إيديولوجيات لا تعترف بالقيم الوطنية، بل هي لا تنتمي إلى مكان بل إلى أيديولوجيا عابرة للحدود. ومن هنا نعتبر أن كل الدعوات الأممية السياسية دعوات لا تمت إلى الروابط الوطنية أو القومية بأية صلة. وحتى لا نُفهم بأن الحزب يدعو إلى شوفينية قومية، وكي لا تتحول حدود القوميات إلى مراكز للتعصب والشوفينية، تأتي مسألة التمييز في تعريف الأممية لتزيل مخاوف الخائفين.
كما للعولمة وجوه سلبية، ووجوه إيجابية، فللأممية كذلك. وما يزيل الالتباس بين تلك الوجوه هو تعريف مضامينها.
فالعولمة أو الأممية لها أبعاد إنسانية، وهي القيم العليا، أو المُثُل العليا، التي تشكل جامعاً بين شتى شعوب العالم، على شتى تعددياتهم الدينية والسياسية والاقتصادية، ستبقى الحصانة الوحيدة والأكثر ضماناً لمنع الشوفينية القومية، وكذلك التعصبية الدينية والمذهبية الدينية، من أن تتسلل إلى المجتمعات القومية، بل تبقى العامل الأكثر واقعية في فتح جسور التفاعل بين الشعوب على مستوى رفد الحضارة الإنسانية بكل عوامل التوحد ومنع الحروب والصراعات أو التخفيف من آثارها السلبية. ومن هنا لا تتناقض الدعوة إلى القومية مع الدعوة إلى أممية تقودها مفاهيم القيم العليا المطلقة، سواءٌ أكانت قيماً إنسانية نصّت عليها الكتب الدينية المقدَّسة، أم كانت أعرافاً وتقاليداً وأفكاراً، تناقلتها الحضارة الإنسانية عبر تطورها المعرفي عبر التاريخ.
سابعاً: المقاومة الوطنية العراقية تعيد للفكر القومي، نظرية وعملاً، حيويته وأهميته
وكما أن فكر البعث عبَّر عن أهمية الرابط القومي، على قاعدة من مفاهيم الأممية الإنسانية، جاء المنهج السياسي الاستراتيجي للمقاومة الوطنية العراقية ليؤكد على أهمية النضال ضد الاستعمار من داخل تجربة ميدانية تدور على أرض العراق، وفيها ربط العلاقة بين واجب تحرير العراق من الاحتلال وواجب مشاركة كل العراقيين في التحرير. وعلى هذا الأساس وعد المنهج بـ« باستمرارية المقاومة طالما كان هناك احتلال وبأي صيغة وعلى أي جزء من أرض العراق»، ودعا إلى «تعميم المقاومة المسلحة على أرض العراق كلها وبفعل ومشاركة العراقيين كلهم، والتأكيد على واجبهم وحقهم المتكافئين في المقاومة وتحرير العراق تحت أي عنوان أو مسمى».
وكما وعدت قيادة المقاومة باستمرارية المواجهة فقد أوفت بوعدها، وكما دعت إلى تعميمها فهي اليوم تشمل كل الأطياف الدينية والسياسية، وتغطي كل الساحة العراقية، كما هي حريصة على تعميق العمل الجبهوي من دون أية شروط إلاَّ التفرغ لقتال المحتل حتى طرده نهائياً من العراق.
وهكذا، وبعد أن انتظر الناعقون إعلان وفاة الفكر القومي العربي، وبعد أن أصاب الوهن التيارات القومية العربية، جاءت المقاومة الوطنية العراقية لتعيد الحيوية للتيارات القومية والشارع العربي لتعلن أن الحل الوحيد للأمة على المستوى السياسي عليه أن يمر عبر المشروع التوحيدي الشعبي العربي وليس عبر الأنظمة الرسمية، وهذا عليه أن يوظف الطاقات الشعبية في مقاومة الاستعمار والصهيونية عبر «الكفاح الشعبي المسلح». وبهذا على التيارات القومية العربية أن تحضِّر نفسها لملاقاة نتائج نضال تلك المقاومة، وتعمل على استثمارها في إعادة الحيوية السياسية والفكرية للمشروع القومي العربي. وعلى التيارات الأخرى التي ناهضت ذلك المشروع، أو أظهرت العداء له، أن تعيد حساباتها بعد أثبت الواقع أن مشاريعها السياسية لن تلبي حاجات القومية العربية في التحرر والوحدة، ومن هو عاجز عن تلبية مصالح أمته وقومه فلن يكون إلاَّ عاجزاً عن تحقيق آماله الأممية، أو قل أوهامه السياسية الأممية. وما هو مطلوب منها على الأقل أن تترك مواقعها العدائية ضد من أثبت أنه بالفعل يشكل صمام الأمان في الدفاع عن الأمة والجماهير وحمايتها. ولم ينزلق، كما انزلقت هي، إلى متاهات خيانة سيادة الشعب العربي على أرضه وموارده تحت حجج أممية واهية. وهذه تجربة العراق تشكل الدليل الأكبر. فعسى أن تعود تلك التيارات إلى رشدها، وتشارك في طرد الاستعمار والصهيونية أولاً كخطوة ضرورية وواجبة على طريق الحوار بين أهل البيت الواحد بعد أن يطمئنوا على تحريره بشكل كامل.
-->

ليست هناك تعليقات: