الخميس، فبراير 25، 2010

بعد هزيمته العسكرية في العراق:

--> -->
بعد هزيمته العسكرية في العراق:
المشروع الأميركي في مرحلة التراجع الفكري والسياسي
وهي قمة السقوط التي تسبق الانهيار التام
11/ 5/ 2006
قبل أي شيء آخر لا بدَّ من أن نرفع المقاومة المسلَّحة إلى مرتبتها التي تستحقها، فهي أعلى الأساليب في مكافحة الاحتلال وطرده من الأرض التي احتلها. ثم تليها الأساليب الأخرى من سياسية وفكرية وإعلامية. فأول غيث تقديرنا يقتضي أن تنهمر التحيات كل التحيات إلى المقاتلين بالبندقية والعبوة الناسفة. فللمقاومين العراقيين، على شتى مراتبهم وتعددياتهم نرفع التحية الكبرى قبل أن نبدأ بصياغة المعادلات النظرية التي لولاهم لما كُتبت الحياة لنظريات المنظرين، وأفكار المفكرين، وإعلام الإعلاميين.
فإذا كانت التراكمات الجزئية تنتهي بتحول نوعي، فلا بد أن مظاهره ووقائعه قد ابتدأت في معادلة الصراع بين المقاومة العراقية والاحتلال الأميركي لصالح رجحانه لصالح المقاومة. لقد ابتدأت التراكمات منذ بداية الاحتلال بعد أن أثخن المقاومون جسد الاحتلال بالجراح، وأدَّبوه عسكرياً بما لا يليق بأكبر قوة عسكرية في تاريخ العالم المعاصر. ولمثل هذا السبب الذي يكمن في عنجهية الإدارة الأميركية التي تخشى الاعتراف به، فهي تحاول جاهدة، بمساعدة أهم المخرجين النفسيين والاجتماعيين، لتجميل وجه الهزيمة بشتى أنواع المساحيق. ولهذا نستنتج بأن موازين الحرب الدائرة تؤكد إعلان النصر العسكري للمقاومة العراقية ضد جيوش الاحتلال الأميركي والصهيوني.
ليس نصر المقاومة العراقية وهماً شبيهاً بالنصر المزعوم الذي أعلنه جورج بوش في الأول من أيار من العام 2003، بل هو النصر الحقيقي الذي فرض نفسه في مظاهر الخلل السياسي والفكري الذي أصاب جسد الإدارة الأميركية بندوب عميقة، وهذه هي تداعياته تظهر في أكثر جانب وجهة. أما وقائعه فهي التالية:
لقد ترافقت ثلاثة انعطافات أساسية مع بعضها البعض الآخر، وتجمَّعت آثارها ونتائجها على التوالي، وهي:
الأولى: الانهيار الفكري والسياسي لمنظومة الأميركيين اليمينيين المتطرفين الجدد، والإرباك السياسي العسكري في الإدارة الأميركية.
الثانية: الانهيار العسكري والسياسي في داخل التحالف الدولي الذي جمعته إدارة جورج بوش لتأييد وتدعيم احتلالها للعراق، وإذا كانت معالم الانهيار قد بدأت من إسبانيا منذ أواخر العام 2003، فإنها مرَّت بتداعيات تمثلَّت بانسحابات لدول ضعيفة سياسياً وعسكرياً، والتداعيات المؤثرة تحصل الآن في داخل أهم حلفاء إدارة جورج بوش وأكثرها تأثيراً، وتمثلها إيطاليا وبريطانيا:
1-سقوط إدارة برلسكوني، رئيس وزراء إيطاليا السايق، تحت ضربات الضمير الإيطالي في الانتخابات الأخيرة.
2-في الانهيار السياسي الذي عشَّش في إدارة طوني بلير، والذي لم ينفعه التجديد له في الانتخابات السابقة.
واستطراداً ليعذرنا الشعب الدانمركي، إذا قلنا لإدارة النظام السياسي في الدانمارك، التي جدَّدت لقواتها سنة أخرى في العراق، بأن الفحول البيض عجزت عن الصمود في العراق، فكيف «الخصية السود». كما ليعذرنا الشعب البولندي إذا سخرنا مما يفعله نظامهم السياسي من تمسكه بالركض وراء جورج بوش من خلال إصراره على إتمام رسالته الإنسانية !! تجاه الشعب العراقي من خلال كذبة وخديعة «إعادة إعمار العراق» إذ تفضح الأخبار بأن السبب ليس إنسانياً تحررياً بل الحماس البولندي الرسمي له ثمن يبلغ ثلاثين مليون دولار. يا بلاش؟!!
الانعطاف الاستراتيجي الأول:
الانهيار الفكري والسياسي لمنظومة الأميركيين اليمينيين المتطرفين الجدد، والإرباك السياسي العسكري في الإدارة الأميركية.
أولاً: الانعطاف الفكري: وهو انعطاف استراتيجي فاصل، فستتراكم عوامله بسرعة قياسية في المرحلة القادمة. وأهميته الاستراتيجية آتية من أن الاندفاعة الأميركية التي ظهرت في مشروع الاستيلاء على العالم بمظهر إمبراطوري يقلِّد الإمبراطوريات الكبرى في التاريخ القديم والوسيط سبقها تبشير فكري إيديولوجي كان من أهم روَّاده، فوكوياما، فيلسوف الاستعمار الأميركي الجديد، الذي روَّج لأفكاره لفترة طويلة. وإن الوقوف عند تحولاته الفكرية لها دلالة عميقة في استشراف آفاق مستقبل الصراع بين المقاومة العراقية والاحتلال الأميركي.
لقد تجمَّدت أفكار فوكوياما السابقة في قاعدة فكرية ثابتة تبشر بأن الرأسمالية هي أعلى سقف في التاريخ يمكن أن ترتقي إليه البشرية، وإن الولايات المتحدة الأميركية هي وحدها التي تستطيع أن تحتل مساحة السقف ذاك.
وعلى الرغم من أن فوكوياما كان أميركياً متميزاً إلاَّ أنه كان يوظِّف تميزه في خدمة الرأسمالية الأميركية بتشجيع منها واحتضانها لأفكاره لأنها هي التي وظَّفته من أجل الترويج لها. وهي التي بوَّأته كرسي المفكر المتميز لتصدِّر من خلال قلمه «حرب الأفكار» كمقدمة ضرورية لتصدير مشروعها السياسي والاقتصادي إلى العالم قاطبة. فهي قد مهدَّت كرسي الإمبراطورية الأميركية بأرضية من الأفكار التي تتناسب معها. ولهذا يحق لنا أن نصف المشروع الأميركي بأنه ليس تعبيراً عن آمال حزب أو طائفة، بل كان، باستثناء معارضة عدد من المفكرين الأميركيين أمثال نعوم تشومسكي وغيره، مشروعاً لكل الطبقة الرأسمالية الأميركية بامتياز.
بعد طول تمهيد وتحضير إيديولوجي، فكري وسياسي. وبعد طول إعداد وإنتاج لأضخم ترسانة عسكرية في التاريخ لدعم المشروع الإيديولوجي وتنفيذه. وبعد طول تنفيذ لتفكيك كل التكتلات الدولية المناهضة، أو المتناقضة مع ذلك المشروع، ومن أهمها الاتحاد السوفياتي سابقاً. وبعد محاولة استبدال منظوماتها السياسية السابقة واجتثاث مناهجها الفكرية والسياسية لبناء منظومة أخرى تستجيب لمتطلبات البنية الفكرية والاقتصادية للرأسمالية الأميركية تحديداً. وبعد اجتياحات واحتلالات، من أجل إنجاح المشروع الإيديولوجي الأميركي. وبعد إنجاز معظم مهام تلك «الأجندة»، أعلن فوكوياما أنه قرَّر التغريد خارج «القفص الفكري» الذي أسر نفسه فيه لعشرات السنين السابقة، وقال عن المتطرفين الأميركيين الجدد: «إنهم، كرمز سياسي، ومجموعة من الأفكار تطور إلى شيء لم يعد بإمكاني دعمه».
علينا أن نتساءل: ما هو السبب الذي أقصى فوكوياما عن دعم المشروع الذي كان موظَّفاً كأبٍ فكري له؟
من منطلق الفرضية الموضوعية نستنتج أن فوكوياما قد غيَّر معادلاته الفكرية لأن معادلاته السابقة أثبتت أنها تحمل خللاً منطقياً. ونردف القول إن هذه النتيجة قد تبدو صحيحة لو كان موقع فوكوياما في دائرة الفكر المجرَّد. ولكن هل هو فعلاً يقف في الدائرة تلك؟
إن فوكوياما ليس مفكراً فلسفياً يدرس الظواهر ليبني منظومته الفكرية على أساسها، أي الوصول إلى الحقيقة من أجل الحقيقة. نستنتج هذا خاصة إذا عرفنا أنه يقف على أرضية مشروع إيديولوجي كان هو نفسه من أهم بناته، ومن أهم مخرجيه النظريين. فهو ابن أمين للمشروع الإمبراطوري الأميركي، وأب عطوف على رعايته حتى يستكمل جوانبه التطبيقية، فالغرضية الإيديولوجية إذاً هي القاعدة التي ينطلق منها فوكوياما. لذا سننظر إلى معالجة موقع انعطافه الفكري استناداً إلى تلك القاعدة. وهنا، نقف لنتساءل: لماذا استفاق دماغ فوكوياما على حقيقة جديدة؟
فلكي نجيب على التساؤل نربط استفاقته بالظرف الذي حصلت فيه.
لم تحصل استفاقته في العدوان على العراق في العام 1991.
ولم تحصل في كل ظروف العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني.
كما كانت بعيدة عن رؤيته عند احتلال العراق في العام 2003. وظلَّت نائمة طوال سنوات ثلاث ذاق فيه العراق كل أنواع الإهانة والتدمير الممنهج، والجرائم المنظَّمة...
لعلَّ تلك الاستفاقة حصلت عندما تكاثرت نعوش الجنود الأميركيين، وعربات المعاقين من جرحاهم، ومصحات المصابين نفسياً منهم، وتكاثرت صيحات أمهاتهم وزوجاتهم، صيحات آبائهم وأولادهم.
لعلَّ تلك الاستفاقة حصلت عندما تعسَّر على جيش إمبراطورية الرأسمالية الأميركية أن يوفِّر الحماية لأنابيب النفط التي كان الأميركيون ينتظرون تدفق البترول منها لتمطر على أرض فوكوياما في أميركا ذهباً وخيرات وفيرة.
لعلَّ تلك الاستفاقة حصلت عندما اتجهت موازين الخلل في مالية الولايات المتحدة الأميركية نحو العجز المستمر الذي يتراكم ويتصاعد طالما ظلَّ الاحتلال الأميركي للعراق قائماً.
بل من المؤكَّد أن المقاومة الوطنية العراقية المسلَّحة هي التي كانت العامل الوحيد الذي لا يزرع كل العوائق في وجه الجيش الإمبراطوري فحسب، بل يزيد من تحصينها عمقاً وارتفاعاً أيضاً. وهي السبب الذي دفع الإدارة الأميركية إلى إعلان استحالة إتمام مشروعها، طبعاً من دون اعتراف بالهزيمة.
وهنا نتساءل أيضاً: هل كانت استفاقة فوكوياما معزولة عن أي عمق أميركي يحتضنها؟
من بديهيات الأمور أن فوكوياما لا ينطلق من استفاقته منطلقاً من فرديته، ومن أمانته الفلسفية المجرَّدة، ولأنه ممثل لمجموعة فهو لن يكون منعزلاً عن عمق يرتبط بتيار في داخل المنظومة الفكرية الكبرى.
إن جون مارثا، السيناتور الأميركي الذي أعلن رفضه للحرب والاحتلال بعد موافقته عليهما، أجاب رداً على جورج بوش الذي وصف موقفه بالفردي: بأنه (أي جون مارثا) يمثل مجموعة كبرى من جنرالات الجيش الأميركي، ومنهم من هو موجود في العراق. وقياساً عليه لا نحسب أن فوكوياما يتجرأ على إعلان متغيراته الفكرية لو لم يكن مدعوماً بتيار يقبع في داخل المنظومة الإيديولوجية التي كان ناطقاً باسمها.
إننا على المتغيرات التي أعلنها فوكوياما نستطيع أن نبني استنتاجات تشير إلى أنه عندما يبدأ العامود الإيديولوجي الفكري بالتخلخل سينعكس تداعيات على البناء بكامله، ولا تحتاج تلك التداعيات ترميماً، فالترميم لن ينفعها، بل إن متغيراً استراتيجياً هو الذي سيحول دون انهيار البنيان بأكمله. ونحسب أن فوكوياما قد أشار بوضوح إليه عندما قال: «أن ما تحتاجه واشنطن الآن أفكارا جديدة تتعلق بعلاقة أمريكا ونسبتها للعالم، أفكار تحافظ على دفاع المحافظين الجدد عن فكرة عالمية حقوق الإنسان ولكن بدون الإيمان بإمكانية تحقيقها عبر القوة العسكرية وتغيير الأنظمة».
لن نتوهَّم بأن المنظومة الرأسمالية الأميركية ستغيَّر من بنيانها الإيديولوجي، ولكن المتغير الاستراتيجي الذي عبَّر عنه فوكوياما هو شديد الأهمية. فهو يستعيد الاستراتيجية الإمبريالية الأميركية إلى مواقعها التقليدية، المستندة إلى تصدير المشروع الأميركي بواسطة التأثير الاقتصادي والسياسي، ملوَّحاً بالقوة ولكن من دون استخدامها. وهذا يعني فشلاً للمشروع الإمبراطوري الذي يتمثل بتصدير الرأسمالية لنفسها بواسطة القوة العسكرية المباشرة.
ليس فرض التراجع على استراتيجية المشروع الإمبراطوري الأميركي قليل الأهمية، بل هو في غاية من الأهمية. أما السبب فعائد إلى أن إرباك حركات التحرر في العالم بمهمة تحرير أراضيها بقوة المقاومة الشعبية المسلَّحة يستهلك عوامل الزمن والإمكانيات النضالية التي بدلاً من أن توظفها ضد احتلال مباشر، يمكن أن توظفها في دفع النضال السلمي في التغيير إلى أمام. سواءٌ أكانت أهدافه تغييراً داخلياً، وطنياً أم قومياً، أم كان مرتبطاً بفرض التراجع على الاستراتيجية الرأسمالية في استغلال الشعوب ونهب ثرواتها.
لقد أشرنا في كتابنا «المقاومة الوطنية العراقية: الإمبراطورية الأميركية بداية النهاية»، الصادر في شهر حزيران/ يونيو من العام 2004، تحت عنوان: «احتلال العراق والانقسام العامودي في المجتمع الأميركي»، ما يلي: «إن جملة المتغيرات التي فرضتها الصدمة العراقية، من خلال ولادة المقاومة العراقية بشكل فاجأ المعترضين الأميركيين على الحرب قبل أن يفاجئ إدارة المتطرفين الجدد، سوف تفرض معادلة جديدة على العلاقات الداخلية بين شتى القوى السياسية الأميركية». وجاء في نتائج البحث في الكتاب المذكور ما يلي: إن فجوة ثقافية أخذت تذرُّ بقرنها في وسط المجتمع الأميركي، وبرزت في تيارات فكرية أخذت تميِّز نفسها في أطروحات تدور حول صراع بين نهجين داخل طبقة واحدة:
-النهج الأول الطبقة الجديدة الحاكمة في أميركا، أما النهج المقابل فينحو باتجاه بناء أمة أميركية ديموقراطية ومكتفية ذاتياً:
« استناداً إليه نرى أن الصراع الداخلي الأميركي بين مفهوم بناء الإمبراطورية أو بناء الأمة الأميركية القوية؛ والصراع بين أقطاب الرأسمالية بسبب السيطرة القومية الأحادية القطبية، سيكون، في المستقبل المنظور وليس البعيد، مسماراً يُدقُّ في نعش الحلم الإمبراطوري الأميركي».
لذلك نحسب أن «هناك رؤية أميركية ثالثة تتكون، ولا تزال في طور الولادة، ولا يقتصر تشكيلها على أعضاء حزب دون آخر، بل تجمع أنصاراً من داخلهما معاً،بالإضافة إلى حركة الفكر الأميركي المناهض للأهداف الإمبراطورية الأميركية في تسجيل انتصارات لمصلحة المذهب الرأسمالي... إن ملخص أيديولوجية، ما نسميه بالاتجاه الثالث في أميركا، يرى أن إدارة جورج بوش تمثل تيار المغامرة والغرور في غزو العالم من دون تغطية أخلاقية أو شرعية دولية... لذا ستكون مطالبة الأميركيين من أصحاب الاتجاه الثالث- بنهاية الحلم الأميركي ليس إنهاءً للجمهورية الأميركية كما يشير إلى ذلك يوهان غالتونج- وإنما إنهاء الجنوح الإمبراطوري الأميركي هو المقصود، فالإيديولوجيا الإمبراطورية »الآن في طور الشيخوخة وتنوء بمهام الحفاظ على الهيمنة مما تعجز عن المزيد من التوسع«، أي عندما يصبح »التخلص من عبء إقامة وإدامة الإمبراطورية أكثر من المكاسب المتحصلة«.
إن التحول في بعض جوانب الاستراتيجية الفكرية للزمرة الرأسمالية الحاكمة في أميركا الآن، كما عبَّر عنه فوكوياما، واستطراداً كان تعبيراً عن توجهات تيار أخذ ينخر في بنيان تلك الزمرة، هو المقدمة الأساسية التي سينبثق عنها تحول في الاستراتيجية السياسية وتالياً في الاستراتيجية العسكرية. وهذا كله يعني، أقلَّ ما يعني، استراتيجية للهروب من العراق. ولكن لا يعني هذا أيضاً إلغاءً للأهداف الأميركية التي من أجلها احتُلَّ العراق، بل تحاول الإدارة التفتيش عن أبواب أخرى، وهي تعمل على الحصول عليها من خلال بناء إدارة عراقية عميلة، سياسياً وإدارياً وعسكرياً وأمنياً، كما نصت عليه وثيقة «الاستراتيجية القومية للنصر في العراق» التي أصدرها مجلس الأمن القومي الأميركي في 30 تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2005.
ولكن هل ستنجح البدائل الاستراتيجية التي وضعتها إدارة جورج بوش في السيطرة على العراق بالواسطة؟ باختصار نؤكد أنها لن تنجح. ولهذا المقام مقال آخر.
ثانياً: الانعطاف السياسي في داخل النخب السياسية الأميركية: إذا كانت أصوات الاعتراض السياسي الأميركي قد عمَّت بعض النخب المؤثرة في داخل بيت إدارة جورج بوش الحالية، فسنعتمد بعض النماذج منها، ومن أهمها بريجنسكي. وأهميته تستند إلى أنه كان مستشار الأمن القومي السابق. يعبِّر بريجنسكي عن عمق المأزق الذي وقعت فيه الإدارة الأميركية في العراق، ويؤكد أن أميركا وقعت في ورطة,. فتساءل: إلى أين نحن نتجه الآن؟
يختصر بريجنسكي مظاهر تشخيصه للورطة، اقتصادياً وأخلاقياً وشرعية ومصداقية. يقول بأن الحرب باهظة النفقات إلى حد لا يطاق, والأخلاقية الأمريكية قد تلطخت، والشرعية الأمريكية قد تقوضت عن طريق الانفراد بالقرار, والمصداقية الأمريكية قد تصدعت.
لم يستفق ضمير بريجنسكي لأنه متمسك بالأخلاقية وحبه للشرعية الدولية والمصداقية، بل استفاق لأن موازين القوى العسكرية قد مالت لصالح المقاومة الوطنية العراقية. يقول بريجنسكي: لقد أُحبط المشروع الأميركي نتيجة لضربات المقاومة العراقية التي تعزز صفوفها وتزداد انتشاراً, وهي تحقق تفوقاً على الأمريكيين، ويستطرد قائلاً: إنه في حروب الاستنزاف يكون المحتل الأجنبي دائما في الجانب الأضعف. ويخلص بريجنسكي إلى نتيجة تقول: إنها حرب استنزاف وهي حرب لا أرى بأننا منتصرون فيها، وإن «الانتصار» أمر غير محتمل. لذا يناشد جورج بوش قائلاً: إذا كان الرئيس جاداً فان الأجدر به ان يوسع دائرة صناع القرار لتشمل أولئك الذين يعربون عن عدم ارتياحهم من المسار الذي اندفعنا فيه.
ومادلين أولبرايت، وزيرة للخارجية الأميركية سابقاً، من الذين يعربون ليس عن عدم ارتياحهم فحسب، بل يعربون عن نقمتهم أيضاً. وقالت إن الأخطاء السياسية للرئيس جورج بوش تثير اشمئزازها، موضحة «أن العراق سيكون في نهاية الأمر واحدة من أسوأ الكوارث في السياسة الخارجية الأميركية».
ونتيجة لتلك الأخطاء، التي تثير الاشمئزاز، أوضحت ان ما يثير قلقها هو ان الديمقراطية تتحول إلى كلمة سيئة لأنها باتت تنطبق على الهيمنة والاحتلال.
فهل أصوات السياسيين الأميركيين تلك يمكن أن تؤثر على صياغة استراتيجية أميركية جديدة؟
لا نحسب أن جورج بوش، على الرغم من صلافته وغروره وعنجهيته وطاووسيته، سيصم أذنيه إلى الأبد.
ثالثاً: الانعطاف العسكري في داخل دائرة بعض أكبر الجنرالات الأميركيين: غني عن البيان ما تردَّد من مواقف السيناتور جون مورثا، الذي ظهر في بداية إعلانه معارضته للحرب على العراق واحتلاله وكأن مواقفه فردية ومعزولة، وهو الذي دعا إلى سحب الجيش الأميركي فوراً من العراق وإنهاء احتلاله، وتأكَّد أن مواقفه كانت تعبيراً عن مواقف بعض جنرالات الجيش الأميركي المتواجدين في العراق وغيرهم، وأصبحت مواقفه ككرة ثلج تكبر وتتنامى خاصة بعد مواقف الجنرالات الستة الكبار المؤيدة لإنهاء احتلال العراق.
إن كرة الثلج تلك دفعت بجريدة واشنطن بوست الأميركية إلى القول بشكل واضح إن وحدة الجيش الأمريكي معرَّضة للخطر، خاصة مع إشارة بعض الجنرالات إلى أنهم يتكلمون باسم بعض ممن لا يزالون في الخدمة.
ليست الانعطافات الفكرية والسياسية والعسكرية معزولة الواحدة عن الأخرى، بل إنها أخذت تشكل سيمفونية متكاملة، تبدأ في العزف على متغيرات فكرية وتمر بألحان متغيرات سياسية وهي ستنتهي، كما تقول جريدة الواشنطن بوست، بإنتاج ثمارها الاستراتيجية التي لن تكون بأقل من انسحاب للقوات الأميركية من العراق خوفاً من الوصول إلى مرحلة تهدد وحدة الجيش الأميركي.
وبالإجمال، لا يمكننا إلاَّ الإشارة ولو بشكل سريع، إلى أن مظاهر التغيير في استراتيجية جورج بوش أصبحت واضحة في شتى جوانب الأزمات التي تواجهها. ويأتي الهدوء الذي ساد الملف اللبناني السوري، والإرباك في معالجة الملف النووي الإيراني، من أهم تأثيرات المأزق الأميركي في العراق. فالهيجان الذي كان الأسلوب المميَّز للجموح الأميركي تحوَّل إلى هدوء بارز في حركته. والهدوء ليس من شيمه.
فمن يا تُرى دفعه إلى ما وصل إليه؟ فهل هناك غير أن قرونه تكسَّرت في العراق؟
وهل من يتعلَّم من الأنظمة العربية؟ وهل هناك من يتعظ من دول الجوار؟
الانعطاف الاستراتيجي الثاني:
التصدع في العامود الفقري للتحالف الدولي في احتلال العراق يصيب أهم المفاصل الكبرى فيه
هم يكابرون، ويصدقون الكذبة التي صنعوها، مثلهم مثل جحا الذي أشاع بين مجموعة من الأطفال أن مأدبة مقامة عند أحد البيوتات في ضيعته، ولما تراكض الأطفال نحو ما كذب فيه عليهم جحا، راح يركض معهم لعلَّ ما كذب فيه صدق، فخاف أن تفوته الوليمة. ولهذا ضرب المثل «كذب كذبة وصدَّقها». وهذا حال جحا البيت الأبيض مع أطفاله طوني بلير وبرلسكوني.
فإذا كان بعض نخب جحا البيت الأبيض راحوا يحذرونه من مخاطر الكذبة التي أطلقها من أجل احتلال العراق، فإن ضمير الشارعين البريطاني والإيطالي راح يدوي كالمطرقة على آذان برلسكوني فأسقطوه صريعاً لسبب واحد، وهو مخاتلته في إنقاذ الجنود الإيطاليين وإخراجهم من العراق. فجاء برودي، رئيس الوزراء الإيطالي المنتخب، لكي يباشر بسحب الجنود الإيطاليين كما وعد ناخبيه.
وبسحب القوة الإيطالية من العراق تكون القوة الثالثة، الأقوى سياسياً وعسكرياً، قد خلخلت أسس التحالف، فجاء وقعها أشد من وقع المطرقة الحديدية التي كان يشنها جيش جورج بوش على معاقل المقاومة العراقية في أماكن تواجدها.
أما حال طوني بلير، الحليف الأقوى في السياسة والعسكر لجورج بوش، فنام على حرير تجديد رئاسته للحكومة البريطانية في العام الماضي، ولم ينقض عام واحد إلاَّ وتلقى الصدمة الكبرى في نتائج الانتخابات المحلية، وهو ينتظر بقية من وقت لتشييعه إلى السقوط الأخير على الرغم من أنه أجرى بعض التجميل على جدران حكومته المنهارة.
لن تنفعه عنترياته وتهديداته باقتلاع الميليشيات في جنوب العراق لتدعيم موقفه الشعبي الذي انهار تماماً. فمن أفلت عفاريت الميليشيات من عقالها لن يستطيع احتواءها وهو في الموقف الأضعف حيث شكَّلت تلك الميليشيات الجدار الأقوى في حماية احتلاله للعراق.
وليعلم أنه مع الميليشات العميلة لن يسلما من غضب المقاومة التي تتنامى مع غضبة شعبية ستكون عارمة وشاملة، ولا يفصلها عن التنفيذ إلاَّ قلة من الوقت، ستقتلعه فيه وعملاءه في المدى المنظور.
حالة التحول النوعي في حالة الغليان تحدد ميعاداً قريباً للانفجار
في معادلة الصراع بين المقاومة والاحتلال علمية وموضوعية بما لا يقبل الشك. فللصراع موازينه ونتائجه. فإذا كان العمل العسكري آخر حلقات خطة تنفيذ المشروع الفكري والسياسي. ففي نجاحه نجاح لذلك المشروع، وبفشله يشكل نهاية له.
مشروعان متقابلان: مشروع الاحتلال ومشروع التحرير. وكل الدلائل تثبت أن مشروع الاحتلال أصبح في دائرة الاستحالة، وهذا يعني انتصار مشروع التحرير.
فالمعادلة بسيطة ومنطقية، فكلما تداعت استراتيجية الاحتلال وتهاوت أعمدتها ونخر السوس في أسسها، كلما ارتفعت أعمدة القوة في مشروع المقاومة وازدادت قواعدها ودعائمها رسوخاً وثباتاً.
أعمدة الاحتلال تنهار واحدة تلو الأخرى. بدأت في الشارع الأميركي وصرخات صُنَّاع القرار الملحَّة، وتشهد تداعياتها الأخيرة في التحالف العدواني «الميني دولي» المصطنع. وتلك هي بيارق النصر تلوح على سطوح ورمال وساحات ميادين المقاومة الوطنية العراقية.
-->

ليست هناك تعليقات: