الخميس، فبراير 25، 2010

إحتمال الفتنة العرقية والطائفية في العراق: تأصيل وواقع ومستقبل

--> -->
إحتمال الفتنة العرقية والطائفية في العراق:
تأصيل وواقع ومستقبل
يحدو الحريصون على استمرار أداء المقاومة العراقية هواجس ومخاوف من أن يزرع الاحتلال في طريقها بعض العوائق والحواجز، بما يؤثر في إضعافها أو إلهائها عن مهماتها الأساسية في ضرب الاحتلال وأدواته. ومن جملة تلك المخاوف والهواجس يتساءل المخلصون عن وجود إمكانية خلق فتن طائفية هنا أو هناك، أو خلق فتن عرقية.
ولأننا نسهم في الكتابة والبحث عن المقاومة العراقية بما يجعلها تحت أضواء واضحة، من حيث مهمتها وأدائها وتأثيراتها: كشفاً عن أسباب وجودها، ومراحل تكوينها، وواقعها في اللحظة المعاشة، واحتمالات تطورها، وعوامل استمرارها وتطويرها، وبالتالي البحث عن وسائل تنشيطها، وعن عوامل إعاقتها عن مهمتها، واستشراف تأثيراتها في سياق الصراع العام بينها وبين أهداف الاحتلال وواقعه، وسبل إضعاف وسائل حمايته، وبالتالي ومن خلال اهتمامنا بإصدار كتاب آخر مكمل لكتابنا السابق »المقاومة الوطنية العراقية: معركة الحسم ضد الأمركة«، وقفنا بجدية أمام الإشاعات والتنبؤات التي تنذر بإمكانية خلق سلسلة من الفتن الداخلية في العراق، ومنها احتمال قيام فتنة طائفية، يكون أصحاب مشروع »القرن الأميركي الجديد« من راسميها وصانعي سبل وعوامل توليدها.
لتلك الأسباب، ولأننا نحسب أن زرع مثل هذا العامل فيه ما يعيق عمل المقاومة العراقية، رأينا أن نولي البحث فيه اهتماماً خاصاً. ولأنه من الحساسية بمكان، آلينا على أنفسنا أن نطل بموضوعية وواقعية حول إمكانية تحويل الفرضية إلى واقع؛ فرحنا نفتِّش عن كل ما كتبه من سبقونا، خاصة من الأخوة العراقيين لأنهم الأعلم بخصوصيات الساحة العراقية، ولم نهمل بعض الآراء التي صدرت عن غيرهم ممن لهم آراء في تشخيص عوامل مخطط الفتنة وإمكانية نجاحها وأسبابها.
لهذا السبب قمنا بصياغة هذا البحث، ونحن نطمح إلى الحصول على تصويبات لكل جوانبه، كما نطمع بالحصول على إضافات ممن لهم الاطلاع الأوسع، والرأي الموضوعي حول كل جوانب فرضية اندلاع مثل تلك الفتنة. ولذا نرجو مسبقاً- من كل الذين يقرأون نواة البحث الذي قمنا بصياغته أن يبادروا إلى تزويدنا بملاحظاتهم ومعلوماتهم وتصويباتهم واقتراحاتهم مشكورين سلفاً. كما نتوجه بالشكر إلى كل من استفدنا من آرائهم في المقالات أو البحوث التي تم نشرها، والتي سوف ننسبها إلى أصحابها، كما تقضي بذلك أمانة البحث العلمي.
أما نص البحث فهو التالي:
بعد أن قلبت المقاومة العراقية الطاولة على رؤوس المحتلين، وفي مقدمتهم إسرائيل والصهيونية العالمية، أخذوا يعملون على نبش وتحريك رماد الطائفية والعرقية في المجتمع العراقي المتعدد التنوع، لتكون المحاولة الأخيرة، بعد أن يدب اليأس في نفوسهم من إمكانية احتواء المقاومة العراقية، أو القضاء عليها. فهم بمثل شعورهم بالفشل لن يأسفوا على شيء ما أن تصبح أطماعهم بحكم المقضي عليها، فمن بعد فشل مشروع »أصحاب القرن الأميركي« الطوفان.
يرمي أصحاب الخطة الخبيثة إدخال العراق في حرب (التدمير والإبادة، حرب الطوائف والقوميات). لذا أصبح المطلوب من جميع المخلصين قراءة الواقع وفهمه. ففيها نرى بعض نُذُر الشر، وفيها الكثير من الخطورة في نقل الصراع من صراع عراقي أميركي إلى صراع عراقي عراقي. إنها المعركة الفصل التي يتقرر على ضوئها بقاء العراق عربياً لكل مواطنيه، وفي تفتيته نهاية لتجربة رائدة في داخل الأمة العربية. ومع تلك النهاية تكون رصاصة الرحمة التي يطلقها المشروع الصهيوني الأميركي على العراق قد حققت أهدافها([1]).
ومن جملة مظاهر الإعداد لهذا المخطط الخبيث، نرى أنه ليس من الغرابة ‏أن يتصاعد الحديث في وسائل الإعلام الغربية عن منظور الحرب الأهلية، ويتساوق هذا مع تصريحات أطلقها نائب بول بريمر، الحاكم الأمريكي في العراق، جيرمي غرينستوك عن إمكانية التصعيد في العراق مع اقتراب تسليم السلطة الشكلي لمجلس الحكم المركَّب على مقاييس الفتنة المذهبية والعرقية. واتفقت وسائل الإعلام البريطانية علي فكرة الحرب الأهلية. ويبدو أنها حضرت في كل تحليلات المعلقين البريطانيين. فهي تارة تشير إلى الجماعات الوهابية السنية العراقية، وتارة أخرى إلى أبي مصعب الزرقاوي ومؤامرة القاعدة. وهذا ما يراد به من وراء إبراز الوثيقة التي نسبتها له المخابرات الأميركية. ونحن نرى أن الصُنعة فيها تفضحها من خلال اقتراح مزعوم وجَّهه الزرقاوي لبن لادن لاستهداف الشيعة الذين ارتدوا حسب الوثيقة المزعومة- لباس الجيش والشرطة، لذا اقترحت استخدام أساليب التفجيرات الاستشهادية للإضرار بهم([2]).
ولكن الصحافي البريطاني، روبرت فيسك كان قد حذَّر، في معالجته للموضوع([3])، من الأهداف المرسومة للحملة الإعلامية الأميركية والبريطانية في تكرار الحديث عن إمكانية اندلاع فتنة طائفية في العراق بين السنة والشيعة. وكشف زيف الوثيقة التي سرَّبها بول بريمر لوسائل الإعلام. مستنداً في جزمه إلى مدى الفائدة التي تجنيها قوات الاحتلال من التحضير لها وتصنيع عوامل اندلاعها، قائلاً: »إن اندلاعها يعني أن العراقيين سيقبلون أي حل أو خيار تفرضه أمريكا عليهم«. ويقف روبرت فيسك مشككاً بصحة الأخبار التي تروِّجها المصادر الإعلامية ذاتها، عندما تحصر الإشاعات عن التفجير بغير الشيعة، أي بكل من الأجانب الذين يجتازون الحدود السعودية مع العراق، أو بمن هم من »القاعدة« أو بمن هم حسب زعمهم- من بقايا البعث أو السنة العراقيين الذين يريدون كما تروِّج الأخبار المدسوسة- حرف المسار الديمقراطي في العراق الذي بدأت تلوح بشائره من خلال الموافقة علي مسودة القانون الأساسي!!!([4]).
وتؤكِّد بعض الوسائل الإعلامية الغربية المحايدة تشكيك روبرت فيسك، بحيث تقول إحدى الصحف اليونانية »إن إشعال فتيل حرب أهلية بين الشيعة والسنة، يوفر أعذاراً لإطالة أمد احتلال البلاد من قبل الأمريكيين، وربما حلف الناتو لاحقاً، بحجة تجنيب البلاد »كارثة إنسانية«، وبدعوى »المحافظة على الأمن والنظام«([5]).
إنَّ تقسيم العراق وتفتيته إلى كيانات هزيلة، هو أمر مطلوب لإنجاح المخطَّط الأمريكي. فمن المؤكد أنَّ هذا التقسيم لن يمرر بقرار صادر عن سلطات الاحتلال بشكل علني ومباشر عن مجلس سكرتاريَّة بريمر، ولن يتحقَّق عن طريق قرار صادر عن إدارة جورج بوش، بل سيتم طرحه وفرضه كحلٍّ نهائيٍّ ووحيد لإنهاء الحرب الأهليَّة المخطَّط لها، ويتمُّ تهيئة الأجواء المطلوبة لاندلاعها تمهيداً لتقسيم العراق. ومن الواضح أنَّ توفير الشروط المثلى لاندلاع الاقتتال الوطني -لا سيَّما في مجتمع متعدِّد القوميَّات والديانات والمذاهب كالعراق- يتطلب إثارة النعرات الطائفيَّة والعرقيَّة، وشحن الأجواء بالكراهية والبغضاء ، ورفع وتيرة التعصُّب الطائفي والعرقي عن طريق اغتيال رموز معروفة، وتفجير وتدمير مراكز دينيَّة لها مكانة روحية واجتماعية، وإلقاء تبعاتها على جهات محسوبة على طائفة معيَّنة.
ولوضع المخطط قيد التنفيذ يقوم الاحتلال وعملاؤه بالاعتداء على بعض الأماكن المقدَّسة وإلى اغتيال رجل دين من هنا أو هناك. وهذا ما يجد تفسيراً له في ما تعرَّضت له مساجد السنَّة والشيعة من اعتداءات متكرِّرة، واغتيال العراقيِّين المسيحيِّين، أو حملات التطهير العرقي التي تشهدها كركوك([6]).
ولقد أسهمت، الميليشيات المذهبية، وكذلك الميليشيات العرقية -ولا تزال تسهم- في تنفيذ مخطط التقسيم المرسوم لها تنفيذه. وما يحدث في المناطق العراقية المختلطة بين الأكراد والعرب يؤكد ضلوع تلك الميليشيات بقرار سياسي من أحزابها- بالتنفيذ. وحول ذلك، »أضحت كل الأسماء في واجهات المطاعم ودور السينما والمدارس والإدارات باللغة الكردية. أما مزارات الأولياء (من العرب) فقد مُحيت من الوجود بواسطة البلدوزرات لئلا يُقال إن هذه أماكن أولياء من أصول عربية عاشت وماتت في كركوك. حتى شواهد قبور العرب الموتى أزيلت. وأصبح مشهد (تكريد) كركوك ماثلاً للعيان في كل ركن وزاوية من المدينة« ([7]).
وهنا نتساءل على الرغم من محاولات قوات الاحتلال وبمساندة من الميليشيات المذكورة، التي هي معبَّأَة أصلاً لتنفيذ مخطط التقسيم- هل الحرب الأهلية في العراق اليوم، هي خطر حقيقي وداهم؟
يرى البعض، من الذين كتبوا من الأكاديميين والسياسيين العراقيين، »إن الذين يشيعون هذه الخرافة ويحاولون تسويقها، إنما يحاولون عبثاً الإيحاء بأن بقاء الاحتلال هو الحل الوحيد لمواجهة خطر اندلاع حرب أهلية ومن أبرز هذه الحقائق أن المجتمع العراقي لا يعيش أي نوع من الانقسام المؤدي إلى ارتطام الحساسيّات الثقافية أو الكتل الاجتماعية. على العكس من ذلك، ثمة إجماع متزايد عند الشيعة والسنّة على صيانة الوحدة الداخلية«([8]).
لكن من وراء تلك المزاعم أهداف يروِّجها الاحتلال: فإذا »كان رحيل قوات الاحتلال سوف يسفر عن فوضى، كما يُزعم، فالفوضى جلبها الاحتلال نفسه، وبالتالي، فإنها سوف تزول بزواله. لقد كان العراق بلداً مشهودا له بالأمان والانضباط، بينما جاء الاحتلال بالخراب والدمار والفوضى والفتن ولذلك فثمة ترابط وثيق بين خرافة الحرب الأهلية، وبين الاتفاق الذي عاد به بريمر من واشنطن. هذا الاتفاق الذي يُراد له أن يؤدي، وبصورة مخادعة، إلى جعل الاحتلال عملاً مشروعاً«([9]).
ويرى آخر، أن ثمَّة سلوكات إيجابية تنجم بعد كل حادث يشتمُّ منه العراقيون رائحة الفتنة إذ يسارع المخلصون، وهم ليسوا قلة في المجتمع العراقي، إلى التأكيد على الوحدة الوطنية والدينية. ويعطي مثلاً عن ذلك، فيقول:بعد انتشار خبر جريمة الاعتداء، على حرم الكاظمين في بغداد، هرع المواطنون بمختلف مشاربهم وانتمائهم إلى أطراف الحرم المقدَّس للدفاع عنه والتعبير عن شجبهم وسخطهم على هذا الفعل الدنيء. فتعالت هتافات الإشادة بالمقاومة الوطنيَّة وهتافات المطالبة بإنهاء الاحتلال، والتنديد بسياساته وتصرُّفاته الرعناء، وتصرُّفات مرتزقته من خونة الوطن([10]).
وفي رسالة ألكترونية أوجز أحد العراقيين المثقفين جوابه حول التساؤل: هل هناك إمكانية حصول فتنة طائفية في العراق، قائلاً: ليس في ماضي العراق وحاضره ما يدل على أن احتمال الفتنة الطائفية، أو العرقية، واقعياً. وبالإضافة إلى تاريخ العلاقات الإيجابية بين شتى الأديان، وشتى العرقيات، فقد كان لاتجاهات نظام حزب البعث الوطنية القومية ما زاد في ترسيخ العلاقات الإيجابية بين العراقيين، إذ أصبح الولاء للوطن هو الجامع الأساس بين شتى أطياف العراقيين. وما يُشاع عن ظلم أُلحِق بالشيعة والأكراد، ليس إلاَّ ذرَّاً للرماد في العيون، وهي إشاعات عمَّمتها أجهزة المخابرات الأميركية، بالتعاون مع أصحاب المشاريع السياسية المذهبية، وأصحاب المشاريع السياسية الانفصالية من الأكراد، والقصد منها إيجاد ذرائع يتغطَّى به مشروع الهيمنة الصهيوني الأميركي على العراق، أرضاً وشعباً وثروات(]).
إن نسيج العلاقات الوطنية المتينة بين العراقيين، ونسيج العلاقات القومية ذات الأبعاد الإنسانية، لا تمثل الوجه الوحيد لحصانة العراقيين ضد الاقتتال الطائفي أو العرقي فحسب، وإنما الشعب العراقي واع وبشكل كامل إلى رغبة المحتل في تأجيج الفتنة الطائفية أيضاً. وإن الشعب العراقي يعي أن الاحتلال يرتاح وسط الفوضى والاقتتال الداخلي. ونتيجة لهذا الوعي فلن تنجح الفتنة سواء كانت طائفية أو عرقية. ولكن ما يُخشى منه، كما يرى أحد رجال الدين العراقيين، أن مدة سعي الاحتلال لذلك ستطول مما يؤدي لسقوط المزيد من الضحايا. وفي المقابل يرى العالم نفسه، أنه كلما »كان تلاحم أبناء الشعب أكثر كلما اقتنع المحتل أن لا فائدة من محاولاته«([11]).
إن وعي المشكلة ومخاطرها اجتياز لنصف حلها، أما النصف الباقي من الحل فهو مرهون بالتعاون المتكامل بين شتى أطياف المجتمع العراقي، الذي يتطلَّب في أحيان كثيرة- طول الصبر في امتصاص نتائج وتأثيرات ما يفتعله أصحاب الشأن الأميركي الصهيوني من محاولات وتفجيرات واغتيالات يكون القصد منها إيصال حالة الاحتقان إلى مدياتها القصوى، أي إلى الحد الذي يحسب فيه أن المتضررين لن يضبطوا أعصابهم من بعدها فيتحولون إلى ردود الفعل، والوصول إليها تنفلت المقاييس والحسابات العقلية وتتحول إلى ردود فعل غريزية.
أما وعي المشكلة والتعامي عن مخاطرها فيمثِّل النصف الأصعب، السبب الذي يجب أن يشكل حافزاً لذوي العاقلة من العراقيين إلى عدم الاسترخاء عن القيام بضبط من يسهل انقيادهم إلى ردود الفعل العشوائية، وهذا الجانب لا يزال مدار اهتمام عند الأوساط العراقية الواعية، وهذا ما يزرع الارتياح في النفس.
لكن، على الرغم من تلك النظرات المتفائلة، والتي تحمل الكثير من جوانب الواقع الصحيحة، تبقى عدة من العوامل التي يشجع الاحتلال على تعميقها، لعل من أبرزها تلك المخاطر التي تواجه العراق بعد الاحتلال وهي مسألة الفيدرالية التي بدأ الحديث عنها في بعض الدوائر يتصاعد ليصل إلى أعلى مستويات الخطورة.
إن الفيدرالية لم تكن في يوم من الأيام علاجاً لبلد يعيش الوحدة بشكل صريح وواقعي كما هو الحال في العراق، لأنها كما هي مطروحة كحل لدى البعض على أساس عرقي ستقود إلى فيدرالية بين المذاهب، لتنطلق عرقياً ولا تنتهي مذهبياً. لذلك »نقول للسنة والشيعة والأكراد والعرب والتركمان وكل فئات الشعب العراقي إن هذه المرحلة ليست مرحلة الحديث عمن يحكم العراق، أو عن الأكثرية المذهبية أو العرقية وما إلى ذلك«. بل إن المطلوب هو أن يتوحد العراقيون بكل أطيافهم السياسية وانتماءاتهم العرقية أو المذهبية على أساس العناوين الكبرى، ومن أهمها السعي الجاد للخلاص من المحتل بكل السبل المتاحة، والسعي لحفظ وحدة العراقيين في مواجهة الاحتلال ومخاطر اللعبة الدولية([12]).
يأتي هذا التشخيص على غاية من الأهمية، ويستدعي الوقوف قليلاً عنده. ويتطلَّب النظر إليه من زاوية الواقع السياسي والفكري الذي أدخلته الحركات الدينية السياسية على الفكر الديني من جهة، والفكر السياسي الوطني من جهة أخرى. وقد فتحت الدعوات الفيدرالية الانفصالية لبعض الأحزاب الكردية شهية الدعوات المذهبية السياسية لتحذو حذوها. فهناك ترابط بين الاتجاهين حتى ولو كانت أهدافهما متباينة، إلاَّ أن نجاح أحدهما يدعم نجاح الآخر. بحيث يتغذى وينتشر ويجد له مبرراً.
بداية لا بُدَّ من القول إن للدين دوراً في كل ما يتعلَّق بشؤون الناس الدينية أولاً، والدنيونية ثانياً، بحيث لا يمر طريق الخلاص إلى الآخرة كما تعتقد التيارات الدينية السياسية- إلاَّ عبر حياة دنيوية صالحة تلبي شروط الخلاص الأخروي. ولأن الحياة الدنيوية لا يمكن إلاَّ أن تكون محكومة بشرائع الدين، يحسب أصحاب التيارات الدينية السياسية أن التكليف الدنيوي للإنسان حسب الشرائع الدينية، والمذهبية على الغالب الأعم، هو الطريق الوحيد للخلاص في الآخرة. ولأن تلك الشرائع تمثِّل كما يعتقد أصحاب تلك التيارات- إرادة إلهية؛ ولأن الإرادة الإلهية لا يمكن إلاَّ أن تكون ثابتة لا يطالها التغيير من أمامها وورائها، ولا يجوز أن تُستبدَل بشرائع دينية أخرى، ولا حتى شرائع وضعية، تنخرط تلك التيارات في التأسيس للدعوات الانفصالية على قاعدة أن الناجين في الآخرة هم أتباعها وحدهم. ولأجل الترابط بين الخلاص في الآخرة مع تفصيلات الحياة الدنيوية يتوجَّب على كل تيار ديني سياسي، أو تيار مذهبي ديني سياسي، أن يسعى لبناء دولة تطبق شرائع هذا الدين أو ذاك، أو شرائع هذا المذهب أو ذاك.
ولحصر رأينا حول مسألة الفتنة، نقف عند حدود معالجة دور الحركات الدينية السياسية في العراق، وتبيان دورها في التأسيس إلى نظام ثيوقراطي يطبِّق شرائعها الخاصة، تحت حجة أنها تستطيع أن تحترم حرية الإيمان عند الآخرين. ولا يضير أي كان من أن يعيش تحت ظل ذلك النظام. وبمجرد استفحال تلك الاتجاهات تتوالى دعوات المذاهب الأخرى وتتكاثر بحجة تلك الذرائع ذاتها. وبتكاثرها وانتشارها يحق لكل اتجاه ديني أو مذهبي ما يحق للآخر؛ وبها تنتشر دعوات الانفصال عن الدولة الأم. وبدعوات الانفصال تحتاج كل دعوة إلى من يساندها من الخارج لتستقوي به. ويكفي النظر إلى الخريطة السياسية التي سيتحول فيها العراق من وطن واحد إلى العديد من الأوطان. وكم هي خطيرة تلك الجغرافيا عندما تتحول أرض العراق إلى فسيفساء من الدول الحامية.
إن الفكر الديني، بما له علاقة بالسياسة، لا يستقيم مع ما أفرزته التطورات السياسية على صعيد بناء أنظمة ودول وقوميات مسوَّرة بحدود جغرافية. تلك الحدود التي لا يمكن لأي كان اختراقها أو تجاوزها إلاَّ ويكون مخالفاً للشرائع والقوانين الدولية. فكانت الجغرافيا في مثل تلك الحال- حائلاً دون تكوين دول دينية أو مذهبية، أي بمعنى أن يلزم دين معين الأديان الأخرى بشرائع وقوانين مفصَّلة على قياس منتسبي هذا الدين أو ذلك المذهب. لذا حلَّت مكانها الشرائع الوضعية، التي تؤمِّن حرية الاعتقاد الإيماني لكل مواطني الدولة القومية بما هي اعتقادات شخصية ذات علاقة بين المخلوق كفرد وخالقه. وأصبح من الضروري أن يكون الاعتقاد الإيماني منفصلاً عن التشريعات الدنيوية لأن دور تلك التشريعات هو أن تنظِّم علاقات الأفراد بين بعضهم البعض على هدي القيم الإنسانية العليا. وما لم تستطع أن تنظم أي دولة تلك العلاقات بين أفراد متعددي المشارب الدينية والمذهبية فالبديل هو التفسخات والانفصاليات والدويلات، أو لم نتعلَّم من سلبيات تلك المرحلة في التاريخ العربي الإسلامي؟
وفي تلك الحالة أصبح بناء دول دينية أو دينية مذهبية في حدود جغرافية واحدة، أمراً في غاية الصعوبة، لأن ما يعتبر مشروعاً من القوانين عند دين أو مذهب هو غير ذلك عند الأديان والمذاهب الأخرى. فكانت القواعد الأساسية للشرائع التي عليها أن تكون عادلة بين الأديان هي تلك التي تؤمن حرية الممارسة الدينية لكل مواطني الدولة على أساس قياس الحقوق والواجبات الأخرى على مكيال المصلحة العامة لشتى أطياف المواطنين وانتماءاتهم الدينية.
من هذه البداية يمكن أن نتصوَّر خطورة الفيدرالية القائمة على قاعدة المذهب أو العرق، تلك الاتجاهات التي ينبني عليها المشروع الأميركي بالنسبة للعراق. وإذا كان تطبيقه يخدم المشروع الأميركي فلأنه يعمل تفتيتاً في البنى الوحدوية الوطنية والقومية. وعلى منواله تصب دعوات التنوع في إطار الوحدة خاصة إذا كانت مسألة الحقوق والواجبات مبنية على قاعدة دينية أو مذهبية، ويصح ذلك على كل المستويات بما له علاقة في كل الجوانب ما عدا حقوق الممارسة الدينية التي تقوم على قاعدة حرية الاختيار الذاتي.
يحسب الانفصاليون على قاعدة الفيدرالية العرقية أن مشروعهم يصبح في غاية السهولة إذا ما حاولوا ابتزاز أصحاب المشروع الصهيوني الأميركي، لحاجتهم إليهم في مرحلة احتلال أرض العراق. ولكنهم لا يدرون أن أصحاب المشروع يريدون العراق كله سواء كان موحَّدَاً أو مفتتاً، بل إذا لم يستولوا عليه موحَّداً فأخذه مفتتاً لا يضيرهم شيئاً.
فالعراق المفتت هو مشروع اقتتال دائم بين العراقيين، والاقتتال الداخلي يكون المعبر الآمن لقوات الاحتلال لأنها لن تدفع ثمناً من أرواح جنودها عندما يصبح العراقي عدواً للعراقي الآخر. وليكن على قاعدة العداء العرقي أو العداء المذهبي فالأمر سيان عند من يعمل لاحتواء العالم كله.
وقبل أن يصل الانفصاليون العرقيون أو المذهبيون إلى مواجهة الواقع المر، عليهم أن يراجعوا حسابات الربح والخسارة بين أن يكون العراق، بأكمله لكل منهم، أو أن يكون لكل منهم قطعة من العراق فقط يكون فيها الاحتلال هو الشريك الآمر الناهي. وهو بعد أن يمزِّق النسيج الوطني، اللاحم الوحيد بين أبناء العراق، سيُعيد ترتيب أوضاع البيت بما يخدم مصالحه وحدها (فمشروع المتطرفين الأميركيين الجدد جورج بوش الإبن وزمرته- لا يرى الآخرين خارج مصالحه).
إن التنازلات المتبادَلَة بين المذاهب الروحية عن شق التشريعات الدنيوية لمصلحة تشريعات الدولة المدنية الموحَّدَة والموحِّدَة، بحيث يحتفظ كل تيار ديني لنفسه بالجانب الإيماني الروحي الذي يحسبه طريقاً للخلاص في الآخرة، هي الطريق الأكثر واقعية في أُسس الدولة القومية وقواعدها بما يحفظ لجميع المواطنين العدل والمساواة في الحياة الدنيا.
وإن احتفاظ الأقليات القومية بخصوصياتها ذات العلاقة بتراثها القومي بأبعاده الإنسانية- من جهة؛ والتنازل للدولة القومية المركزية عن التشريعات العامة التي تضمن لجميع القوميات تطبيق العدل والمساواة، هو الطريق الأكثر واقعية وعدالة في عصر الدول القومية.
وإذا كانت الدعوة إلى إعادة النظر بوسائل إيصال المنتسبين إلى أديان ومذاهب للخلاص في الآخرة، على قاعدة الاعتراف للآخر بحقه في اختيار طريق خلاصه، من الأحلام التي تثير في كثير من الأحيان- هزء تلك التيارات وسخريتها، نرى نحن أنها ليست مستحيلة بدليل توافق الفلسفات الوضعية على واقعية حل المسائل الغيبية عن طريق حرية الاعتقاد الفردي الحر من جهة، وتقرير بعض الكنائس المسيحية أن طريق الخلاص في الآخرة ليس محصوراً بالمسيحيين لوحدهم بل يمكن أن يكون عن طرق روحية غير المسيحية من جهة أخرى.
إن إعادة جديدة في النظر حول تعاليم الانفصاليات السياسية العرقية، والانفصاليات الفكرية الروحية التي تروِّج لها عدة من الحركات الدينية السياسية، يسهم في إقصاء فكرة الفيدرالية التي يرسمها المشروع الأميركي الخبيث على مقاييس مصالحه. وبمحاربة الفيدرالية، فكراً وممارسة، يعزل العراقيون الداعين لها ويعرُّونهم عن أهدافهم الحقيقية، قبل أن يستفحل الأمر وينجح الاحتلال في تثبيت مشروعه ليقف متفرِّجاً على صراعات جانبية بين أبناء العراق الواحد، ويصبح وجوده ضرورة دولية أولاً، وضرورة للإنفصاليين العرقيين والمذهبيين ثانياً.
فإذا كانت الحركات الدينية السياسية، والحركات الانفصالية العرقية في العراق، لم تخضع لتجربة خطيرة كمثل التي يحاولون أن يخضعوا لها. وإذا كانوا يجهلون نتائجها ومآلها فليرجعوا إلى تجربة الحرب الأهلية اللبنانية، ولكل منها علاقات بشكل أو بآخر مع حركة لبنانية ذاقت آلام تلك التجربة وعرفت نتائجها.
لا يمكن لصاحب اتجاه انفصالي أن يحقق آماله وأوهامه، وإن التجربة اللبنانية جعلت الأقليات اللبنانية هذا مع العلم أن لبنان كله مجموعة من الأقليات- يدفعون الثمن غالياً من أرواح أبنائهم وممتلكاتهم. أما بعد طول مرارة وآلام عاد اللبناني على الصعيد الوطني- إلى دفن رأسه في حضن اللبناني الآخر والدمعة في عينيه، والألم يتآكل قلبه وروحه. فلعلَّ تجربة على الصعيد الوطني القطري تفيد الساحات الوطنية القومية على طول الساحة العربية وعرضها.


([1]) شبكة البصرة / صباح ديبس: »الحرب الأهلية،الطائفية والعرقية،آخر طلقات الرحمة، للحرب الصهيونية على العراق!«.
([2]) ‏04‏/03‏/2004 لندن ـ القدس العربي: »هل هناك مصادفة لتكرار أمريكا الحديث عن الحرب الأهلية وزرع وتد الخلاف بين السنة والشيعة؟«.
([3]) نقلاً عن (04‏/03‏/2004 لندن ـ القدس العربي): ومقالته وردت تحت عنوان: »كل هذا الحديث عن الحرب الأهلية.. وهذه المذبحة.. هل هذه مصادفة؟!«.
([4]) ‏04‏/03‏/2004 لندن ـ القدس العربي: »هل هناك مصادفة لتكرار أمريكا الحديث عن الحرب الأهلية وزرع وتد الخلاف بين السنة والشيعة؟«.
([5] ) 6/ 3/ 2004م: شبكة البصرة: »هجمات مسربلة بالغموض ضد المقاومة«: ترجمة نديم علاوي -عن صحيفة ـ برين ـ اليونانية اليسارية.
([6] ) سعد داود قرياقوس: »كيف يجب قراءة الاعتداء الأمريكي البشع على حرم الكاظمين المقدَّس؟«.
([7] ) عبد الجبار الكبيسي: »ماذا يجري في العراق؟«.
([8] ) عبد الجبار الكبيسي: »ماذا يجري في العراق؟«.
([9] ) عبد الجبار الكبيسي: »ماذا يجري في العراق؟«.
([10] ) سعد داود قرياقوس: »كيف يجب قراءة الاعتداء الأمريكي البشع على حرم الكاظمين المقدَّس؟«.
] مضمون رسالة خاصة.
([11] ) 4/ 3/ 2003م: عن المكتب الإعلامي لمدينة العلم للإمام الخالصي الكبير: »المجزرة الكبيرة التي ارتكبتها القوى المرتبطة بالاحتلال«.
([12] ) محمد حسين فضل الله: »العراق: مخاض الفدرالية والوحدة«.

ليست هناك تعليقات: