الخميس، فبراير 25، 2010

إعمار العراق؟‍‍ خدعة أميركية لتضليل الضمير العالمي

-->
إعمار العراق؟‍‍
خدعة أميركية لتضليل الضمير العالمي
نُشر في 28/ 4/ 2004م.
دأب المشروع الاستعماري على استخدام عدد من المصطلحات التي ظاهرها الأخلاق والإنسانية، وباطنها الشر والاستغلال.
ولأن المشروع الاستعماري يعبِّر تماماً عن رؤية وإيديولوجيا اقتصادية تخدم مصالح الشركات الكبرى، فقد أصبح من المعروف أنه قام بإنشاء مئات مؤسسات الدراسات التي تعنى بإنتاج الأفكار التي تحمي تلك المصالح وتقوم بتسويق إنتاجها، كما سياستها في الاستغلال، على أسس ثقافية بارعة في إتقانها. وإذا كان باطنها الاستغلال، وهو مفهوم مكروه إنسانياً، فتقوم مكاتب الدراسات بتزويقه بشعارات ولغة تقلب المعنى السيئ إلى معاني وكأنها لا تنطق ولا تهدف إلاَّ لخير البشرية.
لقد استأجرت الشركات الكبرى لخدمة مصالحها آلاف الاختصاصيين في العلوم الإنسانية، ومن أهمها علماء النفس والاجتماع والإعلام والفن...، وأسندت إليهم دراسة الأسواق وطبائع الشعوب كخطوة أولى لإنتاج مفاهيم ثقافية تزوِّر فيها حقائق الأهداف. ولا شك بأن تلك المكاتب قامت بوضع آلاف الأبحاث المبنية من أجل تحديد العادات والتقاليد السائدة، في سبيل أن تنتج لها مفاهيم جديدة ظاهرها العسل وباطنها السم الزعاف.
من جملة تلك المفاهيم، أنتجت مكاتب الدراسات اصطلاحاً جديداً وهو »الإعمار« بديلاً للاستعمار. ولأن الكراهية لدى الشعوب، المتقدمة منها والمتخلفة، تعمَّقت ضد الاستعمار كمفهوم للاحتلال والاغتصاب والهيمنة والاستغلال- ولأن إيديولوجيا الاستعمار لم تنته بل استفحلت ظاهرته وأصبحت أكثر قوة وبأساً في أعقاب الطفرة الصناعية والتكنولوجية الهائلة، أصبحت حاجة الشركات الكبرى ماسَّة لتصدير فوائض إنتاجها، وأعدَّت كل وسائل التصدير بالحسنى أو بالإكراه.
واستفاق العالم، حتى نادي الدول الرأسمالية، على مشروع من أخبث ما عرفه التاريخ البشري حتى الآن، وهو مشروع »أمركة العالم« المدعوم بالقوة الهائلة، عسكرية ومالية وسياسية. وكان هذا المشروع مسلَّحاً بقوة الدراسات والأبحاث والنتائج الثقافية الجديدة التي تدعم وتغطي كل الأهداف الخطيرة، وتبرزها بثوب إنساني ظاهرها الخير كل الخير للشعوب التي تستهدفها آلة الاستعمار العسكرية.
ولما احتل قادة المشروع الاستعماري الأميركي الجديد العراق، كان في جعبة المخطط دراسات معدَّة مسبقاً حددت بعض المصطلحات التي تغطي فيها أهدافها الحقيقية. ومن جملة تلك المصطلحات، يلعب مصطلح »إعادة إعمار العراق« دوراً واسعاً وخبيثاً في تضليل الرأي العام العالمي.
ما هي الأهداف الحقيقية التي يعمل المصطلح على إخفائها؟
تعرَّض العراق، منذ العدوان الثلاثيني، في العام 1991م، لسلسلة من التدمير الممنهج، شمل شتى نواحي الحياة الاقتصادية والعمرانية والثقافية والعلمية والصحية والتعليمية، وليس من التكرار الممل أن نعيد التذكير بها لأنها ستظهر الحقيقة كاملة من وراء تعميم مصطلحات الثقافة الإمبريالية الحديثة.
كان العراق قد أنجز، حتى أواخر الثمانينات، طفرة نهضوية كبيرة شملت شتى جوانب الحياة فيه. ولما كانت شركات الاستغلال الإمبريالي الأميركي مستبعدة من نعيم عقود تلك الطفرة، شكَّل الاستبعاد حافزاً إضافياً من حوافز مخطط احتلال العراق، الذي كان قد صُمِّم مباشرة- بعد تأميم النفط العراقي في العام 1972م.
إن عملية إحصائية، ونظرة مقارنة، لمن يعود إلى دراسة تاريخ التطور النهضوي الذي أنجزه نظام حزب البعث في العراق. ونظرة مقارنة لتاريخ ما قبل استلام الحزب الحكم فيه، تظهر لنا مدى التقدم العمراني الذي تمَّ إنجازه، وهذا ما ضاعف حوافز احتلاله من قبل الاستعمار الأميركي، لسرقة ثروته بشكل مباشر والهيمنة على كل عقود إعماره واحتكارها.
منذ العام، 1990م، تسلل قرار احتلال العراق، تحت ذريعة دخول القوات العراقية إلى الكويت، وأحبط المشروع المعادي أية محاولات لحل الإشكال الحاصل بالوسائل العربية. وكان تسارع الضغوط الأميركية دليلاً على أن أمامهم فرصة قد لا يتم تعويضها في المستقبل القريب. ومسلسل الأحداث معروف لدى القارئ، ويمكن لغير المتابع أن يستعيد ذاكرتها في المصادر الموثَّقة.
بعد التدمير الشديد الذي تعرضت له شتى مرافق الاقتصاد والعمران والصناعة العراقية في العام 1991م، استكمل التدمير بقرار الحصار الظالم لمدة أكثر من عشر سنوات من جهة، والقصف المتقطع لكثير من المنشآت تحت ذريعة حماية مناطق الحظر الجوي من جهة أخرى.
واستكمل المشروع المعادي مخططه في التدمير الممنهج للبنى التحتية في العراق، في العام 2003م،أثناء العدوان وبعد الاحتلال. وهنا يمكننا أن نعدد بعض وجوه التدمير وحجمها واتجاهاتها ووسائلها:
في أثناء العدوان: من غير الصحيح أن العدوان كان يستهدف البنى والمنشآت العسكرية فقط، وإنما كانت كل البُنى العمرانية الدسمة أهدافاً للتدمير تحت حجة أنها أماكن محتملة لسلاح الدمار الشامل العراقية المزعومة. ولمن يريد أن يعرف حجم كل ذلك، يمكنه أن يعود إلى تقرير أميركي يقدِّر فيه كاتبه أن حجم الكتلة النارية التي سقطت على العراق، يعادل كثافة 240,000 قنبلة بحجم قنبلة هيروشيما. ومن خلاله يمكننا أن نتصور حجم التدمير الذي ألحقه العدوان في البنى التحتية العراقية، هذا إذا أغفلنا مدى الأذى الهائل الذي ألحقه بالمستقبل الصحي للعراقيين من جراء كميات الإشعاع النووي الهائلة. ويمكن القارئ أن يستعيد بعض التقارير التي تتحدَّث عن الخسائر البشرية، مدنية وعسكرية، صحية مباشرة أو غير مباشرة.
بعد الاحتلال مباشرة: كانت مشاهد الحرائق في أكبر البنى العمرانية في المدن العراقية، وبشكل خاص في بغداد، أكبر برهان مرئي على حجم التدمير الذي ألحقته عمليات السطو تحت رعاية مافيات السرقة المحلية، أو المستوردة، المحمية من القيادات العسكرية الأميركية، التي كانت بدورها مأمورة من رؤساء المافيات في الشركات الكبرى لكي تغض الطرف عما يقوم به المخربون المدربون والمعدون قبل وقت كاف للقيام بذلك الدور لتأمين الخراب في ما يمكن أن يُعطى التزامات وعقود للشركات الأميركية.
ما فعلته قيادات الاحتلال العسكرية المحلية: كان كل قائد وحدة عسكرية أميركية عضواً في مافيات عقود الإعمار، وكان المطلوب منه أن يهدم المباني التي تضررت جزئياً تحت حجة إعادة إعمارها –كما يدعي- حفاظاً على السلامة العامة.
كما شاركت المافيات في نهب آليات المصانع وبيعها في السوق السوداء وأكثر من استفاد من شراء تلك الآليات هم الإيرانيون، لأنهم كانوا يشجعون اللصوص على السرقة، وهم يقومون بشرائها بأبخس الأثمان. ولم تلك الطريقة لتضير المحتلين، فهم يعتبرونها من أهم مهماتهم، لأن أية سلعة يتم سرقتها وبيعها إلى إيران يكبِّر حجم العقود لاستيراد بديل عنها، وهذه غاية في الأهمية للشركات الأميركية.
-سرقة السيارات وتهريبها إلى شمال العراق وتجميعها في المنطق المحمية من الميليشيات الكردية على طريق تصديرها إلى إيران.
-حرق مستودعات الأغذية، خاصة تلك التي خزَّنتها الدولة العراقية لمصلحة الشعب العراقي المحاصر، لأن كل ما يتم إتلافه سيكون كسباً أكبر لتلزيم عقود أكثر.
وهل يتم التعداد أكثر؟!
إن ما نريد أن نبرهن عليه هو أن المخطط العدواني من الحرب والاحتلال هو إيجاد فرص أكبر لعقود ما يسمونه إعادة الإعمار.
فإعمار العراق كان يقتضي أن تهدم قوات الاحتلال كل ما تستطيع تدميره، وبشتى الوسائل، وإلا فلن تفوز الشركات المساهمة في تمويل الغزو بأي شيء. ولهذا وتحت حجة إعادة إعمار العراق، والتي أصبحت سُبُله واضحة، كان لا بد من التدمير.
والأكثر إيلاماً من كل ذلك تحاول وسائل الإعلام، ومنها العربية للأسف، أن تبرز المصطلح وكأن رسالة الاحتلال في العراق ملائكية، ووجهها إنساني. لذا راحت تعمم استخدام هذا المصطلح على نطاق واسع في حملتها لاستجداء مساعدة الدول العسكرية والمالية.
لقد تغطَّت بعض الدول الأوروبية وغيرها كمثل أستراليا وإسبانيا وإيطاليا وبعض دول المنظومة الاشتراكية، سابقاً، واليابان، برضوخها للإرادة الأميركية في تقديم مساعدات من الجنود والأموال تحت ذريعة المساهمة في إعادة »إعمار العراق«. وأصبحت كل الموبقات تُعلَّق على مشجب رسالة الاحتلال الإنسانية في أنه يريد إعماراً. ولكن إعمار ماذا؟
ولكي تستر بعض تلك الدول ارتهانها للإرادة الأميركية، ولكي تغطي بعض الإدارات الحكومية تواطأها مع مافيات الاقتصاد العالمي، راحت تتلطَّى أمام شعوبها بغطاء إنساني وهو المساهمة في إعادة الإعمار. تارة بتقديم مساعدات طبية وتارة أخرى في إعادة ترميم المرافق العامة، أو تقديم خبرات في هذا المجال أو ذاك. أما الهدف الحقيقي فهو مساعدة الولايات المتحدة الأميركية في تأمين غطاء سياسي دولي لمخطط السرقة والنهب في العراق.
ما كانت الإدارة الأميركية لتطلب تلك المساعدة، وهي التي كانت على استعداد لأن تخوض الحرب بمفردها، لولا أن الغطاء السياسي الأممي أصبح حاجة ملحة بعد ازدياد تأثير المقاومة العراقية في منعها من تحقيق أهدافها بالضربة النظامية القاضية.
لكن وعي كثير من القوى الداخلية في تلك الدول لم تنطل عليها وسائل الخداع الإعلامي الأميركي أو وسائل الإعلام المساندة له في ما يسمونه الدول المانحة. وتعرف تلك القوى أن تبرعات الدول المانحة لن تذهب لمصلحة الشعب العراقي بل ستكون تسديداً للعقود التجارية التي لن يستفيد منها أحد إلاَّ الشركات الأميركية الكبرى وحدها، وكل من يرتبط معها بالسمسرة أو المشاركة في الرأسمال أو الرشاوى من حكومات الدول المانحة أو هيئاتها الاقتصادية الأعضاء في اللوبيات المالية العالمية.
لن نلوم وسائل إعلام المشروع المعادي لأنها مستفيدة من الرشاوى التي تدفع إليها، أو لأنها بالأساس ممولة ومؤسسة كأحد الفروع الخادمة للشركات الكبرى.
أما ما نريد أن نتوجه بالملامة إليه فهو إلى وسائل الإعلام العربية والإنسانية والصديقة لأنهم، وإن استفادت البعض منها من رشاوى وأجور للإعلانات... فإنها تبيع قضاياها الوطنية والقومية بثلاثين من الفضة. فعلى تلك الوسائل التي قد تعود إلى ضميرها وإلى رشدها، يمكنها أن تفضح حقيقة مصطلحات الإعلام المعادي، وأن لا تسهم –بشكل أو بآخر من خلال استخدامها ببراءة تصل إلى حدود السذاجة- بخداع الرأي العام العربي والعالمي، وأن تسهم –بالتالي- في خداع الضمير العالمي.

ليست هناك تعليقات: