الخميس، فبراير 25، 2010

المشهد في العراق في شهر شباط 2006

-->
--> -->
المشهد في العراق في شهر شباط 2006
تتراكم الاستحقاقات المطلوبة من الإدارة الأميركية، والوقت يضيق أمامها، وقد أصبحت في عجلة من أمرها، فهي على أبواب انتخابات الكونجرس في تشرين الثاني القادم، تخشى مع إجرائها أن يخسر الحزب الجمهوري الأميركي الحاكم الكثير من مقاعده بسبب العدوان على العراق واحتلاله.
ذلك العدوان كان مسكوتاً عنه أميركياً بسبب ما غرسته إدارة جورج بوش من أوهام دفعت بالأميركيين إلى التغاضي عن جريمة العدوان لأن غيومه ستمطر خيرات النفط العراقي على أراضي الإمبراطورية الأميركية، فينعم بها الشعب الأميركي.
وبدلاً من ذلك دفعت الدم الغزير، ولا تزال، واستنزف العدوان مئات المليارات، إذا لم تكن آلافها، من جيوب الأميركيين. إن حالات الإنفاق على الحرب ستضع الميزانية الأميركية، عاجلاً أم آجلاً أمام حدود الإفلاس. والدلائل تشير إلى أن الإدارة تغطي العجز بطبع كميات كبيرة من الدولارات التي قد تصبح شيكاً بلا رصيد.
وهي أيضاً أمام استحقاق تقديم ما وعدت به الدول، التي تساعدها على تغليف احتلالها بغطاء شرعي دولي، بحصة في «كعكة العراق»، على قاعدة إنجاز الموجبات المطلوبة منها في القرار 1546، وهي مرغمة على إنجازها، من أجل استصدار قرار آخر يحدد حصص شركائها المتواطئين. تلك الحصص ستكون قائمة على واجب تشكيل حكومة جديدة، يسبغ المتواطئون عليها صفة «الشرعية»، وعندها يتم التعاقد معها باتفاقيات اقتصادية لا يبدو أنها ستكون كلها من نصيب الشركات الأميركية، بل لا بدَّ من أن يكون لتلك الدول حصة فيها.
كلها مآزق ترغم الإدارة الأميركية على التفتيش عن بدائل تخفف فيها خسائرها في العراق، حتى لو دفعت جزءاً مما كانت تعتبره حصتها لوحدها من دون شريك. ويصح أن نطلق على تلك البدائل مسخ احتلال العراق من احتلال أميركي مباشر إلى احتلال مقنَّع تسهم في حمايته الدول الكبرى المتواطئة، وتلعب فيه بعض الأنظمة العربية والإسلامية دور الحارس الذليل.
ذلك هو الواقع الذي تعمل الإدارة على معالجته، وأخذت بدائل الاحتلال المباشر للعراق تتَّضح أكثر. وهذا ما سوف نلقي عليه الأضواء في تحليلنا الإخباري. وقد ظهرت جملة من الوقائع والاستحقاقات في شهر شباط الفائت، ومن أهمها:
أولاً: الرئيس صدام حسين يستأنف محاكمة الاحتلال وعملائه:
استأنفت محكمة العملاء الأميركيين تمثيل مسرحية محاكمة الرئيس صدام حسين ورفاقه بجولتين اثنتين، الأولى بتاريخ 13-14/ 2/ 2006، والثانية في 28/ 2/ 2006، وكمثل الجولات السابقة كان مسرح المحكمة معقود اللواء للرئيس صدام حسين والمناضل برزان، واستكملها المناضل طه ياسين رمضان بوقفات جريئة تعبِّر عن حقيقة المناضلين البعثيين.
لقد أجمعت، حتى وسائل الإعلام الأميركية أن الإدارة وقعت في مأزق إعلامي، فهي في الوقت الذي أعدَّت فيه مسرح المحاكمة لإذلال الرئيس ورفاقه، وجدت نفسها أنها قد وقعت في حفرة المأزق الذي كانت تخطط لإيقاع المناضلين فيها. ولهذا شكَّلت المحكمة مأزقاً إعلامياً لها، باتت من جرائه واقعة في حيرة من أمرها في متابعتها أو توقيفها، وهما خياران أحلاهما مر.
كما أجمع حقوقيون، ورجال قانون، وأخصائيون أن في المحاكمة زاويتين مهمتين، وهما:
زاوية استجمع فيها الرئيس كل شجاعته ونضاليته، وهما حقيقتان يسمان شخصيته الإنسانية والحزبية، وحوَّل المحكمة التي عُقدت لمحاكمته إلى منبر إعلامي حاكم فيه الاحتلال الأميركي بدءاً من رئيس الإدارة الأميركية، مروراً بالمؤسسات السياسية التي صنعها الاحتلال، وصولاً إلى أصغر عميل في المحكمة وقوات الشرطة.
أما الزاوية الأخرى، فكانت في الإجماع على الطعن بالديموقراطية الأميركية واعتبارها زائفة. وظهر الإجماع من خلال تقارير الحقوقيين، وبالأخص منهم الأميركيون، والعرب، ناهيك عن الشرفاء من المحامين العراقيين الذي أصروا على متابعة مهمتهم الوطنية والأخلاقية، بكل شجاعة وتحد، وتابعوا القيام بها على الرغم من كل التهديدات بالقتل التي نُفِّذت فعلاً باثنين منهم على أيدي قوى الشر والخيانة .
تلك الحقائق لم يكن لها مثيلاتها في محاكمات التاريخ بالجرأة والشجاعة. وستكون نتائجها شبيهة بمحاكمة غاليله العالم الإيطالي الذي عارض الكنيسة بقوله إن الأرض كروية، وهي عندما أصدرت حكمها عليه قال: «على الرغم من ذلك فإنها تدور». فتماثلاً بتلك المحاكمة ونتائجها، ورداً على الصوت الخفي الذي همس في المحكمة قائلاً: سكتوه بالقوة !! فقد اتهم الرئيس صدام حسين رئيس المحكمة قائلاً: «أنت تعمل بتكليف من بريمر. لن نسكت حتى إذا ضربت رأسك بالشاكوش الذي بيدك». أما الأسير المناضل برزان فهتف: «يعيش البعث العظيم».
وكما أثبت العلم أن الكنيسة كانت على خطأ فقد ظلَّت الأرض تدور، كما أعلن غاليله. سيثبت التاريخ أن الاحتلال سوف يزول، وأن عملاءه خونة. وسيبقى العراق والبعث العظيم عظيماً كما أعلن المناضلون في وجه محكمة الاحتلال وعملائه.
ثانياً: بعد مأزقها العسكري والأمني في العراق، إدارة جورج بوش عالقة في مأزق تشكيل حكومة عميلة جديدة:
لقد أنجزت إدارة الاحتلال الأميركي الاستحقاق الأخير من موجبات القرار 1546 في الخامس عشر من كانون الأول 2005. وراحت تعد العدة لقطف ثمار جهودها من أجل تشكيل حكومة جديدة. وقد تواجهت بجملة من العوائق التي حالت، وستحول، دون قطافها الكامل لنتائج الانتخابات، ومن أهم تلك العوائق هي التالية:
خططت إدارة جورج بوش لأن تصب شراكتها مع النظام الإيراني في مصلحتها، فهي كانت تضمر «خلع صاحبها» في الوقت المناسب. كما كان النظام الإيراني يضمر «خلع صاحبه» أيضا لينال حصته في اقتطاع جزء من العراق يحقق فيها مشروعه الإيديولوجي. فكان تحالفهما هو أن يستقوي كل منهما بالآخر على نية نحر العراق وذبحه والاستفادة من خيراته لكن من دون الاتفاق على حجم الحصص التي سينالها كل من المتواطئيْن.
أما انتخابات 15/ 12/ 2005، فكانت الاستحقاق الأساسي الذي راهن عليه الحليفان. بحيث عمل كل منهما من أجل إيصال أكثرية نيابية تساعده في تشكيل حكومة تستجيب لمصالحه، خاصة وأنها ستتولى حكم العراق لسنوات أربع قادمة، وبها ومعها سيتم التفاوض مع المجتمع الدولي لرسم مستقبل العراق. وعلى قاعدة أن من يمتلك قوة التأثير في الحكومة ستنعكس تأثيراً مماثلاً في رسم مستقبل مصالحه.
ولأن التمثيل النيابي، مبنياً على مقاييس الدستور / الفضيحة، سيتم بناء لتقسيمات مذهبية وعرقية، وظَّف النظام الإيراني كل إمكانياته السياسية والمالية والأمنية لمصلحة عملائه كي يصلوا بزخم إلى «المجلس النيابي»، وهذا ما أدَّى إلى إسقاط العلمانيين من «عراقيي المخابرات الأميركية»، على الرغم من أنهم أمروا حكام السعودية بالتفاوض مع بعض القوى السنية في العراق من أجل إحداث توازن مذهبي مذهبي في انتخابات 15/ 12/ 2005. وعلى الرغم من استقطاب بعض القوى السنية في ما سًمِّي بـ«مؤتمر المصالحة» في القاهرة، إلاَّ أن ذلك لم يفِ بالغرض. وبهذه النتائج حصل الخلل في الحسابات الأميركية. وأصابتهم الخشية من أن يفلت زمام الأمور من أيديهم.
بمثل تلك النتائج استفاد النظام الإيراني من عاملين لتعزيز حصته في التمثيل النيابي، وهما: ثبات حصته في البيئة الشيعية التي تم تأهيلها للمشاركة في الانتخابات، والتي ازدادت قوة بامتناع السنة عن المشاركة الكافية، كما خطط النظام السعودي، لتوفِّر التوازن المطلوب. فحصل النظام الإيراني على أكثرية نيابية، وأعطته أرجحية في تشكيل حكومة تخدم مصالحه وتستجيب لإملاءاته. ومن هنا ابتدأ المأزق السياسي الأميركي. فحصل التجاذب، ولا يزال، ولن يكون حكماً في مصلحة الإدارة الأميركية للأسباب التالية:
بين النظام الإيراني والإدارة الأميركية افتراقات من أهمها:
-استقطاع حصة ثابتة للنظام الإيراني قي مؤسسات الدولة العراقية تتيح له البدء في تحقيق حلمه «الإلهي» ببناء الدولة الإسلامية العالمية تكون نواتها الأولى امتداده في جنوب العراق.
-الملف النووي الإيراني، وهو أحد سُبُل امتلاك النظام الإيراني قوة كافية من أجل حماية مشروعه السياسي.
تلك الافتراقات عوامل تضيف إلى مآزق الإدارة الأميركية مأزقاً إضافياً. فهي في موقع حرج لأنها تقف بين حلين أحلاهما مر: إما صفقة مع النظام الإيراني تسمح له بمتابعة برنامجه النووي، وفي مقابلها تُبعد أمن قواتها في جنوب العراق عن ابتزازه. وإما استكمال الاشتباك معه بالإصرار على إيقاف مشروعه النووي، وبه تعرِّض أمن قواتها لعامل مقاومة جديد في جنوب العراق. فهل لدى الإدارة الأميركية مخرج من هذا المأزق؟
تراهن الإدارة على وساطة روسية. وتدخلت الإدارة الروسية وتوصَّلت إلى اتفاق مبدئي مع إيران على انشاء شركة لتخصيب الأورانيوم الايراني في روسيا، وهو ما تؤيده واشنطن لأنه يؤدي الى تبديد مخاوفها من نية طهران امتلاك سلاح نووي، تحت ستار برنامج مدني. وعلى الرغم من أن تفاصيل الاتفاق لم تُعلن، أو انها لم تُبحث حتى كتابة هذا التقرير، نرجِّح ان يصل الطرفان الإيراني والأميركي إلى حلول وسط تُهدِّئ حدة الاشتباك بينهما مرحلياً. فحاجة الطرفين للانتهاء من ملف تشكيل حكومة عراقية حاجة مشتركة، تفوق أهميتها في هذه المرحلة ملف إيران النووي. وقد يكون نجاح الوساطة الروسية في التوفيق بين الطرفين أنموذجاً لتوافق آخر في توزيع الحصص في العراق، من خلال التوافق على تشكيل حكومة عراقية تستجيب لمصالحهما معاً. وتلك فرصة ستعمل الإدارة الأميركية في وقتها الضائع من أجل توفير قوى نظامية عربية وإسلامية لكي تملأ الفراغ الذي سيحدثه الانسحاب الأميركي الجزئي لحماية جنود الاحتلال، إما بإعادتهم إلى بلادهم قبل استحقاق انتخابات الكونجرس، وإما بتوطين من سيبقى منهم في قواعد عسكرية آمنة تتوهَّم أنها ستبعدهم عن خطر عمليات المقاومة العراقية.
قد يقد يقترب هذا السيناريو من الواقعية خاصة إذا تمَّ تدعيمه بإسناد سياسي أوروبي من خلال مجلس الأمن. وبه تُبعد الإدارة قواتها عن مرمى الخطر المباشر، وتضع بديلاً لها قوات عسكرية عربية وإسلامية مدعومة بقرار سياسي أممي، فتصيب هدفين معاً، وهما: مراهنتها على أن القوات العربية والإسلامية بالتعاون مع قوات الحكومة العراقية ستُمسك بالأمن فتوفِّر على نفسها فاتورة الدم، وتزرع لها أنياباً تُبعد عنها ابتزاز النظام الإيراني لأمن قواتها، ذلك الابتزاز الذي يستخدمه النظام المذكور في سبيل تحصيل أكثر ما يمكن من المكاسب في العراق وغيره.
أياً تكن السيناريوهات أو الفرضيات لحل الاشتباك الحاصل بين حليفيْ الأمس فإن الوصول إلى نتائج توفيقية ليست بالهدف السهل. ولكنها ليست بالمستحيلة فكل منهما يساوم الآخر ويبتزُّه. وجلَّ ما نقوله هو أن تناقض مصالح حلفاء الأمس ضد العراق سيُنتج متغيرات جديدة، وسيُضيف عوامل جديدة تصب، بشكل غير مباشر، في مصلحة المقاومة العراقية. فالاشتباك الحاصل الآن سيُضعف الاحتلال من جهة، كما أنه لن يضع النظام الإيراني في موقع القوة من جهة أخرى، ففي حده الأدنى سيكون إضعافاً للحليفين اللدودين معاً. فهل في مثل هذا الاحتمال ما يمكن أن تستفيد منه المقاومة العراقية؟
ثالثاً: سيناريو بدائل الاحتلال الأميركي المباشر: إدخال الجيوش العربية إلى العراق تجري على قدم وساق
بداية لا نرى في التدخل العربي ما يتناقض مع ثوابت المقاومة العراقية، لأن التدخل العربي، مهما كان أعرجاً، له الأولوية في إيجاد حلول للمشاكل العربية، كما من مهماته المشاركة في الدفاع عن أية أرض عربية والالتحام مع أخوته في معارك الدفاع عن أرضهم. ولكن لمثل هذا التدخل شروط وثوابت، ومن أهمها، أن تتكامل الأدوار العربية مع ثوابت مواجهة مصالح الاستعمار والصهيونية كونهما يمثلان التناقض الرئيسي ضد مصالح الأمة العربية. وهذه الشروط غير متوفرة في المهمة التي ستُنتدَب لها تلك القوات.
تتصاعد إعلانات اختبار ردود الفعل وتتكاثر حول إمكانية إرسال قوات عربية وإسلامية نظامية إلى العراق المحتل. تلك الإعلانات تثير التساؤل حول أسبابها وأهدافها ونتائجها. وسنحاول أن نلقي بعض الأضواء عما هو مكشوف منها أو مستور.
عندما وقعت قوات الاحتلال الأميركي في أكثر من ورطة ومأزق، انصاعت الإدارة الأميركية، بناء لنصائح مؤسساتها السياسية والأمنية التي دعتها إلى إكساب وجودها في العراق غطاءً دولياً، لتلك النصائح، وهي مُكرهَة. فطلبها الحصول على المساعدة الدولية يعني أن ما كانت تعتبره حصتها الكاملة في العراق ستتوزَّع كإغراءات لمصالح الدول التي سترضى أن تقدم لها مساعدة تتجاوز بها ورطتها ومأزقها. فاستجاب بعض الدول لطلبها بشرط أن تنال حصتها في «كعكة العراق»، وصدر القرار 1546، وبه خفَّفت إدارة بوش الإبن الضغوط الدولية الممانعة لعدوانها على العراق واحتلاله. فكان القرار المذكور صفقة سياسية في مقابل سلة من الوعود الاقتصادية.
ولأن تلك الصفقة لم تشمل تقديم مساعدة عسكرية أو مالية للاحتلال، فقد ظلت الإدارة الأميركية تتحمل وزر عملها العدواني بدفع فواتير الدم والمال، ولأنها باهظة الثمن فقد ظلَّت تحتاج إلى ما يساعدها على التوفير منها. فهل نجد في بنود مجلس الأمن الرقم 1546 ما يوضِّح لنا سيناريو ما بعده؟
في بنود الصفقة ألغى القرار المذكور عن القوات الأميركية صفة الاحتلال، إذ رحَّب مجلس الأمن الدولي «ببدء مرحلة جديدة، إذ يتطلع تحقيقا لهذه الغاية إلى إنهاء الاحتلال وتولي حكومة عراقية مؤقتة مستقلة وتامة السيادة لكامل المسؤولية والسلطة بحلول 30 حزيران/يونيه 2004 ». وفي مقابل ذلك حفظت الدول المتواطئة مع الاحتلال حقها بعدة مواد تضمَّنها القرار 1546، وفيها كبَّلت الاحتلال بضرورة إنجاز موجبات حسب جدول زمني ينتهي بـ«قيام حكومة منتخبة انتخاباً دستورياً بحلول 31 كانون الأول/ديسمبر 2005».
ماذا يعني هذا التكبيل؟
من خلال مواد القرار المذكور انتقلت قوات الاحتلال إلى «قوات متعددة الجنسيات»، مما أراحها من عبء الالتزام بالكثير من القيود التي عليها أن تراعيها كدولة محتلة، وألقاها في رقبة الحكومة العراقية. وفي المقابل كبَّلها بعدد من القيود، في أكثر من مجال:
-حقوقي دولي: حينما ألزمها بمهمة «صون الأمن والاستقرار في العراق وفقا للقانون الدولي، بما في ذلك الالتزامات المقررة بموجب القانون الإنساني الدولي». ففي النص تحذير من أن الدول الموعودة بحصة من «كعكة العراق»، تلوَّح للاحتلال الأميركي، في الحالة التي تتنصل أميركا من التزاماتها غير المعلنة، بإشهار سيف هذا النص تحت طائلة كشف ما يرتكبه الاحتلال الأميركي من جرائم.
-وحقوقي اقتصادي: وقد ألزمها بـ«تأكيد حق الشعب العراقي في السيطرة على موارده الطبيعية». وفيه تهديد أيضاً بمنع الاعتراف بأية اتفاقات اقتصادية ستعقدها الإدارة الأميركية مع أية حكومة عراقية، تحت طائلة اعتبارها غير شرعية.
-وحقوقي أمني: حينما ألزمها بأن «تكفل تحقيق شراكة كاملة بين القوات الأمنية العراقية والقوة المتعددة الجنسيات، من خلال التنسيق والتشاور على نحو وثيق». ولهذا دعا «الحكومة لتكوين القوات الأمنية العراقية بما فيها القوات المسلحة العراقية والتي ستؤدي دورا متزايدا بصورة تدريجية وستتولى في نهاية المطاف المسؤولية الكاملة عن صون الأمن والاستقرار في العراق».
-وحقوقي تنفيذي بتعزيز دور الأمم المتحدة، وذلك عبر إلزام قوات الاحتلال الأميركي بجدول زمني «يشمل إجراء انتخابات ديمقراطية مباشرة في موعد لا يتجاوز 31 كانون الثاني/يناير 2005، لتشكيل جمعية وطنية انتقالية، تتولى تشكيل حكومة انتقالية وصياغة دستور دائم تمهيدا لقيام حكومة منتخبة انتخاباً دستورياً بحلول 31 كانون الأول/ديسمبر 2005».
-وربط استمرار قوات الاحتلال بقرار دولي آخر «بعد مضي إثنى عشر شهراً من تاريخ اتخاذ القرار، على أن تنتهي الولاية لدى اكتمال العملية السياسية المبينة في الفقرة 4». على الأسس التالية:
أولاً: من خلال المادة (13) يعطي للأمم المتحدة دوراً مميزاً في «إنشاء كيان قائم بذاته في إطار القيادة الموحدة للقوة المتعددة الجنسيات تقتصر مهمته على توفير الأمن لوجود الأمم المتحدة في العراق».
ثانياً: من خلال المادة (14) ألزم (القوة المتعددة الجنسيات)، أي قوات الاحتلال، بالمساعدة على «بناء قدرة القوات والمؤسسات الأمنية العراقية، من خلال برنامج للتجنيد والتدريب والتجهيز».
ثالثاً-من خلال المادة (15) بطلبه «إلى الدول الأعضاء والمنظمات الدولية والإقليمية تقديم المساعدة للقوة المتعددة الجنسيات، بما فيها القوات العسكرية، للعمل على تلبية احتياجات الشعب العراقي إلى الأمن والاستقرار ... ودعم جهود بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى العراق».
رابعاً-من خلال المادة (31) بتقديم «تقرير كل ثلاثة أشهر» للاطلاع على سير الأمور، على أن يُبقي مجلس الأمن «المسألة قيد نظره الفعلي»، كما نصت عليه المادة (32).
نقرأ نظرياً في مضمون القرار 1546 أن الدول التي ساندت قوات الاحتلال سياسياً، ولكي تضمن مصالحها، كبَّلت الإدارة الأميركية بعدد من القيود عندما عزَّزت دور الأم المتحدة، وهو عامل لم يكن له أية أهمية في جدولة الإدارة للسيطرة على العراق في بداية العدوان وبعد الاحتلال بقليل، فدخلت الدول الأعضاء شريكاً، سيظلُّ مؤثراً طالما استمرت الإدارة الأميركية عاجزة عن حماية جنودها.
إن قراءة للقرار 1546، في هذه المرحلة بالذات، تدل على أن الإدارة الأميركية في عجلة من أمرها، لمواجهة حلفائها في مجلس الأمن بعد أن انتهت مفاعيل القرار 1546 من جهة، ولمواجهة استحقاق انتخابات الكونجرس في الخريف القادم من جهة أخرى. وبينما ترى نفسها عاجزة عن فرض الأمن، حتى بمشاركة القوات الأمنية العميلة التي تقوم بإعدادها، أصبحت حاجتها ملحة، أكثر من أي يوم مضى لتفعيل المادة (15) من القرار 1546.
ولأن الدول المتواطئة مع الإدارة الأميركية لن تقدِّم دعماً عسكرياً خوفاً مما أخاف جنود الاحتلال الأميركي، ومن أجل توفير المستلزمات العسكرية المنصوص عليها في الفقرة (15)، تجري المحاولات على قدم وساق لإرغام الدول العربية أولاً، والدول الإسلامية ثانياً، لتوفير العدد اللازم من الجنود المطلوب دخولهم إلى العراق تحت قبعات «القوات المتعددة الجنسيات».
وفي مثل هذا الطلب مأزق آخر، لأكثر من سبب، وأهمها إثنان: الأول هو المأزق الذي ستواجهه حكومات النظام العربي الرسمي أمام شعوبها، والثاني معطوف على الأول هو أن المقاومة العراقية قد حذَّرت من أي دخول إلى العراق على قاطرة حماية الاحتلال الأميركي وإنقاذه من مأزقه. وفي مواجهة هذا الاحتمال حدد المنهج السياسي الاستراتيجي للمقاومة أسس التعامل مع النظام العربي الرسمي بـ«تعطيل الأدوار المحتملة لأنظمة عربية متآمرة انطلاقا من مطلبيتها بالتعامل مع واقع الاحتلال وإفرازاته، وحرق أصابع تلك الأنظمة في تعاملها المخطط والمحتمل مع الشأن العراقي، وعكس ذلك على أزماتها السياسية والاقتصادية والأمنية المعاشة».
ليست أبواب الحل مقفلة من حيث إقناع الأنظمة العربية أو إرغامها على إرسال جيوش عربية إلى العراق، ولكنها ليست مفتوحة أيضاً، وإنما حالة الإرباك والحيرة هي ما تعيشه تلك الأنظمة، فتهديد سيدها الأميركي أمامها، والصدام مع شعوبها ماثل وراءها. فهي تقدِّم رجلاً وتؤخِّر أخرى، كما ينتظر بعضها من يدق الجرس، فلم يتوفر لمثل تلك المهمة إلاَّ الأمين العام لجامعة الدول العربية للقيام بدعوة الأنظمة العربية لإرسال جنود إلى العراق. وعلى العموم فإن تلك الأنظمة تعيش مأزقها الفعلي، فهي بين نارين مشتعلتين:
-الأولى أنها أمام مواجهة مع الشعب العراقي وطليعته المقاومة العراقية، إذا ما أرسلت جنودها إلى العراق لحماية القواعد الأميركية.
-أما الثانية فهي أمام اختراق إيراني مخيف للعراق، وهو ما جعل الخطر الإيراني أكثر قرباً، إذا لم يكن قد اخترق تلك الحواجز إلى عمق النسيج الاجتماعي والإيديولوجي لدول الخليج.
فهي في كلتي الحالتين ستشكل حماية للاحتلال في مواجهة المقاومة العراقية، كما ستشكل حماية له في مواجهة مرحلة التناقض بين الحليفين الأميركي والإيراني. فهل يكون التدخل النظامي العربي حطباً لنار الصراع الأميركي الإيراني على أرض العراق؟
إنها أسئلة وإشكاليات، حسمها الاحتلال الأميركي بوجوب التدخل العربي لحمايته. ولكن هل من الممكن أن تجد حكومات النظام العربي الرسمي حسماً لواقع الحيرة والارتباك في مؤتمر القمة العربية التي ستنعقد في الخرطوم في أواخر شهر آذار؟
أما الطرف الإيراني، فيعمل على جرِّ المنطقة كلها إلى حرب أخرى بينه وبين العرب، وفيها استراحة للإدارة الأميركية من حالة الإنهاك التي عمَّقتها المقاومة العراقية، ولا تزال تعمَّقها.
فهل يستطيع النظام المذكور أن يسحب الذرائع الأميركية، ويقوم بتعطيل شباكها وأحابيلها، بالعودة عن الحلم الخطير الذي يدور في رؤوس آياته؟
لم تفت الفرصة التاريخية من أمامه، لأن الحل لن يكون خارج وحدة العراق أولاً، وخارج وحدة قومية عربية تمتلك كل إمكانيات المواجهة مع الاستعمار والصهيونية ثانياً، والمخرج من النفق المظلم بداية هو أن يوظِّف النظام الإيراني إمكانياته، التي يضعها في خدمة اقتطاع فيدرالية في العراق، ويوجهها إلى مقاومة الاحتلال الأميركي. وبهزيمة المشروع الأميركي في العراق مكسب مهم لكل دول المنطقة وشعوبها. فلعلَّ وعسى.

ليست هناك تعليقات: